في ظل تاريخ مثقل بالصراعات.. ما السبيل للحد من العنف في محافظة أبين؟

2025-01-30 03:02:45 أخبار اليوم / مركز المخا للدراسات الاستراتيجية - وحدة الدراسات الميدانية

   

ملخص تنفيذي:

تكتسب محافظة ابين أهمية كبيرة، فهي تتموضع في موقع حيوي على الخارطة الجغرافية، إذ تقع في قلب المحافظات الجنوبية، وهي بمثابة البوابة لمدينة عدن، وطريق اتصالها بمحافظات شبوة وحضرموت والمهرة، ومن تنوع تضاريسها، وتركيبتها القبلية، وبشكل أكبر بفعل موقعها في الاستقطاب والتمحور السياسي والجغرافي الذي ظهر في جنوب اليمن منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم.

 وقد عانت المحافظة من موجات متتالية من الصراعات والحروب ليس اخرها الحملات العسكرية التي يقودها المجلس الانتقالي الجنوبي منذ أغسطس 2022، للقضاء على ما اسماه الجماعات الإرهابية، وقد حققت هذه الحملات بعض المكاسب، لكنها في ذات الوقت استثارت الكثير من محركات العنف في هذه المحافظة.

يتطلب تخفيف مستويات العنف وتحقيق قدر من السلام والاستقرار في محافظة أبين تكاملاً خلاقاً بين المسارات السياسية والعسكرية والتنموية، مع التركيز على إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتوفير الحماية والتنمية الاقتصادية للمواطنين، واعتماد مبدأ الحوار بين الأطراف الفاعلة، وتنسيق ودعم كبير من قبل الأطراف الدولية وفي مقدمتها دولتي التحالف والولايات المتحدة الامريكية، وأن يتجه ذلك الدعم الى معالجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشة البائسة، وتوفير الدعم الكافي للمؤسسات الحكومية المعنية بحضور سلطة الدولة، بما في ذلك قوات الأمن والشرطة، والقضاء، لضمان سيادة القانون، ودعم الخدمات الأساسية للسكان المحليين، وإطلاق مشاريع تنموية تستهدف تحسين البنية التحتية وخلق فرص عمل للشباب، ودعم الوحدات العسكرية المتواجدة في ابين قبل اغسطس 2022م، وفتح باب التجنيد من أبناء المحافظة لمعسكرات جديدة تتمركز في المناطق النائية والوعرة، وفي المقابل يتم بالتدريج سحب التشكيلات العسكرية من خارج المحافظة.

مقدمة:

عانت محافظة أبين، خلال العقود الماضية، الكثير من العنف، نتيجة الحروب ودورات الصراع، سواء في الاستقطابات أثناء حكم اليسار في جنوب اليمن (سابقًا)، أو في التجاذبات بين التوجهات الانفصالية وتلك التي تدعم الوحدة في عهد الجمهورية اليمنية، وكذا بفعل جماعات العنف المتطرفة. وقد لعب الموقع الجغرافي للمحافظة، وتركيبتها الديمغرافية وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، وموقعها من الاستقطابات السياسية والجغرافية، في مرحلتي ما قبل الوحدة وما بعدها، دورًا كبيرًا في جعلها طرفًا في دورات العنف أو ساحة لها.

حاليا، يقود "المجلس الانتقالي الجنوبي" حملة عسكرية في مختلف مناطق المحافظة، ويُسوقها على أنها تستهدف العنف الذي يقوم به "تنظيم القاعدة"، وفي المقابل يُشكك قطاع كبير من أبناء أبين في أهداف الحملة، ويعدونها طورًا جديدًا من الصراع المسنود إلى استقطابات جغرافية، وتدافع بين التوجهات المساندة للوحدة وتلك التي تتبنى الانفصال، وهو الصراع الذي عانت منه محافظة أبين مرارًا.

تتناول هذا الدراسة موجات العنف التي عانت منها أبين، وارتباطها بجغرافية المحافظة، وسماتها الديمغرافية والاجتماعية والثقافية، وتتوقف عند الحملة العسكرية الأخيرة لـ"المجلس الانتقالي"، الموسومة بـ"سهام الشرق"، وتأثيرها على العنف والصراع في المحافظة. وتُقدم الدراسة سياسيات لصناع القرار حول كيفية الحد من العنف في المحافظة، وتوفير قدر من الاستقرار والسلام المستدام فيها.

الموقع وتأثيراته:

تقع محافظة أبين جنوب شرق العاصمة اليمنية (صنعاء)، وتبعد عنها مسافة تصل إلى (427)كم، ويحدها من الشرق محافظة شبوة، ومن الغرب محافظتي عدن ولحج، ومن الشمال محافظتي شبوة والبيضاء إلى جانب أجزاء من يافع العليا، ويحدها من الجنوب بحر العرب. وتعد مدينة زنجبار مركز المحافظة.

تبلغ مساحة أبين حوالي (16.943)كم، وتتنوع تضاريسها بين جبال في أطرافها الشمالية، وهضاب في وسطها، وسهول ساحلية طويلة في أطرافها الجنوبية، ويسودها مناخ معتدل إلى دافئ في فصل الصيف وبارد في فصل الشتاء، إلا أن الأجزاء الجنوبية تكون حارة صيفًا ودافئة شتاء.

تتوسط المحافظة المحافظات الجنوبية الأخرى، و"كانت إبان الاستعمار البريطاني تتبع ما يُسمى (اتحاد الجنوب العربي)، وكانت تنقسم في ذلك الحين إلى عدد من السلطات: سلطنة الفضلي، وسلطة العوذلي، وسلطنة يافع السفلى، وسلطنة العوالق السفلى، بالإضافة إلى المنطقة الوسطى التي كانت تسمى بولاية دثينة، والتي تضم مديرية مودية وجيشان وأجزاء من مديرة الوضيع وأجزاء من مديرية لودر، وولاية دثينة لم تكن مشيخة ولا سلطنة، كان فيها ما يشبه برلمانًا يتكون من مشائخ القبائل التي كانت تسكنها، وأهمها: قبيلة المياسرة وقبيلة سال حسنة وقبيلة العلهي وبعض قبائل آل باليل. وبعد الاستقلال أصبحت محافظة أبين ضمن نطاق جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، والتي تحول اسمها فيما بعد إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية". ومع قيام الجمهورية اليمنية صارت أبين إحدى محافظات دولة الوحدة.

تتوزع أبين على أحد عشر مديرية، هي: زنجبار، وخنفر (وهي الأكبر مساحة وسكانًا)، ولودر، ومودية، والوضيع، وجيشان، والمحفد، وأحور، وثلاث مديريات في جبل يافع، هي: مديرية سرار سباح ورصد (وهي أكبر مديرية من مديريات يافع).

وتلعب الجغرافيا دورًا كبيرًا في دورات العنف الذي عانت منه محافظة أبين، ولا تزال؛ ويمكن الإشارة إلى بعض أبعاد تأثير ذلك في النقاط التالية:

1- تطل أبين على الساحل الجنوبي لليمن، ما يجعلها منطقة حيوية على بحر العرب، فهي قريبة من ممرات بحرية مهمة للتجارة الدولية، وعرضة لعمليات التهريب؛ وهو ما يجذب اهتمام الأطراف المتحاربة التي تسعى للسيطرة على هذه المنافذ البحرية.

2- تقع أبين بجوار مدينة عدن، العاصمة المؤقتة للحكومة الشرعية، والمعقل الرئيس لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي"، وهذا القرب من عدن يجعلها ساحة صراع بين الحكومة الشرعية و"المجلس الانتقالي الجنوبي"، حيث يسعى كل طرف لتوسيع نفوذه وتأمين مواقعه بالقرب من عدن.

3- تضاريس أبين تشمل سلاسل جبلية وأودية، وهذا بدوره يوفر ملاذات آمنة للجماعات المسلحة، كـ"تنظيم القاعدة"، كما أن الطبيعة الجغرافية الوعرة تسهل الاختباء والتنقل السري، ما يزيد من تعقيد العمليات العسكرية والحملات الأمنية، ويجعل استعادة السيطرة على المنطقة المتمردة أمرًا صعبًا.

4- تقع أبين على الطريق الرئيس الرابط بين محافظة عدن والمحافظات الشرقية الأخرى، شبوة وحضرموت والمهرة، وهذا الطريق يعد شريانًا حيويا للتجارة والتنقل العسكري، ما يجعل السيطرة على أبين هدفًا إستراتيجيًا للأطراف المتنازعة لضمان السيطرة على خطوط الإمداد والتواصل بين المحافظات.

5- أبين تُعد أيضًا حلقة وصل وعبور بين المحافظات الشمالية والمحافظات الجنوبية، ما يجعلها هدفًا للقوى التي تسعى للسيطرة على اليمن بشكل عام، سواء كانت الحكومة الشرعية، أو المجلس الانتقالي الجنوبي أو مليشيا الحوثي الإرهابية.

الديمغرافيا:

يبلغ عدد سكان محافظة أبين (619) ألف نسمة، وهو ما يُمثل نسبة 2% من سكان الجمهورية اليمنية البالغ عددهم (31.89) مليون نسمة، وفقًا للإسقاطات السكانية للعام 2021م. ويتوزع السكان في المحافظة على مديرياتها بنسب متفاوتة، حيث تحظى المناطق ذات الإنتاج الزراعي والسمكي بالنصيب الأكبر من الكثافة السكانية، وهذا يعود إلى بحث الناس عن أمكان توافر فرص الرزق والعمل.

ومحافظة أبين ذات كثافة سكانية أكثر من بقية المحافظات التي تحيط بها، ويغلب على سكانها التركيبة القبلية. ومثل كثير من المناطق اليمنية، تعتبر أبين ساحة توترات قبلية ومناطقية قديمة؛ وغالبًا ما تؤدي تلك التوترات إلى تصاعد الصراعات المحلية، التي استغلتها أطراف النزاع اليمني لتجنيد الأفراد في جماعات مسلحة.

وخلافًا للمحافظات المحيطة بها، تتسم محافظة أبين بقلة عدد المغتربين خارج اليمن، وعدد من يشتغلون بالتجارة؛ ويلتحق أغلب الأفراد فيها بمعسكرات الجيش، ويتقاضون مرتبات متدنية، ما يُوسع من مساحة الفقر ويجعله مستوطنًا في هذه المحافظة. وغالبًا ما يجري استغلال هذه الأوضاع من قبل الأطراف المتصارعة لتجنيد أبناء هذه المحافظة في الجماعات، والتشكيلات العسكرية التي يتقاضى أفرادها مرتبات بالعملة الأجنبية.

ثقافيا يتسم أغلب أبناء المحافظة بالتدين، ولذا كانوا "أقل هضمًا للأفكار الاشتراكية وتمسكًا بها، وأكثر قربًا من التوجهات الفكرية في دول الجوار العربي"، "لذلك أيضًا لم يجدوا صعوبة في استيعاب نظام ما بعد الوحدة، بعكس المجتمع في مناطق أخرى، فقد كانت الأفكار الاشتراكية مؤثرة في تفكيرهم بشكل أكبر".

ويُمثل التدين، وتوطن الفقر والبطالة حالة مثالية توفر للجماعات المتطرفة إمكانية استقطاب بعض شباب المحافظة، من خلال الترويج للحديث المشهور (يخرجُ من عدن أبين اثنا عشر ألفًا ينصرون الله ورسوله، هم خيرُ من بيني وبينهم) ، ولذا تشكل في منتصف التسعينيات ما عُرف بـ"جيش عدن- أبين"، الذي برز للوجود في منتصف عام 1997م، وأعلن تأييده لزعيم "تنظيم القاعدة"، أسامة بن لادن، وتحصن في جبل حطاط، وشارك عدد من أعضائه الأجانب في خطف (16) سائحًا، في 28 ديسمبر 1998م، قُتل أربعة منهم، إضافة إلى منفذ العملية، أثناء محاولة إنقاذهم من قبل قوات الحكومة اليمنية؛ ويُنسب إليه -أيضًا- تورطه في الهجوم على المدمرة الأمريكية "كول"، في ميناء عدن، عام 2000م، والذي أسفر عن مقتل (17) بحارًا أمريكيا.

الأوضاع الاقتصادية:

ينعكس تنوع التضاريس في محافظة أبين على الأنشطة الاقتصادية لسكانها، وتُعد الزراعة وصيد الأسماك النشاط الرئيس لسكان المحافظة، حيث تسود الزراعة في الوديان بين الجبال، في أطرافها الشمالية والهضبة التي تقع في الوسط، وفي السهل الساحلي الطويل في أطرافها الجنوبية، والذي يمتد لأكثر من (270) كم. وتصب إليها عدد من الوديان، أهمها: وادي بنا، ووادي حسان اللذان يشكلان دلتا أبين. وعلى الساحل يعمل سكان المحافظة على صيد الأسماك. وقد كان "أهم مورد اقتصادي لأبناء المحافظة هو قطاع الزراعة، وخاصة زراعة القطن، والذي يعد محصولًا نقديا. وكان في أبين محلج القطن ومركز أبحاث الكود الزراعي"، وذلك قبل الاستقلال. وهناك عوامل كثيرة تجعل من محافظة أبين منطقة قابلة للاستثمار الاقتصادي في مجالي الزراعة والثروة السمكية. وتشير بعض الدراسات إلى أن الجبال في المنطقة الوسطى، في مودية ولودر والوضيع والمحفد، تحتوي على كثير من المعادن.

تعرضت أبين لتحولات مناخية كبيرة، أثرت على النشاط الزراعي ونشاط الرعي. وتعد محافظة أبين نموذجًا للمناطق الجنوبية السهلية الساحلية المتأثرة بتغير المناخ، والتي يشكل إنتاجها الزراعي موردًا مُهما في بيئة الاقتصاد اليمني؛ فقد تراجع إنتاجها الاقتصادي الزراعي، خلال العقود الماضية، نتيجة تغيرات مناخية تعرضت لها المنطقة، وهو ما تسبب في تراجع إنتاج المساحات المحصولية. فقد تسببت مواسم الجفاف المتتالية في إلحاق ضرر شديد بالأراضي الزراعية، وهجرة المزارعين، نتيجة عدم اكتفائهم بما يُلبي الاحتياجات الأساسية لأسرهم، خصوصًا في ظل غياب السياسات الحكومية.

ولعوامل تتصل بأوضاعها الهيكلية، والتغيرات المناخية، والنزاعات التي لا تكاد تبارحها، تُعاني محافظة أبين من مستويات عالية من الفقر، إذ يبلغ معدل الفقر فيها، بحسب مسح ميزانية الأسرة المعيشية لعام 2014م، 48.6% من عدد السكان في المحافظة. ومن المؤكد أن هذا المعدل تضاعف خلال سنوات الحرب الحالية بفعل تراجع الأوضاع الاقتصادية، وانهيار قيمة العملة الوطنية، حتى بات ما يزيد على ثلثي سكان المحافظة يندرجون تحت خط الفقر.

وتُعاني المحافظة كذلك من ارتفاع معدل البطالة، لا سيما في فئة الشباب الذين يمثلون أكثر من 75% من السكان. ويتوقع أن يفوق معدل البطالة 60% من قوة العمل في المحافظة، مع ملاحظة أن محافظة أبين -كما بقية المحافظات- تتسم بارتفاع نسبة الشباب مقارنة ببقية الفئات العُمرية.

وبطبيعة الحال فإن العلاقة بين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في أبين والعنف علاقة مباشرة؛ فالفقر والبطالة وانعدام الخدمات يشكل أرضية خصبة لتصاعد العنف والانضمام إلى الجماعات المتطرفة، والمليشيات المسلحة، في حين أن النزاعات السياسية والقبلية تُغذي دوامة الصراعات المستمرة.

موجات الصراع:

عانت محافظة أبين -خلال العقود الخمسة الأخيرة- من دورات متتابعة من العنف، ربما أكثر من غيرها من بقية المحافظات اليمنية. وفي الأغلب كانت المحافظة طرفًا في مواجهة أطراف أخرى، أو ميدانًا لصراع أوسع، أو ضحية لسلوك جماعات العنف والتطرف. ونتوقف هنا عند أبرز جولات العنف التي عانت منها أبين منذ ما بعد الاستقلال:

صراع مناطقي ممتد:

عانى تيار اليسار الذي حكم جنوب اليمن، منذ الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م، من استقطابات وتجنحات أيديولوجية سلمته إلى دورات متتالية من الصراعات الدموية. ومنذ بداية سبعينيات القرن العشرين، وتحديدًا بعد الانقلاب على الرئيس سالم رُبيع علي، انحرف الاستقطاب بين جناحي ذلك التيار إلى صراع مناطقي؛ فقد تمايز الحزب الاشتراكي اليمني، الذي تم تأسيسه عام 1978م، بشكل غير معلن، إلى جناحين متنافسين، يمُثل الجناح الأول محافظتي أبين وشبوة، ويصطف خلف الرئيس الأسبق، علي ناصر محمد، وأُطلق عليهم فيما بعد بجناح "الزمرة"، وتمثل الجناح الثاني في محافظة لحج بمناطقها التي تضم ردفان ويافع والضالع، بقيادة علي عنتر وصالح مصلح، ومعهم عبدالفتاح إسماعيل، وغيرهم، وأُطلق عليه جناح "الطُغمة"، أما عدن وحضرموت فكانتا أشبه بالمناطق المحايدة التي تتبع من ينتصر في صراع الطرفين.

أخذ الانقسام المناطقي في الاتساع، ليفضي إلى أحداث 13 يناير 1986م الدموية، التي راح ضحيتها قرابة (12) ألف قتيل، وآلاف السجناء، وأكثر من (150) ألف نازح، فر معظمهم إلى الشمال، وعلى رأسهم علي ناصر محمد، وعدد كبير من أبناء محافظة أبين.

وبعد انتصار جناح لحج، تولى أبناء محافظة الضالع قيادة الدولة؛ فقد كان أغلب قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وحتى القيادات السياسية، للحزب الاشتراكي اليمني، من محافظة الضالع وأجزاء من يافع وردفان، فيما يُسمى اليوم بمناطق "المثلث"، مع حضور شكلي لأمين عام الحزب الاشتراكي اليمني، علي سالم البيض، الذي ينتمي لمحافظة حضرموت.

هذا الصراع ظل موجودًا بعد قيام الوحدة اليمنية، وإن بشكل غير مباشر، وبرز بشكل واضح أثناء حرب 1994م التي جرت بين ما يُعرف بشريكي الوحدة، المؤتمر الشعبي العام، والحزب الاشتراكي اليمني، فقد انحاز جناح علي ناصر محمد، وأبناء أبين، إلى جانب الحكومة الشرعية، بقيادة رئيس مجلس الرئاسة -آنذاك، علي عبدالله صالح.

ويتهم أبناء الضالع ويافع وردفان أبناء أبين بأنهم ساعدوا الشماليين عام 1994م فيما يصفونه باجتياح الجنوب -حسب زعمهم، مع أن الأمر لم يكن كذلك، فقد كان هذا الموقف في حقيقته أقرب إلى الانتقام مما حصل في أحداث 1986م.

استمر الصراع المناطقي بشكل أو بآخر أثناء فترة حكم الرئيس السابق، عبدربه منصور هادي، الذي ينتمي إلى محافظة أبين، وكان أحد القادة العسكريين المشاركين في حرب 1994م، إلى جانب الحكومة الشرعية، فقد كان يُتهم أثناء فترة حكمه بأنه لا زال مأسورًا بالصراع المناطقي، وأن إدارته للمحافظات الجنوبية متأثرة بالانقسامات الجغرافية السابقة. كما أن بعض أبناء المحافظات الجنوبية لم يكن ينظر إلى "هادي" على أنه رئيس للجمهورية، وإنما أحد أطراف الصراع التاريخي الممتد.

عاد التنافس المناطقي إلى التصاعد بعد انطلاق "عاصفة الحزم" العسكرية، وعودة الرئيس "هادي" إلى عدن عام 2016م، حيث ظلت علاقته متوترة مع فصائل الحراك الجنوبي الذي ينتمي معظمها إلى محافظة الضالع. وشهدت هذه المرحلة توتر في العلاقة بين الرئيس "هادي" ودولة الإمارات العربية المتحدة، الدولة الثانية في "التحالف العربي" لدعم الشرعية، والتي أشرفت على ترتيب الأوضاع في المحافظات الجنوبية عقب دحر مليشيا الحوثي منها.

ولأسباب غير معروفة تمامًا، استهدفت الإمارات تقويض السلطة الشرعية، برئاسة "هادي"، وقدمت دعمًا كبيرًا لخصومه التاريخيين، ومكنتهم من تأسيس تشكيلات عسكرية في عدن وبقية المحافظات الجنوبية والشرقية. فقد دعمت الإمارات تشكيل "المجلس الانتقالي الجنوبي"، الذي أُعلن عن تأسيسه في 11 مايو 2017م، والذي يسيطر عليه فصيل الحراك المنتمي لمحافظة الضالع، وبدرجة أقل المنتمي ليافع وردفان (مناطق المثلث)، إلى جانب فصيل سلفي يقوده "هاني بن بريك".

نشر "المجلس الانتقالي" التشكيلات العسكرية التابعة له في عدن، وصعد تحركه ضد الحكومة الشرعية، وانخرط في جولات من القتال معها، منها المعارك التي دارت بعدن -في يناير 2018م، وأخرى في أغسطس 2019م، ومعارك شبوة في أغسطس 2022م، وفي نفس العام قاد "المجلس الانتقالي" عملية "سهام الشرق" نحو محافظة أبين، وفيما يرى "المجلس الانتقالي" أنها موجهة لمحاربة ما يصفه بـ"الإرهاب"، "ينظر إليها قطاع من أبناء أبين كحلقة في إطار الصراع المناطقي الذي يريد أن يحسمه أبناء الضالع وردفان ويافع لصالحهم، ويتوج بوجود قوة عسكرية تسيطر على محافظة أبين، فأبناء تلك المناطق يشعرون بأنه ما لم يتم السيطرة العسكرية الكاملة على محافظة أبين فإنها ستظل مصدر قلق لهم، وتهدد مشروعهم الانفصالي.

وبحسب شخصية قيادية من محافظة أبين، فقد تعمق الصراع بين أبناء محافظته وبين أبناء الضالع وردفان ويافع، وانتقل من صراع نخبوي إلى صراع اجتماعي، فقد التف أبناء أبين حول نخبهم السياسية، وكذلك الأمر بالنسبة لأبناء مناطق "المثلث". ويكاد يكون هذا الصراع ملحوظًا اليوم في مختلف المؤسسات الحكومية المدنية والعسكرية، وحتى في القطاع الخاص، من خلال ما يلحظ من تضييق على مصالح رجال الأعمال الذين ينتمون إلى أبين، ويساند نخبها "أحمد العيسي"، وخاصة المعركة حول تجديد رخصة المشغل الجوي لطيران بلقيس التابعة له.

حروب "تنظيم القاعدة":

ظهر "تنظيم القاعدة" في محافظة أبين لأول مرة بداية التسعينيات من القرن الماضي، تحت مسمى "جيش عدن- أبين"، على نحو ما ذكرنا، وعقب هجوم له على قافلة عسكرية طبية، في 21 يونيو 2003م، دارات معارك في جبل حطاط، الذي حاصرته قوات الأمن، وألقت القبض على بعض قياداته، وأصدر القضاء -في 5 مايو 1999م- أحكامًا بإعدام اثنين منهم، أحدهما هو زعيم الجيش "أبوبكر المحضار"، ونفذ حكم الإعدام في حقه بمحافظة أبين في أكتوبر 1999.

وبناء عليه تشكل انطباع عام بأن محافظة أبين تُعد المعقل الأول لـ"تنظيم القاعدة" في اليمن، ومنذ ظهور التنظيم دارت اشتباكات بينه وبين قوات الجيش والأمن؛ ومنذ عام 2000م تقريبًا اشتركت القوات الأمريكية في هذا الصراع تحت لافتة "الحرب على الإرهاب"، وشنت هجمات متصلة على هذه المحافظة والمحافظات المجاورة، وارتكبت عددًا من المجازر المروعة فيها، ومنها مجزرة "المعجلة" التي راح ضحيتها الكثير من الأبرياء، حيث هاجمت القوات البحرية الأمريكية -في 17 ديسمبر 2009م- قرية "المعجلة"، بمديرية المحفد، بخمسة صواريخ "توماهوك" مزودة بذخائر عنقودية، ما أدى إلى مقتل (41) مدنيا من المقيمين في مخيم بدوي، بينهم (9) نساء و(21) طفلًا؛ وفيما بعد تسببت مخلفات الذخائر العنقودية في قتل (4) مدنيين إضافيين، وجرح (13) آخرين.

وقد استغل "تنظيم القاعدة" الاضطرابات التي كانت تعيشها البلاد أثناء الاحتجاجات الشعبية المناهضة لنظام الرئيس الأسبق، علي عبدالله صالح، في 2011م، فسيطر في شهر مارس، من ذات العام، على عدد من المدن، في محافظة أبين، بما فيها مدينة جعار، وفي مايو سيطر على مدينة زنجبار (العاصمة الإدارية للمحافظة)، وتاليًا على ملعب لكرة القدم خارج زنجبار استُخدم "قاعدة عسكرية مؤقتة" لمقاتلي التنظيم.

وفيما يشير البعض إلى أن محافظة أبين تعد معقلًا تاريخيا لـ"تنظيم القاعدة"، والجماعات المرتبطة به، نتيجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، يرى اتجاه آخر، بمن فيهم مصادر تم إجراء مقابلات معها، أن محافظة أبين لا تُمثل منطقة حضور كبير للتنظيم، وأنها كانت كبقية المحافظات التي يوجد بها أفراد ينتسبون لجماعات متطرفة، ويتهمون أطرافًا أخرى بمحاولة إلصاق هذه التهمة بمحافظتهم، والتلاعب بهذا الملف لتحقيق غايات سياسية.

وظف الرئيس الأسبق، علي عبدالله صالح، ملف "الإرهاب" إبان نزاعه السياسي مع أحزاب "اللقاء المشترك"، وهو النزاع الذي كان يدور حول طريقة إدارته للدولة ومطالبة أحزاب "اللقاء المشترك" بضرورة التصحيح والتغيير؛ فهروبًا من الاستحقاقات السياسية لإصلاح الأوضاع كان "صالح" يفتح ملف "الإرهاب" والعناصر "الإرهابية" في محافظة أبين كلما وقع تحت الضغط.

وحدث هذا بشكل أكبر أثناء الضغوط الهائلة التي تولدت عن الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي شهدها اليمن عام 2011م، فهروبًا من تلك الضغوط، وفي محاولة لإرباك المشهد وإثارة مخاوف الأطراف الدولية والإقليمية، عمد "صالح" إلى إسقاط محافظة أبين بأيدي "تنظيم القاعدة"، لا سيما وأنه شعر بأن القيادات السياسية والعسكرية في محافظة أبين تمثل خطرًا على نظامه.

وبعد انتخاب "هادي" رئيسًا توافقيا للبلاد، في 2012م، بقي ملف "الإرهاب" في محافظة أبين مفتوحًا على مصراعيه، تستخدمه القوى الرئيسة التي هي على خصومة مع "هادي" كي تضعف سلطته، وتضعف من مسار المرحلة الانتقالية.

بالمجمل، ترى نخبة من أبناء أبين أن وجود "تنظيم القاعدة"، وغيره من الجماعات المتطرفة في أبين، وجود سياسي أكثر منه وجودًا حقيقيا، وذلك في محاولة من بعض الأطراف لإلصاق تهمة "الإرهاب" بهذه المحافظة، في حين أن وجود تلك الجماعات في محافظة أبين مثله مثل بقية المحافظات الأخرى.

ويدللون على ذلك بمسارعة قبائل أبين إلى تشكيل لجان شعبية لقتال "تنظيم القاعدة"، لمنع سيطرتها على كامل المحافظة، بعد أن تخلت الأجهزة الأمنية والعسكرية عن مواقعها ووظيفتها الدفاعية بإيعاز من نظام "صالح" فيما يبدو؛ واستمرت اللجان الشعبية تقاوم سيطرة "تنظيم القاعدة" على محافظة أبين لما يقارب ثلاث سنوات (2010م- 2013م)، في ظل غياب شبه تام للأجهزة الأمنية والعسكرية. وقد كان لتلك اللجان الشعبية دور كبير في منع توسع "تنظيم القاعدة" في المحافظة، وفي إفشال مشروع سيطرته على محافظة أبين كاملًا. ومعلوم أن عناصر التنظيم اتجهت بعد ذلك شرقًا، وسيطرت على مدينة المكلا، وبسطت سيطرتها عليها هناك.

في منتصف عام 2012م، خاض الجيش اليمني ولجان المقاومة الشعبية معارك ضد "تنظيم القاعدة" وجماعات العنف المتطرفة في محافظة أبين، إذ بدأ الهجوم الواسع في 12 مايو بهدف استعادة المناطق التي كان يسيطر عليها التنظيم، واستمرت المعارك أكثر من شهر، ونجحت في استعادة زنجبار وجعار في 12 يونيو، ومدينة شقرة في 15 يونيو، ما أجبر عناصر التنظيم على الانسحاب إلى محافظة شبوة.

وبهذا، أسهمت اللجان الشعبية بشكل كبير في دحر التنظيم من أبين، في أغسطس 2012م، وسط اعتراف رسمي وشعبي بدور مقاتليها في هذه الحرب، بعد أن خاضت معارك شرسة ضد مقاتلي التنظيم، ما جعل قيادات اللجان الشعبية مستهدفة من قبل التنظيم. وقد ضمت اللجان في قوامها قرابة (8) آلاف شخص، وأصبحت مرادفًا للدفاع عن المدن أمام "تنظيم القاعدة".

وفي أوائل ديسمبر 2015م، سيطر "تنظيم القاعدة" مرة أخرى على مدينتي زنجبار وجعار، مستغلا انشغال القوات الحكومية بمواجهة مليشيا الحوثي الإرهابية نتيجة انقلابها على سلطة الدولة؛ وهو ما أدخل أبين في جولة جديدة وموجعة من العنف، اتسعت معه دائرة المعاناة والبؤس بين أبناء هذه المحافظة، فقد اضطرت قوات الجيش الوطني بدعم من لجان المقاومة الشعبية إلى خوض معارك جديدة مع "تنظيم القاعدة"، وبعد معارك طاحنة تمكنت من استعادة زنجبار في 14 أغسطس 2016م.

حروب الحوثيين:

شهدت محافظة أبين عام 2015م معارك طاحنة بين مليشيا الحوثي والقوات الموالية للرئيس الأسبق "صالح" من جهة، ووحدات الجيش الوطني التابعة للرئيس السابق "هادي" ولجان المقاومة الشعبية. فبعد أن زحفت مليشيات مليشيا الحوثي باتجاه أبين، انقسم موقف الوحدات العسكرية هناك، فقد أعلن اللواء (115 مشاة) في لودر وقوفه إلى جانب مليشيا الحوثي، في حين أعلن اللواء (111 مشاة) في مديرية أحور وقوفه إلى جانب السلطة الشرعية ممثلة في الرئيس "هادي".

ففي 27 مارس، سيطر مليشيا الحوثي على مدينة شقرة، على بحر العرب، لكنهم واجهوا مقاومة من القوات التابعة للسلطة الشرعية، برئاسة "هادي"، ومن "تنظيم القاع

                                           

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
بن مبارك يكشف من واشنطن حقيقة الانفصال والتطبيع ومساعي إنهاء الحوثي

أشاد رئيس الوزراء أحمد عوض بن مبارك، بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إعادة إدراج مليشيا الحوثي الإرهابية على لوائح الإرهاب. كذلك علّق بن مبارك في مقابلة خاصة مع قناة "الحرة" على قضايا مختلفة تشهدها المنطقة ومنها رؤية مشاهدة المزيد