تَمْثل في كل قطر من أقطارنا العربية، وفي كل بلد من بلادنا قضية، بل قضايا، غير أن قضية القضايا التي ارتفع لها عقير الصوت العربي كانت قضية فلسطين، وقد كنا كعرب ننادي بالأمس: لو بُعث لنا ملك لنقاتل لاسترجاعها وتحريرها.
وبالفعل تعالت بالأمس الخطب وراجت الشعارات، وانطلق التهديد والوعيد، وامتلأ الفضاء بمسميات تبهر الأسماع: دول الطوق، دول المواجهة، جبهة الصمود والتصدي، جبهة الرفض، رفض الرفض.. وكثرت الأسماء، ولكن بدون طالوت.
وهنا برز داوود محذراً من كل تلك المسميات (السواقي) وغير ذلك مما خفي خلف الصمت، وراح داوود يناشد الجميع ألا يشرب أحد من تلك السواقي المعروضة، فشربوا منها جميعهم، وفوق ذلك أجمعوا كلهم على ملاحقة داوود، ومطاردته، واستهداف قتله ومن معه، وتجريمه، فسوَّقوا وحرَّضوا عليه أبواقهم، متخلين عما كانوا ينادون به في الأمس من منازلة جالوت، وأن منازلة جالوت هي قضية القوم الأولى.
وفجأة، وبعد كل تلك التهديدات وذاك الوعيد الذي كان يتعالى تجاه جالوت، تغير الحال عقبا على رأس، فإذا بداوود الشقيق القريب قد غدا هو العدو! وأصبح جالوت العدو المخادع المحتال هو القريب الأقرب..!!
شرب القوم ـ إلا قليلاً منهم ـ من السواقي التي نُهوا عن الشرب منها، ولم يعد هناك طوق، ولا تصدي، ولا استمرار رفض، ولا رفض الرفض.
ومضى الذين شربوا يولولون قائلين: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وأوغلوا في موقفهم إلى نقطة أبعد من مجرد مهادنة جالوت، وفي الوقت نفسه أبعد من مجرد خذلان داوود..!!
وتناسى القوم ما كانوا يسمونه قضيتهم الأولى تماماً:
كأن لم يكن بين الحُجون إلى الصفا أنيس
ولم يَسمر بمكة سامر!
وربما كان الحال من بعضه؛ ففي بلد (السعيدة) وقع المجموع هنا فيما وقع فيه القوم هناك، فقضية تحرير السعيدة من مشروع الخرافة، والخرافيين، كأنه ـ ودعونا لا نجزم ـ لم تعد عند البعض هي القضية الأولى كما كان من قبل، ولا عاد مشروع السلالة الحوثية المتخلف هو المشكلة الأكبر، والمشروع الأخطر، وربما اتجهت سموم أقلام وتصريحات مفتراة توجه سهامها في الاتجاه الخطأ، ليس نحو كسرى ومليشياته، ولكن نحو سعد ومن معه؛ فصمود سعد وتضحياته تعطيه ميزة و تميزاً، وهذا ما يجب هدمه بالنسبة لهذه العقلية السطحية، وطمس أي أثر من مأثرة! مع أن سعداً لم يبَاهِ يوماً أو يفاخر بمواقفه أو تضحياته، ولا أنكر دور أحد. فهل يخشى (بعض) إخوة المواجهة أن يدعي أخ لهم باستحقاقات مواقفه وتضحياته ـ وهو ظن منهم وسوء تقدير ـ وبالتالي يرى هذا البعض أنه لا بد من تشويهه، والتشهير به، وتحجيمه، وحتى سحقه؟! وإلا ما معنى مسايرة التهريج، والحملات الإعلامية لمشروع الخرافة، أو الانضمام إلى تناولات حملة المباخر، وكتبة تقارير البهتان؟!
إن من يضع قضية تحرير اليمن السعيد هي القضية الأولى، لا ينبغي أن يوجه سهامه إلا في نحر كسرى ومرتزقته، لا نحو سعد ومجاهديه.
وإن من يتحدث عن هدف أسمى، فعليه أن يمضي لغايته بصدق، وإصرار، وألا تستدرجه إغراءات في الطريق، أو مناكفات الصبيان، أو أحلام المراهقين.