تأخير صرف رواتب الموظفين والجيش لم يعد خللًا إداريًا أو أزمة مالية مؤقتة، بل أصبح جريمة حرب مكتملة الأركان تُرتكب بوعيٍ وتعمّد، ضد شعبٍ أنهكته الحرب وفتكت به الأزمات.
إن عدم صرف الرواتب لخمسة أشهر متتالية ليس مجرد إهمال، بل فعلٌ يقتل ببطء، يطعن في صميم حياة ملايين اليمنيين الذين يعيشون اليوم بين جوعٍ وصمتٍ وقهرٍ وخذلان.
تخيلوا هذا المشهد من بين آلاف المشاهد المؤلمة اليومية:
طفل يطرق باب أحد الجيران بخجل، يحمل قلصًا صغيرًا بين يديه.
يفتح الرجل الباب، فيهمس الطفل بصوتٍ مرتجف:
• "يا عمّو... أمي رسلتني تدو لنا شوية سكر... أو حبة طماط... أو شوية طحين..."
يقف الرجل متجمّدًا، عيناه تدمعان. يردّ بصوتٍ متقطع:
•• "انتظر يا بطل..."
يدخل إلى البيت مناديًا زوجته:
•• "يا مره، هذا ابن جارنا جاء يشتي شوية سكر أو طحين..."
تجيبه الزوجة بيأس:
• "يا رجال، ما بش معانا لا سكر ولا طحين، لنا يومين ناكل رز بالمويه، والغاز باقي له يومين ويخلص..."
يتنهد الزوج قائلاً:
•• "يا مره، هذا ابن فلان... ما قدرت أقله ما بش معانا. ابسري شوفي المطبخ، خذي نص اللي معانا..."
تردّ الزوجة بحسرة:
• "ما بش إلا كيلو رز بين أخلها للعيال ولنا... عادك تشتي نقسمه نصين؟ البقالة ما عد ترضى تدينا دين..."
فيصرخ الرجل أخيرًا وهو يغلي بالوجع:
•• "خذي نص الرز وسيري بنفسك، وفهميها أننا ما بش معانا... الله يلعنها حكومة ما صرفت رواتبنا، لا للموظفين ولا للعسكر... خمسة أشهر وإحنا على هالحال!"
هذا المشهد ليس استثناءً...
بل هو صورة مصغّرة لمأساة وطنٍ بأكمله:
جنودٌ على الجبهات بلا مرتبات...
موظفون بلا قوتٍ ولا دواء...
أمهاتٌ تخلطن الدموع بالدمع لتخبز الأمل لأولادهن.
إن وقف صرف رواتب الموظفين والجيش جريمة لا تُبرر تحت أي ذريعة،
فمن يحرم الجندي الذي يحرس الوطن من حقه في الراتب،
يقتل الوطن وهو يبتسم.
ومن يحرم الموظف الذي يداوي، ويعلّم، ويخدم،
يطفئ آخر ما تبقى من روح الدولة.
أضع هذا المشهد أمام رئيس مجلس القيادة الرئاسي وأعضاءه، ورئيس الحكومة ووزرائه،
ليعلموا أن صمتهم تواطؤ، وتبريرهم جريمة،
وأنهم اليوم شركاء في مجزرة جماعية بحق الشعب والجيش معًا.
إنهم يقتلون الناس جوعًا، ويقتلون معنويات الجيش بالإهمال،
ويخدمون الأعداء من حيث يظنون أنهم يحكمون.
لقد أصبح الجميع أعداء هذا الشعب:
المليشيات الانقلابية التي ترفع شعار الولاية،
والكانتونات المسلحة التي تمزق الوطن،
والحكومة التي تعيش في الغيبوبة،
ومجلس القيادة الذي يغط في سباتٍ عميقٍ بينما الجنود على الجبهات بلا رواتب،
والشعب بلا حياة.
يا من تتربعون على مقاعد السلطة باسم الشرعية،
أنتم اليوم تغتالون الوطن بصمتٍ إداريٍّ بارد.
الراتب ليس مِنّة، بل حقٌّ مقدّس.
ومن يعجز عن الوفاء بحقّ الجندي والمعلم والطبيب والموظف،
فالأشرف له أن يستقيل قبل أن يُسجَّل في التاريخ كشريكٍ في جريمة اغتيال وتجويع شعبٍ بأكمله.