أيام مرت على رحيله وما يزال الشاعر فؤاد الحميري حاضراً بمنتهى ألقه وفصاحته ومتواجد بكامل بهائه وأناقته يقاوم محاولات التغييب وحملات التشويه.

على طريقة الخالدين في العيش بعد الموت يواصل الحميري المقاومة متناغماً مع عنوان ديوانه "مقاوم مع سبق الاصرار".
يتساءل الإنسان أحياناً نتيجة ما يتركونه من تأثير وأثر بعد وفاتهم؛ هل حقاً يموت الشعراء !
أم أنهم بحسب جان كوكتو "يتظاهرون بالموت فقط" !
أم أنهم "يتحولون إلى دواوين شعر" كما تذهب الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي !
سيتعبون كثيراً من يظنون أنهم تخلصوا من الثائر والشاعر والمناضل فؤاد الحميري لأنهم سيجدونه ماثلاً أمامهم بروحه ملهماً في كل مجالات الأدب والشعر والفكر والتربية والنضال والمقاومة.
حكاية الحميري لا تنتهي بالموت وصفحته لا تطوى مع طي الكفن حول جسده والحديث عنه لن يتوقف بانتهاء مجالس العزاء وكلمات الرثاء ورسائل التأبين ومن المبكر جداً الحديث عنه بصيغة الماضي .
لم يعش الحميري حياة عادية كالتي عاشها ويعيشها شانئوه والناقمون عليه اليوم.
لم يحي فؤاد كيفما اتفق، ولم يكن يوماً زائداً على الحياة أو مجرد عابر سبيل بها .
لقد عاش الشاعر فؤاد الحميري ـ يرحمه الله ـ الحياة كما يجب، واستفرغ فيها غالب جهده واستنفد معظم طاقته وقدم جل ما لديه.
يموت الشعراء والكتاب تاركين خلفهم أحلاماً مؤجلة ومشاريع لم تكتمل وقصائد ناقصة وقصص وحكايا لم تروَ بعد.
بكل بسالة وجسارة ظل الحميري يقاوم الحياة والموت معاً، يقاوم المرض والجهل والمليشيات والفساد والتجاهل والنكران والخذلان .
لم يستسلم بسهولة ولم ينسحب من الجولة الاولى ولم يرفع الراية البيضاء أو يقبل بالهزيمة، بل ظل يقاوم حتى الرمق الأخير.
نسي الحميري أو تناسى مرضه وهو يرى الوطن يموت ويذبح على أيدي أعدائه وبعض أبنائه على حد سوا.
نسي الحميري وجعه وهو يرى وجع اليمنيين يتسع ويمتد ويكبر يوماً بعد آخر ولا من منقذ أو معالج.
تعايش مع مرضه وتسامى على جراحه وكبر على آلامه وتعالى فوق مستوى الوجع .
رحل الفؤاد في مقتبل العطاء وعز النضال وذروة المقاومة، تركنا عند منتصف الحلم وعلى مشارف البطولة ؛ دونما وداع .
لقد فشلت كل محاولات القمع والقهر من اسكات صوته والنيل من صلابته وتماسكه.
وحده الفشل الكلوي نجح اخيراً في اسكات صوته وهزيمته بعد جولات وجولات من الصراع والنزال.
وبينما كان المرض ينهش جسده النحيل كان الحميري يوزع العافية على الناس ويمنح السعادة لمن حوله و يعطي غيره ما يفتقده .
وليست مصادفة أن يظهر الحميري من غزة بعد موته مقاوماً لعمليات التجويع والتعطيش عبر مشاريع انسانية تحمل اسمه وصورته فقد نذر الرجل نفسه لقضايا شعبه وأمته.
مات شاعر المقاومة والثورة والقضية الفلسطينية في منفاه بإسطنبول بعد أن هجرته وللمفارقة جماعة الاسناد لغزة قسراً من بيته بصنعاء!
وحدهم العاديون من يعيشون حياتهم ويموتون دون حتى أن يشعر بهم أحد، دون أن يسمع بهم أحد ذلك انهم موتى على قيد الحياة .