;
د.ياسين سعيد نعمان
د.ياسين سعيد نعمان

اليسار .. وعلم الاجتماع 441

2025-10-30 09:57:46

علم الاجتماع هو علم كاشف للمجتمعات البشرية بكل ما يتعرض له من سلوك وظواهر ونشوء وتطور، بما في ذلك الصراعات المرتبطة بالثروة والجاه والسلطة والصراع بين الطبقات الاجتماعية.

shape3

انفصل علم الاجتماع عن الفلسفة، كما هو حال بقية العلوم الإنسانية الأخرى، وتأسس كعلم مستقل على يد العالم الفرنسي دوركايم عام ١٨٩٥، أي بعد حوالي قرن من تأسيس علم الاقتصاد على يد آدم سميث عام ١٧٧٦ في كتابه الشهير "ثروة الأمم". فهو علم حديث بالمقارنة مع الاقتصاد والفلسفة والمنطق والطب وبقية العلوم.

وبينما يتناول الاقتصاد حاجة الإنسان المادية وكيفية تحقيقها، فإن علم الاجتماع يتناول سلوكه، وعلاقة ذلك بالاقتصاد والعمل والدين والعلاقات الاجتماعية والسياسة وصراع الطبقات.

ولا يوجد نظام سياسي معاصر سواء كان رأسماليًا أم اشتراكيًا أم هجينًا، متطورًا أو متحولًا أو ناميًا، لم يدرك القيمة الحقيقية لعلم الاجتماع في تحليل الظواهر الاجتماعية للاستدلال بأبحاثه ونتائجه في قياس تأثير القرار السياسي والاقتصادي على المجتمع، ومستوى التطور، أو التغيير الذي حدث بين تكوينات المجتمع وطبقاته المختلفة، سواءً فيما يتعلق بمعرفة حدة التناقضات الاجتماعية، أو قياس الموازين الانقلابية لظاهرة سيرورة التراكم الكمي إلى تحول نوعي لمنع الاختلالات الاجتماعية الكبيرة التي قد تصيب المجتمع إذا لم يُحكم هذا التحول بضوابط قانونية وأخلاقية.

غير أن الأدوات المستخدمة في تحقيق هذه الوظيفة في الواقع الاجتماعي تختلف من حيث القوة والتأثير لارتباط ذلك بالتطور الاقتصادي والمعرفي والتقني، ناهيك عن الخيال والشغف عند القادة، والذي يوظف بصورة مبدعة في هذا الميدان.

والحقيقة أن علم الاجتماع شهد كثيرًا من الاختلاف بين الفكر الاشتراكي والفكر الرأسمالي شأنه شأن الاقتصاد وغيره من العلوم وخاصة الإنسانية منها.

ففي الفكر الرأسمالي، الذي يرى أن الفرد هو أساس المجتمع، تأسس علم الاجتماع وفقًا لذلك بقواعد انتظمت في إطارها العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وهدف من ثم إلى تحقيق التوازن بين المصالح الاجتماعية للأفراد، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي دون أي تغيير في واقع الطبقات الاجتماعية. أي التعايش، والقبول بهذا التعايش، بالرغم من الفوارق الاجتماعية، بمعنى أنه اهتم بتحليل الظاهرة وعمل على تبريرها، والتمسك ببقاء الواقع والموازين المتحكمة في علاقاته الداخلية دون تغيير، وترك عملية التطور تتم بصورة طبيعية.. أي أن علم الاجتماع في الفكر الرأسمالي يهتم بمفاهيم عامة لتطور المجتمع ولا ينشغل بتغييره، وقد يقدم حلولًا لترشيده لا لتغييره، أي أنه لا يصطدم بالنظام القائم.

علم الاجتماع في الفكر الاشتراكي ينطلق من حقيقة أنه يركز على الطبقات الاجتماعية وما تمر به من صراعات في كل تشكيلة من التشكيلات الاجتماعية التي عرفتها البشرية. وهو يكشف علاقات الاستغلال، وعدم المساواة الناتجة عن هذه العلاقات التي تقسم المجتمع إلى مالكين ومستخدمين، فقراء وأغنياء. وعلم الاجتماع هنا لا يقوم فقط بتحليل المجتمع وإنما بالدعوة إلى تغييره لصالح الطبقات الفقيرة، وبالذات لصالح القوى المنتجة، وخاصة العمال. وهو يقدم أسبابًا ومبررات التغيير.

القول بأن اليسار ليس لديه اهتمام بعلم الاجتماع قول يحتاج إلى تحليل واقعي يفرق بين نقد المنهج الذي يقوم عليه علم الاجتماع في التجارب الاشتراكية، أو اليسارية، وهذه مسألة مبررة علميًا ومنطقيًا، أي نقد الفكرة لا إلغاء وجودها، وبين القول بأن التجارب الاشتراكية واليسارية عمومًا، بما في ذلك تجربة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، أهملت علم الاجتماع خوفًا من كشف واقعها الاجتماعي.

والحقيقة أن الباحث المجتهد في هذا الميدان يجب ألا يفوته أن هذا البلد عندما استقل كانت فيه ثلاث مدارس ثانوية فقط وكلها في مدينة عدن، ولا يلتحق بها سوى ١٠٪؜ من مخرجات المرحلة الإعدادية. وأن التعليم الجامعي لم يتأسس بصورة منتظمة إلا في منتصف السبعينات، حيث أعطيت فيه الأولوية لتخصصات مثل الطب والهندسة والعلوم والحقوق، وأنشئت بعد ذلك كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وكان علم الاجتماع يُدرس ضمن فروع العلوم الإنسانية الأخرى. ولم تتمكن جامعة أن تعتمده كتخصص مستقل في ذلك الوقت المبكر لتأسيسها، ولم يكن ذلك بسبب موقف سياسي أو أيديولوجي، ولكن لأسباب تنظيمية بحتة شرحها لنا في مجلس الوزراء وزير التعليم الدكتور سالم باسلم عام ١٩٨٨ عندما أُثير موضوع تطوير كلية الآداب في الجامعة بما اشتملت عليه من تخصصات علوم إنسانية، وأخذ بعض الدكاترة المتخصصين في علم الاجتماع يطالبون بإنشاء قسم متخصص لعلم الاجتماع أسوة بفروع كلية الآداب الأخرى. في تلك الفترة ولسنوات عديدة سابقة كان علم الاجتماع، كما ذكرنا آنفًا، يُدرس في الكلية كمقررات ضمن تخصص الفلسفة، وعلم النفس، والإعلام، والاقتصاد. وأتذكر أن أحد الوزراء جادل وزير التعليم في سياق حماسه لإنشاء تخصص لعلم الاجتماع متسائلًا أيهما أهم الفلسفة أم علم الاجتماع، فرد عليه كانت الفلسفة أم العلوم، ثم أصبحت خالة بسبب انشقاق كثير من العلوم منها، وقدك تشتي تحولها إلى طبينة. واتخذ المجلس قرارًا أوصى بموجبه وزير التربية ومجلس الجامعة بتطوير كلية الآداب، ومن ضمن ذلك توفير الشروط الضرورية لإنشاء قسم خاص بعلم الاجتماع. وهو الأمر الذي تحقق بعد ذلك بسنتين تقريبًا بعد أن توفرت للجامعة شروط وعوامل تحقيق ذلك.

القول بأن الفكر الاشتراكي له موقف سلبي من علم الاجتماع مسألة تحتاج إلى بحث منهجي لا إلى موقف سياسي يبحث عن أدلة لفشل تجربة اليسار ومنها القول بإهمال علم الاجتماع.

صحيح أن الفكر الاشتراكي كان في بداية عهده ينظر إلى علم الاجتماع كعلم برجوازي، لكنه لم يلبث أن استخلص علمًا للاجتماع يستند إلى ما قدمه المفكرون الاشتراكيون من مفاهيم للتطور الاجتماعي بالاستناد إلى المادية التاريخية، ثم تطور على أيدي مفكرين اشتراكيين ويساريين لاحقًا، حيث أخذ علم الاجتماع يتبلور من خلال التركيز على العلاقات والظواهر الاجتماعية الكبرى، وربط تغيرها بما يحدث من تطور في قوى الإنتاج، وأهمل إلى حد كبير سلوك الفرد وتأثيره في إنتاج الظاهرة الاجتماعية، لأنه نظر إلى سلوك الفرد على أنه انعكاس للوعي الاجتماعي عمومًا، والذي يتحقق في علاقته بالتطور العام، المادي والروحي معًا. أي أنه انعكاس للواقع الاجتماعي، ولذلك فإنه لا يمكن تقييمه ككيان مستقل. فمهمة علم الاجتماع وفقًا لذلك لا بد أن تبدأ من الكل وصولًا إلى الجزء.

اختلف علماء الاجتماع وفقًا لمرجعياتهم النظرية والفكرية، تقاطعوا في جزئيات واختلفوا في كليات، والجدل حول هذا الموضوع مستمر، وسيستمر باعتباره علمًا حيويًا يرتبط ارتباطًا مباشرًا بتطور الإنسان والمجتمعات البشرية.

غير أن ما يجب الإشارة إليه هنا هو أن ما تعرض له علم الاجتماع من تقزيم لوظيفته الحقيقية ككاشف للواقع الاجتماعي ومحرض على تغييره وتطويره باستمرار هو ما دفع البعض إلى بناء نموذج براغماتي مبسط، ومخل بهذه الوظيفة، لتقييم العلاقة بالمجتمع، وهو النموذج الذي يعتمد على أدوات اتصال لتلبية مؤقتة لحاجات اجتماعية متجذرة بواسطة جمعيات خيرية وغيرها من الأدوات الخيرية التي غالبًا ما يكون هدفها هو الوصول السياسي إلى قلب المجتمع لا لتغييره وإنما لجره إلى المشروع السياسي الذي يقف وراء فعل الخير. والحقيقة أن هذا النموذج يشكل فيه البعد السياسي معادلة الموضوعي البعد الأخلاقي. وعلى الرغم من تلبية بعض الحاجات، إلا أنه لطالما لعب هذا النموذج دورًا سلبيًا في إخماد تفاعلات المجتمعات بتبريد انفعالاتها تجاه أنظمتها السياسية بسبب ما تعيشه من بؤس وإفقار.

كما أن تفريغ الصراعات السياسية من أسبابها الحقيقية وملؤها عوضًا عن ذلك بغياب تدريس علم الاجتماع عند الطرف المهزوم، كما حدث مع الحزب الاشتراكي عند من يعزون سبب هزيمته في حرب ١٩٩٤، بمن فيهم بعض قيادات الحزب، إلى ذهابه إلى مجتمع لا يعرف عنه شيئًا، مسألة تحتاج إلى تدقيق في فهم طبيعة الصراع يومذاك. فقواعد هذا الحزب ومناضليه ونشطاءه كانوا جزءًا أساسيًا في البنية السياسية والاجتماعية لليمن من أقصاه إلى أقصاه، بل كانوا متجذرين في هذه البنية وجاءوا من أعماقها، ومع ذلك ليس من الخطأ القول إنه ذهب إلى مجتمع لا يعرف عنه الكثير عندما يتعلق الأمر بتحالفات القوى السياسية والاجتماعية والتغيرات في مواقفها بتأثير المصالح التي تعيد إنتاج أسوأ في الموروث اليمني من ثقافة سياسية لا تستقر على حال. وهي مسألة لا ينفع معها علم الاجتماع ولا كل العلوم الطبيعية والإنسانية. حالة يتفرد بها اليمن وإلا لما خذلت الجمهورية على ذلك النحو الذي سارت عليه الأمور، والذي ارتفع فيه صوت مطرقة التغيير وخفت فعلها في الواقع.

غير أن هذا لا يعفي اليسار من موقفه السلبي وفشله في إيجاد وسائل اتصال بالمجتمعات على النحو الذي ينسجم فيه مع نموذجه الذي يكون فيه التواصل عنوانًا لرؤية تعكس برنامجًا للتغيير لا مجرد تلبية حاجة لأسباب سياسية انتهازية مؤقتة. كما أن التغيرات الدرامية التي حلت بالمرجعيات الفكرية، والمراجعات النظرية التي لم تستقر عند رؤية تستخلص منها برامج عمل، ميزت اليسار في تعاطيه مع محتوى العلوم الإنسانية، بما في ذلك علم الاجتماع، وشكل هذا القصور الواضح، والذي بدا معه اليسار وكأنه يعيش حالة من العزلة التي لم يشفع له انحيازه لقضايا المجتمع أن يتجاوزها بسبب غياب أدوات الاتصال تلك. وهو موضوع سيتم تناوله على نحو أشمل لاحقًا.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد