في حيٍّ من أحياء مدينة تعز، وقف يحيى المطري أمام بيته الذي استعاد مفاتيحه بعد عشر سنوات من النزوح. كانت الجدران مثقوبة بالرصاص، والحديقة التي كانت تزهر في الربيع صارت أرضًا يابسة. حمل المفتاح بيده المرتجفة وقال: "البيوت يمكن أن تُرمَّم، لكن النفوس لا تُرمَّم بسهولة."
قصة يحيى ليست مجرد مأساة شخصية، بل استعارة لوطنٍ بأكمله يحاول أن يعبر من ضفة الحرب إلى ضفة السلم. فاليمن اليوم يقف على جسرٍ هشٍّ من العدالة الانتقالية، جسرٍ يُبنى وسط العواصف، يربط بين ماضٍ مثقلٍ بالانتهاكات وصدمات الخوف، ومستقبلٍ مأمولٍ يحلم بالإنصاف والمصالحة.
يقول خبراء العدالة الانتقالية إنها ليست شعارًا سياسيًا عابرًا، بل عملية وطنية دقيقة ومعقدة لبناء توازنٍ بين طرفين متقابلين: الضحايا الذين يبحثون عن بُعدٍ معياري يتمثل في العدالة الناجزة وجبر الضرر الذي لحق بهم والاعتراف بالجرائم التي ارتُكبت بحقهم، بينما السياسيون يذهبون في اتجاهٍ آخر نحو بُعدٍ براغماتي يهدف إلى تحقيق استقرارٍ يضمن العبور دون العودة إلى العنف، ولو على حساب تطلعات الضحايا. وهذا العبور يحتاج إلى رجالٍ ونساءٍ يمتلكون شجاعةً وطنية وعمقًا معرفيًا بالمجتمع وتاريخه، ويقرؤون الحاضر بعينٍ ترى المستقبل.
تتمثل العدالة الانتقالية كبنيةٍ معرفية في منظومةٍ سياسيةٍ قانونيةٍ حقوقيةٍ متعددة الأضلاع: كشف الحقيقة، الإنصاف للضحايا، وجبر الضرر للمتضررين، وإصلاح المؤسسات والقوانين لتكون بمستوى المرحلة الجديدة، وضمان عدم تكرار الحروب والانتهاكات. هذه الأضلاع المعرفية تشكل إطارًا فوقيًّا متفقًا عليه عالميًا، سواء لدى خبراء العدالة الانتقالية أو أدبيات الأمم المتحدة. لكن "خلطة" العدالة التي يُرجى في القالب المعرفي منها ترميم الخراب الذي أحدثته الحروب أو عدم الاستقرار، تختلف باختلاف ثقافة المجتمعات المحلية وعاداتها وأعرافها وطبيعة الصراع القائم. وهذا ما يقدّم لنا تفسيرًا لهذا التنوع في التجارب من الأرجنتين إلى تشيلي، ومن نيبال إلى سيراليون إلى رواندا، ثم المغرب. ففي دول أمريكا الجنوبية كالبرازيل وتشيلي والأرجنتين هدفت العدالة إلى كسر طوق الأنظمة العسكرية المحكمة على البلدان، وفي رواندا جاءت لتجسّد عدالة المنتصر من خلال المحاكم الشعبية "الغاتشاتشا"، أما في جنوب إفريقيا والمغرب فكانت سبيلًا لإعادة تعريف "المجموعة الوطنية" بعد أن تمزقت بفعل الانقسام.
ورغم التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية في أي بلد، ومحدودية الأهداف التي يمكن تحقيقها، خاصة للضحايا، تبدو العدالة الانتقالية اليوم خيارًا إجباريًا أكثر منها مسارًا طوعيًا، منذ أن فرضت حضورها كإطارٍ سياسي وقانوني لوقف الحروب في الدول التي شهدت حروبًا أهلية أو لإنهاء وضعٍ غير مستقرٍّ تُمارَس فيه الانتهاكات على نطاقٍ واسع. بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت المجتمعات تبحث عن آلياتٍ جديدة تجمع بين التعافي بعيدًا عن فخّ الانتقام أو الانهيار السياسي، وبين المحاسبة للجناة وإعادة بناء الثقة المجتمعية. ومع مرور العقود، تحولت العدالة الانتقالية من تجربةٍ وطنيةٍ محدودة إلى مسارٍ دولي مدعوم بالتزاماتٍ قانونية وحقوقية، وأصبحت جزءًا من منظومة القيم والآليات التي تعتمدها الأمم المتحدة في دعم الانتقال نحو السلام والديمقراطية، بحيث لم تعد ترفًا سياسيًا، بل أحد متطلبات الشرعية الدولية الحديثة.
يدرك الجميع أن العدالة الانتقالية في نهاية المطاف ليست مجرد محاكماتٍ جنائية أو تعويضاتٍ مادية أو معنوية، بل منظومة متكاملة تسعى إلى ترميم المجتمع بعد الجريمة، وبناء عقدٍ اجتماعيٍّ جديد يعيد صياغة العلاقة الأفقية بين أبناء المجتمع بعد أن تحطمت المشتركات الجامعة في زمن الحرب، والعلاقة الرأسية بين المواطنين والحاكم، وتلافي أسباب القصور التي دفعت نحو الحرب الأهلية أو الاستبداد. إنها محاولة لإعادة تعريف من نحن، ولمن ننتمي، وكيف يمكن أن نبني مستقبلًا دون أن نحمل رماد الماضي في حقائبنا.
لكن بناء هذه المعادلة المتوازنة أمرٌ بالغ الصعوبة، خاصة حين تظل قوى الماضي نافذة في الحاضر. ما لم تكن هناك ثورة ناجزة أو حاكم قوي يفرض "عدالة المنتصر" ضمن قالبٍ انتقالي كما حدث في رواندا، فإن العدالة الانتقالية قد تتعثر أو تبطئ خطواتها، وأحيانًا تُكبَح اندفاعتها حين تشعر بمن يدفعها إلى الوراء كما حدث في تشيلي والأرجنتين. كما أن التحديات المالية للتعويض وطول المحاكمات لبعض الشخصيات قد يتحول إلى إرهاقٍ نفسي ثم يأسٍ اجتماعي، يُترجَم في نفوس الضحايا إلى شعورٍ بالخذلان، إذ يرون العدالة التي وُعِدوا بها تتراجع أمام مقتضيات التوازن السياسي وضعف الإمكانيات. لذا لجأت دول مثل جنوب إفريقيا إلى المخزون الروحي والديني في تحفيز المجتمع للاستمرار في نهج المصالحة والبوح.
ولذلك، من المهم أن يكون لدينا وعيٌ عميقٌ بصدمات هذه المرحلة، وأن نميّز بين الشعارات والواقع. فقراءة التجارب تكشف أن المحاسبة أو جبر الضرر أو حتى كشف الحقيقة لبناء ذاكرةٍ جماعيةٍ وتحرير سرديةٍ لمرحلة الصراع ليست مهام سهلة؛ بل تعترضها عقباتٌ إجرائية ومادية ونفسية عديدة. وغالبًا لا تتعدى المحاسبة الجنائية نطاق أشخاصٍ معدودين، كما في ألمانيا الشرقية وبولندا والبرازيل، بينما يحتاج جبر الضرر إلى موارد مالية تفوق قدرة الدولة، فضلًا عن صعوبات الوعي الجمعي الذي لا يتعافى سريعًا من صدمات الحرب. فهذا الوعي — إدراك المجتمع لثقل الماضي وخشيته من تكراره — يشكل ضمانةً لعبور المرحلة وإن كان مترنحًا. فالعدالة الانتقالية ليست معادلة ميكانيكية، بل رحلة نفسية قاسية تحتاج إلى إعدادٍ مجتمعي ونفسي يفهم أن العدالة ليست انتقامًا بل شفاءً. ففي أبسط الأشياء من منظورنا، وهو البوح، قد نجد تحدياتٍ نفسيةً معقدة، حيث يشعر الضحية أن الحديث عن الماضي نوعٌ من الألم والوجع الذي يريد تجاوزه.
واجبنا اليوم أن نهيئ المجتمع لمعنى هذه المرحلة وتحدياتها، وأن نغرس فيه روح الانخراط الإنساني في بنائها. فالعدالة الانتقالية ليست مجرد ملفٍّ سياسي، بل مشروعٌ أخلاقي وإنساني لترميم الذات الوطنية الممزقة. وغالبًا ما يُقال إن أهدافها لا تكون وطنيةً فحسب، بل إنسانية أيضًا، لأنها تمس جوهر الإنسان في بحثه الدائم عن الكرامة والإنصاف والمصالحة مع ذاته وتاريخه.
فالعدالة الانتقالية لا تُبنى داخل المكاتب ولا تُصاغ فقط في النصوص القانونية، بل للنقاش العمومي دورٌ محوري في ترسيخ الوعي والضغط نحو تطوير العدالة، كما حدث في تشيلي والأرجنتين، حيث كان للحوار المفتوح والإعلام والمجتمع المدني دورٌ حاسم في كسر الصمت ومواجهة إرث الانتهاكات. هذا ما نعمل عليه اليوم في مشروع "سبارك" المموَّل من معهد "دي تي"، الذي يسعى إلى توسيع مساحة النقاش العام حول العدالة الانتقالية في اليمن، وتمكين الضحايا والمجتمعات المحلية من المشاركة في صياغة رؤيتهم للعدالة والمصالحة قبل الدخول فيها سياسيًا. فالعدالة الانتقالية شأنٌ وطنيٌّ جامع، لا يُدار من فوق، بل يُبنى من خلال مشاركة جميع الأطراف والمكونات دون إقصاء، لأن غياب أي صوتٍ من أصوات المجتمع يُضعف شرعية العبور نفسه.
فلا يمكن بناء عدالةٍ انتقاليةٍ تتوافق مع الأهداف الوطنية العليا للدولة في حال اختزالها وإخضاعها كاملًا للإرادة السياسية، إذ يصعب بناء الثقة دون مشاركة الضحايا والقوى الاجتماعية. ولا مشروعَ وطنيًّا شاملًا لإعادة بناء الثقة والمجتمع والدولة دون تفاعل الجميع والاستماع لجميع الأصوات. وهذا الطريق هو الذي يؤسس لتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى المتمثلة في حفظ السلم الأهلي، وتعزيز الوحدة الوطنية، وبناء مؤسسات دولة القانون، وتحقيق المصالحة والمواطنة المتساوية، ومنع تكرار الانتهاكات. ومع ذلك، لا يجوز أن تتحول هذه الأهداف إلى ذريعةٍ لتجاوز العدالة أو تبرير الإفلات من العقاب باسم "المصلحة الوطنية"، لأن ذلك يُفرغ العدالة الانتقالية من مضمونها الحقوقي والأخلاقي. فالعدالة الانتقالية في جوهرها جزءٌ من الرؤية الوطنية العليا، وليست أداةً في يد السلطة. فهي تتوافق مع الدولة في الغايات مثل الاستقرار والسلم والتنمية والكرامة، لكنها تحافظ على استقلالها في الوسائل من خلال التمسك بالحقيقة والمساءلة وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي، بوصفها الضمانات الحقيقية لعبورٍ آمنٍ نحو المستقبل.
وفي اليمن، تبدو هذه المعادلة أكثر إرهاقًا وتعقيدًا. فالحرب الطويلة لم تترك مؤسساتٍ فاعلة، والذاكرة الوطنية موزعة بين سلطاتٍ متعددة، كلٌّ منها يكتب روايته الخاصة، إضافة إلى وجود أطرافٍ غير محليةٍ متحكمة بالمشهد السياسي وتدير بعض الأطراف والتشكيلات المسلحة. كما أن التعبير السياسي عن هوياتٍ محلية جعل للصراع أبعادًا متداخلة. لكن مقابل ذلك، هناك مجتمعٌ محليٌّ مشتاقٌ لتوقف الحرب وتطبيع الحياة اليومية، دون حسابات السياسيين والأطراف الخارجية المحركة لها. لقد كشفت مبادراتٌ محلية عديدة، مثل برامج إعادة المنازل المنهوبة في تعز، ولجان المصالحة فيها، والجهود الحقوقية لتوثيق الانتهاكات، أن المجتمع اليمني يمتلك قابليةً عالية للمصالحة إذا وجد الاعتراف والاحترام. هذه التجارب الصغيرة تشكل اللبنات الأولى لجسرٍ طويلٍ من العدالة، جسرٍ يعبر به اليمنيون من الذاكرة إلى الأمل.
إن مستقبل اليمن لن يُبنى فقط بإعادة الإعمار المادي، بل بإعادة الإعمار الأخلاقي والوجداني. فكل ضحيةٍ تروي قصتها، وكل ذاكرةٍ تُحفَظ، وكل أمٍّ تعرف أن ابنها لم يُنسَ، هي خطوة في طريق العدالة. فالعدالة الانتقالية ليست وعدًا بالمثالية، بل وعدٌ بالعبور. عبورٌ من زمن الخوف إلى زمن الوعي، من دولة الحرب إلى دولة الإنسان. قد يكون العبور مترنحًا، لكنه الطريق الوحيد نحو يمنٍ يتصالح مع ذاكرته، ويستعيد كرامته، ويؤسس سلامه على أساسٍ من العدالة لا النسيان.