في لحظةٍ فارقة من تاريخ اليمن، تتكثّف محاولات تمرير ما يُعرف بـ”خارطة الطريق” باعتبارها مدخلًا لتسويةٍ سياسية شاملة.
غير أن جوهر الإشكالية لا يكمن في مضمون هذه المبادرة أو شعاراتها، بل في الجهة التي تزعم امتلاك الحق في المصادقة عليها وتمثيل الإرادة الوطنية بشأنها.
فمن حيث المشروعية الدستورية والقانونية، لا يمتلك مجلس القيادة الرئاسي – بوصفه سلطةً انتقالية محدودة الصلاحيات – حق التصديق على أي اتفاقٍ سياسي ذي طابعٍ مصيريٍ يمسّ شكل الدولة أو بنيتها الدستورية أو التزاماتها السيادية.
ذلك أن المجلس أُنشئ بقرارٍ سياسي مؤقت لإدارة مرحلة انتقالية محدودة المهام، وليس بوصفه سلطةً تأسيسية أو جهةً مفوّضة من الشعب لتقرير مصير الدولة.
•• الحدود الدستورية للصلاحيات
تُحدّد الشرعية الدستورية في أي نظامٍ سياسي بمصدرها، وهو الشعب صاحب السيادة، لا السلطات المؤقتة أو المجالس الانتقالية التي تنشأ في ظروف استثنائية.
وبالتالي، فإن أي خطوة تتعلق بخارطة طريق تمسّ شكل الدولة، أو تفرض التزامات جديدة تتجاوز صلاحيات المرحلة، تُعد تجاوزًا صريحًا للدستور واغتصابًا لاختصاصٍ سياديٍ لا يملكه سوى الشعب نفسه، عبر مؤسساته المنتخبة أو من خلال استفتاءٍ شعبي عام.
كما أن مجلس النواب الحالي لا يمتلك – من الناحية الواقعية – مشروعية التمثيل الكامل لغياب الانتخابات وتجمد الحياة السياسية وتآكل الشرعية الانتخابية، ما يجعل أي تصديق أو موافقة يصدرها المجلس في هذا السياق فاقدًا للسند الدستوري الحقيقي.
•• البعد السياسي والمسؤولية الوطنية
تُدرك القوى الوطنية أن ملف خارطة الطريق ليس مجرد مسألة إجرائية أو اتفاق إداري بين أطراف سياسية، بل قضية وطنية تمسّ توازنات الدولة ومستقبلها وهويتها السياسية.
ولذلك فإن أي جهة تقدم على التوقيع أو المصادقة دون تفويض شعبي واضح، تتحمل مسؤولية سياسية وتاريخية جسيمة، لأن التنازل عن الصلاحيات الدستورية أو التوقيع باسم الشعب دون تفويضٍ منه، يُعد خروجًا على مبدأ السيادة الشعبية ومساسًا بشرعية الدولة ذاتها.
إن دماء أكثر من نصف مليون يمني قُتلوا في الحرب، وملايين الجرحى والنازحين والمشردين، ليست مجرد أرقامٍ في تقارير المنظمات الدولية، بل أمانةٌ في أعناق كل من يتحدث باسم الدولة أو يقرر مصيرها.
ولذلك، لا يجوز أن يُختزل كل هذا التاريخ من التضحيات في “تفاهمات مغلقة” أو اتفاقاتٍ تُعقد في غرفٍ معزولة عن إرادة الناس، تسعى في حقيقتها إلى إعادة تأهيل جماعةٍ متمردة وإضفاء الشرعية على كيانٍ مصنفٍ إرهابيًا على المستوى الدولي — جماعة الحوثي.
إن أخطر ما في هذه الخارطة ليس ما يُعلن منها، بل ما يُخفى وراءها من محاولةٍ لشرعنة جماعةٍ قامت على الانقلاب والسلاح والطائفية، وتسببت في تدمير مؤسسات الدولة وتمزيق النسيج الوطني.
وكل من يوقّع على خارطة طريق تمنح هذه الجماعة شرعية سياسية أو قانونية، إنما يوقّع على تفكيك الدولة وتكريس نموذج المليشيا كبديلٍ عن النظام الجمهوري ومبدأ سيادة القانون.
•• التحذير من الانزلاق السياسي
إن أي محاولة لتمرير خارطة طريق دون العودة إلى الشعب، أو دون توافقٍ وطني شامل يشارك فيه ممثلو جميع القوى والمناطق، ستُعدّ مغامرةً سياسية خطيرة تهدد بفتح بابٍ جديدٍ من الصراع، وتضع من يقف وراءها في مواجهة التاريخ والقانون والشعب معًا.
فالتوقيع دون مشروعية لا يُنتج سلامًا، بل يؤسس لجولة جديدة من الانقسامات، ويُعمّق فقدان الثقة بين الدولة والمجتمع.
أما احترام الدستور والإرادة الشعبية فهو وحده الطريق الآمن نحو تسويةٍ حقيقية تحفظ الدولة وتعيد بناء مؤسساتها على أسسٍ دستورية سليمة.
•• رسالة إلى المجتمع الدولي
وفي هذا الإطار، فإن المجتمع الدولي والأمم المتحدة والوسطاء الإقليميين مطالبون بالتعامل مع ملف التسوية في اليمن بقدرٍ أكبر من المسؤولية واحترام السيادة الوطنية، وعدم التعاطي مع أي ترتيبات سياسية أو “خرائط طريق” خارج إطار الشرعية الدستورية والإرادة الشعبية.
إن السلام الحقيقي لا يُبنى على تفويضٍ انتقالي أو شرعنةٍ لجماعةٍ مسلحةٍ مصنفةٍ إرهابية، بل على أساس من الشرعية الشعبية والعدالة الوطنية.
وأي عملية سياسية تتجاهل هذه المبادئ ستظل هشّة ومؤقتة، لأنها تُقصي الشعب عن تقرير مصيره، وتحول القضية الوطنية إلى صفقة سياسية قصيرة الأجل قابلة للانفجار عند أول اختبار واقعي.
إن الطريق إلى السلام في اليمن لا يمر عبر الالتفاف على الدستور، بل عبر استعادة مؤسسات الدولة، وإعادة بناء الثقة بين اليمنيين، وصياغة مشروع وطني جامع يعيد الاعتبار للسيادة ولصوت المواطن الذي غُيّب طويلًا.
وما لم تُحترم هذه المبادئ، فإن أي خارطة طريق – مهما كانت نواياها – ستبقى بلا جذور وطنية ولا شرعية دستورية، ومصيرها السقوط أمام أول امتحان للواقع.
إن مجلس القيادة الرئاسي لا يمتلك مشروعية التصديق على خارطة الطريق، لا من حيث النص الدستوري، ولا من حيث التفويض الشعبي.
وكل من يوقّع باسم الشعب دون حق، إنما يضع نفسه في مواجهة التاريخ والقانون، ويخاطر بتكريس سابقةٍ خطيرةٍ في تجاوز مبدأ السيادة الوطنية ويضع نفسة امام مساءلة قانونية بتهمة الخيانة
فالوطن ليس ورقةً في مفاوضات، والدولة ليست سلعةً سياسية تُمنح لهذا الطرف أو ذاك.
إنها أمانة في أعناق الجميع، ودماء الشهداء والجرحى والنازحين ستظل الحارس الأعلى للشرعية، وصوتها سيعلو فوق كل تسوياتٍ ناقصةٍ أو تفاهماتٍ باطلة