ما يُبقي الثورة حاضرة في وعي الأجيال هو ما تصنعه في حياتهم من تغيرات سياسية وتحولات اجتماعية، وتطور اقتصادي، ونهوض ثقافي، وعلمي ومعرفي.
وكانت ثورة 26 سبتمبر المجيدة قد نقلت البلاد من البؤرة المظلمة، التي حشر فيها الأئمة ونظامهم الكهنوتي الشعب، وأشبعوه ظلمًا وتخلفًا واستبدادًا، إلى المسار الذي يتحقق فيه هذا التحول في كل فروع الحياة.
وفي هذا المسار، الذي واجه الكثير من التحديات، تحقق ما كان بالإمكان أن يشكل قاعدة انطلاق لمزيد من التطور والنهوض الشامل للمجتمع، لولا أن هذه التحديات كانت قد استنزفت الكثير من الجهد والطاقة والإمكانيات، وسحبها إلى خارج دائرة هذه العملية التاريخية.
وعلى تواضع ما تحقق، مقارنةً بما تطلع إليه الإنسان في هذا البلد العظيم، إلا أن ذلك كان بحد ذاته كفيلًا بتعميق وشائج الثورة في وعي الشعب ووجدانه وعقله. فقدم التضحيات الكثيرة دفاعًا عنها حينما تعرضت للخطر، ووقف مساندًا لها حينما أخذت تتحول إلى دولة في ظروف بالغة الصعوبة، وقدم لها الدعم حينما أخذت أنظمة الحكم المتعاقبة تعيد إنتاجها في صور مختلفة من التشكيلات السياسية والمفاهيم الملغومة التي أخذتها بعيدًا عن أهدافها استجابةً لتقلبات السياسة والمصالح الأنانية، والمؤثرات الخارجية السلبية.
ظل الشعب متمسكًا بثورته، يتنفسها، ويستمد من أهدافها ومبادئها، وما يتحقق من تطور اقتصادي واجتماعي ومعرفي في حياته، الآمال العريضة التي لطالما حلم معها بأن النهوض لا بد أن يتحقق مع المدى بتحويل التراكم الكمي إلى تحول نوعي، باعتبار ذلك قانونًا موضوعيًا للعمليات الاجتماعية التاريخية. غير أن هذا التحول يتطلب استقرارًا سياسيًا لكي يتم في ظروف طبيعية وبدون أثمان باهظة.
ولذلك، وبسبب ما تعرض له هذا العنصر الحاسم من اختلالات، فقد كان الثمن الذي دفعه المجتمع لأي نهوض جزئي كان يتحقق في واقع الحياة كبيرًا جدًا، وكانت الكلفة التي قدمها من عرقه ودمه وعمله ضخمة بما لا يقاس، وهو ما مكن الثورة والجمهورية من الصمود في وجه الأعاصير وصور الخذلان المختلفة.
لقد ظل الشعب وفيًا لثورته بعد أن غدت معادلًا موضوعيًا للدولة التي ينشدها وللوطن الذي يتطلع إليه.
هذا الارتباط العضوي بالثورة له أسبابه القوية، وهي التي جعلت من الثورة عند هذا الشعب قيمة من قيم الحياة التي تتجسد معانيها في حريته وكرامته واستقراره وتطوره ونهوضه. إن الثورة عند الشعب، بهذا المعنى، هي استمرار لكفاحه وتواصل مع نضاله من أجل بناء وطن مستقر ومتقدم، ومهما تعرضت للانكسار، أو التخريب أو لانتزاعها من الواقع الذي تتحرك فيه لتغييره، ولا تفهم إلا به، فإنها تظل حاضرة في الوعي، وتنتقل من جيل إلى جيل، وتبقى جديرة للاحتفاء بها ليس من باب الوفاء فحسب، ولكن من باب الحاجة إليها كمسار لا غنى عنه لبناء الوطن، وهذا ما يجب أن ينقل إلى جيل اليوم الذي بعدت بينه وبين الثورة المسافة، وهي مهمة ما أصعبها من مهمة.
سبتمبر مجيد وكل عام وأنتم بخير.