;
توفيق ألحميدي
توفيق ألحميدي

مشروع وطني أو زوال بطئ.. خيار اليمن الأخير 202

2025-11-04 09:23:05

ليست ازمة اليمن ازمة سلطة أو نفوذ كما يبدو على السطح، بل ازمة غياب المشروع الوطني الذي يمنح الدولة معناها، ويوجه بوصلة المجتمع نحو غاية مشتركة. فالأوطان لا تنهض بالشعارات ولا تتماسك بالمصادفات، بل بالمشروعات الكبرى التي تجمع الناس حول فكرة جامعة، تجعل السياسة أداة للبناء لا للهدم، وتحوّل الخلاف إلى تنوع لا إلى تدمير.

المشروع الوطني ليس وثيقة سياسية عابرة، بل هو وعي شامل يربط الحلم بالواقع، ويحول الانتماء إلى مسؤولية. إنه العقد الأخلاقي الذي يجعل الدولة أكثر من سلطة، والهوية أكثر من شعار، والمواطنة أكثر من انتماء جغرافي. ومن دونه، تتحول السياسة إلى سباق على الغنائم، والدولة إلى فراغٍ تملؤه القوى الخارجية والنخب التابعة.

في اليمن، لم تتشكل عبر العقود رؤية جامعة تعيد تعريف الجمهورية وتربطها بمشروع حضاري متجدد. فالثورة اليمنية التي بشّرت بالتحرر والعدالة، تحولت مع الزمن إلى نظامٍ فقد المعنى، لأن الفكرة الجمهورية لم تتحول إلى مؤسسات وقانون وعدالة. ومع سقوط الدولة، تلاشت الروح الجمهورية، وبرزت الولاءات المناطقية والطائفية، حتى أصبح الوطن ساحة مفتوحة لكل مشروعٍ خارجي.

لقد جاء مجلس القيادة الرئاسي كأملٍ في استعادة الدولة، لكنه تحول إلى مرآةٍ تعكس تقاطع النفوذ الإقليمي أكثر مما تمثل الإرادة الوطنية. لم يقدم المجلس خطة واضحة لإصلاح مؤسسات الدولة أو إعادة الثقة بين المواطن والجمهورية، وكأن هناك من يوجهه إلى الصمت وترك الأمور تتآكل ببطء. هذا الصمت لم يعد حيادا، بل مشاركة في الانهيار.

ولا أحد ينكر وجود اختلالات وانتهاكات وتجاوزات، لكنها كلها نتائج لغياب المشروع الوطني الجامع الذي يضبط إيقاع الحياة السياسية والإدارية، ويمنع العبث باسم الوطنية. الغريب أن الجميع انشغل بخصوماتٍ صغيرة وتبادلٍ للاتهامات، حتى صار الدفاع عن المصالح الضيقة يُقدَّم كأنه دفاع عن الجمهورية، في حين أن الجمهورية تُستنزف تحت ركام الصراعات والولاءات.

وأي تحليل أو تمجيد للكيانات المتشظية بعيد عن المشروع الوطني ليس إلا بيعا للوهم، وتكريسا لانقسامٍ غير واعٍ يستهلك طاقة اليمنيين في معارك جانبية. الأصل أن تتجه الجهود نحو تعزيز مشروع الدولة، وأن يُدفع الجميع باتجاهه بوصفه الإطار الوحيد القادر على إنقاذ ما تبقى من فكرة الجمهورية واستعادة المعنى الحقيقي للسيادة والكرامة.

اليوم لا يمكن الحديث عن مشروع وطني خارج أولوية استعادة الجمهورية وإسقاط الانقلاب الحوثي. فالحوثي لا يمثل مجرد جماعة مسلحة، بل مشروعا مضادا للدولة وللمعنى الجمهوري نفسه، يقوم على العصبية الدينية ويقوّض فكرة المواطنة والمساواة. إن أي مشروع لا يبدأ من مواجهة هذا الانقلاب واستعادة الدولة هو مشروع ناقص أو هروب من الحقيقة.

لكن المأساة تتعمق حين يتحول بعض اليمنيين إلى أدواتٍ لمشاريع إقليمية أو أبواقٍ لأجنداتٍ خارجية. إن ارتهان القرار الوطني للخارج لم يكن صدفة، بل نتاج فراغٍ في الداخل. فحين يغيب المشروع الوطني، تصبح الساحات مفتوحة لكل من يريد أن يكتب مستقبل اليمن من خارجها. وهكذا تحولت قوى سياسية وإعلامية إلى امتدادات لقوى إقليمية تُدار بميزان المصالح لا بمبدأ السيادة، وتتناحر بأسماء مختلفة فيما يخسر اليمن ذاته يوما بعد يوم.

وفي المقابل، تقدم تجارب التاريخ دروسا لمن أراد أن يتعلم. فحين خرجت تركيا من ركام الإمبراطورية العثمانية، وضعت مشروعا جمهوريا أعاد تعريف الهوية وربطها بالعلم والتنمية. وألمانيا التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، نهضت بمشروع وطني اقتصادي ومعرفي عرف بـ”المعجزة الألمانية”، أعاد بناء الدولة من تحت الركام. وكوريا الجنوبية، التي كانت أفقر من اليمن في منتصف القرن الماضي، صاغت مشروعها على أساس التعليم والإنتاج فتحولت إلى قوة صناعية عالمية.

المشترك بين هذه النماذج ليس المال ولا الموارد، بل وضوح المشروع الوطني الذي جعل الدولة مرجعية عليا، لا أداة بيد الحزب أو الطائفة أو الخارج.

shape3

أما اليمن، فالمطلوب اليوم ليس استنساخ تجارب الآخرين، بل صياغة مشروع وطني يمني جديد يقوم على فكرة الجمهورية كمظلة قيمية، وعلى سيادة القانون كمرجع أخلاقي، وعلى الشراكة العادلة كأساس لبناء الدولة. مشروع يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والسلطة، ويستعيد ثقة الناس بالوطن، ويحول طاقاتهم من الصراع إلى البناء.

لن ينجو اليمن بتبديل الوجوه أو تشكيل المجالس، بل حين تُبنى السياسة على فكرة لا على أشخاص، وحين يكون للمجتمع مشروع أكبر من الفصائل، وللدولة غاية أبعد من البقاء. إن أول خطوة في طريق الخلاص هي الاعتراف بأن غياب المشروع الوطني هو أصل كل الأزمات. فالحروب لا تنتهي إلا حين توجد رؤية مشتركة، والفوضى لا تُهزم إلا بوضوح الهدف.

أن نبدأ من جديد لا يعني أن نمحو الماضي، بل أن نفهمه ونحرره من أوهامه. أن ندرك أن سقوط الدولة لم يكن قدرا، بل نتيجة غياب الفكرة التي تجمعنا. البداية الجديدة لا تصنعها البنادق ولا المؤتمرات، بل تصنعها النية الصادقة لإعادة بناء العقد الوطني على أسس من العدل والمواطنة والسيادة.

حين يتحول المشروع الوطني من خطابٍ في النخبة إلى وعيٍ في الشارع، من وثيقةٍ إلى سلوك، من شعارٍ إلى حياة، عندها فقط يمكن لليمن أن ينهض من جديد، لا بوصفه ساحة صراع، بل أرضا للحرية والمواطنة والكرامة. وعندها تصبح استعادة الجمهورية أكثر من هدفٍ سياسي، بل خلاصا أخلاقيا، واستعادةً للإنسان اليمني الذي ما زال يؤمن أن وطنه يستحق الحياة.

* بران برس

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد