;
توفيق ألحميدي
توفيق ألحميدي

دول الشرق الأوسط هشاشة الاستقرار وسطوة النظام العالمي 227

2025-06-23 02:56:31

في قلب التحولات العاصفة التي يشهدها الشرق الأوسط، تتبدّى ملامح دول “حديثة التشكّل” مثل إيران وإسرائيل، إلى جانب معظم الدول العربية، كنتاج هندسي لقوى استعمارية أعادت رسم الخرائط بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. هذه الكيانات لم تولد من رحم تحولات داخلية طبيعية أو صيرورة تاريخية ناضجة، بل فُرضت حدودها ووظائفها ضمن إطار النظام العالمي الذي صاغته القوى الغربية المنتصرة بعد الحربين العالميتين، لتكون جزءاً من معادلة تخدم مصالح تلك القوى لا مصالح شعوبها.

في هذا السياق، جاء تأسيس الدول الحديثة في المنطقة على أنقاض إمبراطورية متداعية، وفي ظل تدخل مباشر من الاستعمار الأوروبي، الذي دعم قادة محليين وأعاد تشكيل السلطة بما يتناسب مع احتياجاته الجيوسياسية. لكن هذا التشكل القسري لم يسمح لهذه الدول ببناء مؤسسات قانونية وسياسية مستقرة، او هكذا اريد لها أن تكون دول بعيده عن التقاليد الديمقراطية، مضطربة بالانقلابات المتكررة، حيث جرى إغلاق المجال العام تحت ذريعة الحفاظ على الأمن الوطني. النتيجة كانت أنظمة عسكرية وهشة، تحكم شعوبا فاقدة للثقة في الدولة، ومحاصرة بين استبداد الداخل ووصاية الخارج.

إسرائيل مثلت استثناء، حيت زرعت لتمثل نموذجا صارخا لدولة حديثة التشكّل تعكس التطور السياسي والاقتصادي والعسكري والمؤسساتي الغربي، في مقابل وظيفة وضعت لها، كرأس حربة للمشروع الاستعماري في المنطقة. لم تأت نشأتها كنتيجة لتطور داخلي طبيعي أو حركة استقلالية وطنية، بل تأسست كجزء من معادلة دولية أُعدّت مسبقا، في دهاليز صناعة القرار الأوروبي، لتؤدي وظيفة محددة في خدمة النظام العالمي الذي صاغ شروط وجودها، ويحميها حتى اليوم سياسيا وعسكريا وإعلاميا.

ومن يتتبع مسار الأحداث التي سبقت إعلان هذا الكيان، خاصة في منطقة “سوريا الكبرى” – التي تضم فلسطين ولبنان وسوريا والأردن – يكتشف حجم التدخلات، والتفاهمات الدولية، والتهجير السكاني، والتواطؤات الإقليمية والدولية التي مهّدت الطريق لولادة هذا الكيان. هذه التفاصيل لا تكشف فقط عن طبيعة النشأة، بل عن الدور الوظيفي الذي لا تزال تلعبه إسرائيل حتى الآن في إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتناسب مع مصالح القوى المهيمنة.

ولذا، من يتابع تصريحات رؤساء ودبلوماسيين هذه الدول، خاصة إسرائيل، تجاه إيران وقبلها العراق وسوريا، يلحظ نبرة استعلائية تكشف عن منطق الوصاية لا الشراكة، وعن دور مرسوم سلفا في معادلة الهيمنة. فهم لا يتحدثون كقادة لدول ناضجة تحمل مشروعا حضاريا أو اخلاقيا، بل كأوصياء ينفذون أدوارًا أمنية موكلة إليهم ضمن هندسة النظام العالمي. ويتجلى هذا بوضوح في تعاملهم مع حرب غزة، حيث بدت إسرائيل مطمئنة تماما لتصرفاتها، وماضية في عدوانها دون اكتراث يُذكر بالمواقف الدولية، مستندة إلى دعم غير مشروط من القوى الغربية التي تشاركها نفس المنطق الوظيفي، وتمنحها الغطاء السياسي والعسكري دون مساءلة حقيقية.

اندماج هذه الدول - بما فيها العربية والإقليمية-في النظام العالمي لم يكن خيارا حرا، بل جاء مشروطا بمجموعة من الإملاءات السياسية والاقتصادية، تجعل من الاستقلال الشكلي غطاء لتبعية مستمرة. فقد خُصصت أدوار لهذه الدول ضمن السوق العالمي، ومُنعت من تطوير أنظمة مستقلة أو بناء ديمقراطيات حقيقية. على عكس التجربة الغربية، حيث نشأت الدولة الحديثة على أسس فلسفية وثورات اجتماعية ومؤسسات تطورت تدريجيا، وُلدت دول الشرق الأوسط في سياق استعماري وظيفي، جعلها أكثر عرضة للاهتزاز الداخلي، وأكثر ارتباطاً بالإرادة الدولية منها بالإرادة الشعبية.

هذه الهشاشة البنيوية لم تتوقف عند التأسيس، بل تجلّت في كل منعطف سياسي لاحق، حيث ظلت الدول الكبرى تتدخل في مسار هذه الكيانات، إما عبر دعم نخب بعينها أو من خلال العقوبات والضغوط الاقتصادية أو عبر الهيمنة الثقافية والإعلامية. وظلت النخب الحاكمة أسيرة لهذا التوازن المختل، تحكم باسم الاستقلال بينما القرار السيادي مرهون بمراكز نفوذ خارجية. ولم تكن التجربة الديمقراطية في هذه الدول إلا استثناءات هشة، تنهار سريعًا أمام أول اختبار أمني أو ضغط دولي.

هكذا، تبقى دول المنطقة حبيسة شروط نشأتها، تدور في فلك صراعات لم تصنعها، وتُقاد غالبًا بقرارات لا تعكس مصالح شعوبها. في المقابل، تقدم التجربة الغربية نموذجًا مغايرًا، حيث نشأت الدولة من الداخل، وتطورت بنظام مؤسساتي متماسك، يقوم على التراكم التاريخي والمساءلة والمشاركة. أما في الشرق الأوسط، فكل محاولة لبناء نموذج مستقل تواجهها قوى الإجهاض من الداخل والخارج، لتبقى الديمقراطية مؤجلة، والسيادة منقوصة، والاستقرار هشاً.

ما لم يتم تفكيك العلاقة المختلة بين هذه الدول والنظام العالمي، واستعادة المشروع الوطني الذي ينطلق من الإرادة الشعبية لا من خرائط القوى الكبرى، فإن هذه الكيانات ستظل عرضة للانهيار أو لإعادة التشكيل في كل دورة تاريخية جديدة. فالتاريخ ليس محايداً، ومن لا يملكه، يُكتَب له من الخارج.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد