تحقيق: مناهج "موقوتة" للحوثيين تهدد بتفجير الطفولة والتعايش المجتمعي

2025-05-17 23:44:14 أخبار اليوم/ يمن فيوتشر

   

تشعر "أم أمجد" بقلق بالغ على مستقبل أطفالها، "أمجد" 9 سنوات في الصف الخامس، و"هيثم" 7 سنوات في الصف الثالث، حيث شكّل ما يدرسه طفلاها ومعظم الطلاب الدارسين في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي الإرهابية المدعومة من النظام الإيراني، أمرًا صادمًا للغاية، وفق تعبير هذه الأم التي تتحدث بلسان آلاف الأمهات والآباء الذين يشعرون بأن مستقبل أبنائهم وهذا الجيل بالكامل في خطر بفعل المساس بمحتوى التعليم.

والأمر أكثر فداحة بالنسبة لمواطنين آخرين، منهم محمد قايد (اسم مستعار)، الذي فقد أحد أبنائه، 15 عامًا، حسبما كشفه لـ"يمن فيوتشر"، وهو في مرحلة الثانوية قبل نحو 4 أعوام، بعدما تفاجأ بتحوله من طالب إلى مجند، إلى جانب عيسى طاهر الذي ترك طفلاه بعمر 10 و13 عامًا المدرسة واتجها لسوق العمل قبل نحو عامين وثلاثة أعوام، حسبما قال، بينما زادت ملاحظات كثير من أرباب الأسر لتصرفات أطفالهم وأبنائهم بطرق غريبة وغير مألوفة إثر دراستهم مناهج معدلة ومحرضة في جزء كبير منها على العنف، والشحن المذهبي والطائفي.

عملت مليشيا الحوثي، على إعادة تشكيل العملية التعليمية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، خاصة في العاصمة المختطفة صنعاء، بما يخدم توجهاتها الأيديولوجية والطائفية. وتمثلت أبرز هذه التحركات في إدخال تعديلات جوهرية على المناهج الدراسية، لا سيما في المراحل الأساسية التي تُعد حجر الأساس في تشكيل وعي الأجيال الصاعدة.

أحصى "يمن فيوتشر" عدد التغييرات التي أجرتها مليشيا الحوثي على المناهج الدراسية بشكل خاص الأدبية والدينية، حيث وصلت إلى ما يقارب 530 تغييرًا، 90% منها تركزت في مناهج الصفوف الدراسية الأولى (الابتدائية) من الصف الأول إلى الصف السادس.

جرى تنفيذ هذه التعديلات عبر وزارة التربية والتعليم الخاضعة لمليشيا الحوثي (غير معترف بها)، والتي كان يرأسها آنذاك يحيى الحوثي، شقيق زعيم المليشيا عبد الملك الحوثي. وبرر حينها بأن هذه التغييرات تهدف إلى "تصويب الأخطاء المطبعية والعلمية" في المناهج السابقة.

في هذا التحقيق تكشف "يمن فيوتشر" بالأرقام والبيانات والأدلة عن أن التعديلات التي طرأت على المنهج الدراسي من قبل مليشيا الحوثي في صنعاء كانت تغييرات جذرية، وليس "تصويب للأخطاء المطبعية"، ملقية بتبعات مؤثرة على التعليم والأطفال والهوية الوطنية؛ حيث وصلت نسبة التغيير بحسب عملية رصد شاملة قامت بها المنصة، إلى أكثر من 75% من المناهج الأدبية والدينية الخاصة بالمرحلة الابتدائية، وجرى التغيير في السياق نفسه بنسبة تقدر بحوالي 60 و65% في مناهج المرحلتين الإعدادية والثانوية.

تتفاوت النسبة من منهج لآخر، ومن صف في مرحلة دراسية معينة إلى صف آخر، إذ لاحظ "يمن فيوتشر" تركز التعديلات والتغيرات في المنهج الأدبي "التاريخ - القراءة – التربية الإسلامية – القرآن (تم التركيز على وضع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الجهاد والقتال والموت)" بنسبة تصل إلى 95% في جميع مناهج الصفوف الابتدائية، الصفوف الخاصة بالأطفال ممن تتراوح أعمارهم بين 4 – 12 عامًا، في حين كانت النسبة متفاوتة من كتاب لآخر تتراوح بين 50 و70% في مناهج المرحلة الأساسية "طلاب الفئة العمرية من 12 – 14 و15 عامًا"، والمرحلة الثانوية "طلاب الفئة العمرية 14 و15 – 16 و17 عامًا."

غير أن هذه التعديلات جاءت مخالِفةً للقوانين وأحكام الدستور اليمني، بعدما وظِّفت المؤسسة التعليمية لخدمة أهداف سياسية وطائفية، بعيدًا عن الالتزام بالضوابط الوطنية التي ترسخ قيم التسامح والتعايش وتحفظ وحدة النسيج الاجتماعي اليمني، القائم على التنوع الثقافي والمذهبي والفكري.

وفق الدستور اليمني، فإن التشريع والتنظيم في مجال التعليم من اختصاص الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، فيما خدمت هذه التعديلات توجهات أيديولوجية وطائفية كما يكشف التحقيق مدللًا بالبيانات والأرقام ونصوص القوانين النافذة، وأدلة موثقة من المناهج ذاتها، وما يمثله هذا المساس بهذه الطريقة من انتهاك خطير وجريمة بحق الأطفال، خصوصًا من هم دون العاشرة، لما لها من أثر كارثي على وعي الأجيال المقبلة.

إضافة إلى كونها تمثل انتهاكًا واضحًا للاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها اتفاقية حقوق الطفل التي يُعد اليمن طرفًا فيها، حيث يُحظر أي محتوى تعليمي يُحرّض على العنف أو التمييز.

تؤكد الناشطة والحقوقية هدى الصراري رئيسة مؤسسة دفاع للحقوق والحريات، لـ"يمن فيوتشر"، على خطورة تسخير العملية التعليمية لأغراض طائفية أو سياسية، مؤكدة أن هذه الممارسات تمثل انتهاكًا صارخًا للدستور اليمني والقوانين الوطنية والدولية، وتُعد تهديدًا مباشرًا لوحدة النسيج الاجتماعي والأمن الثقافي للبلاد.

وتضيف أن الدستور اليمني يضمن حرية الفكر والتعبير، وأن التعليم حق مكفول لجميع المواطنين، ويهدف إلى تعزيز القيم الدينية والوطنية والإنسانية، موضحًة أن تسييس المناهج الدراسية يُخل بمهام المؤسسات التعليمية ويقوّض حيادها، وهو ما ينعكس سلبًا على الطلاب والمجتمع ككل.

يجب أن تهدف المناهج التعليمية إلى تكوين الطفل تكوينًا علميًا وثقافيًا وتنمية شخصيته ومواهبه ومهاراته وتعريفه بأمور دينه وتربيته على الاعتزاز بذاته وكرامته واحترامه للآخرين وكرامتهم والتشبع بقيم الخير والحق والإنسانية، بما يضمن إعداده إعدادًا متكاملًا يجعل منه إنسانًا مؤهلًا مؤمنًا بربه ووطنه قادرًا على الإسهام بكفاءة في مجالات الإنتاج والخدمات أو مهينا لاستكمال التعليم العالي على أساس تكافؤ الفرص بين الجنسين. قانون رقم (45) بشأن حقوق الطفل- المادة (82).

وتحذر الصراري من خرق قانون حقوق الطفل، متطرقة إلى المادة (82) من قانون حقوق الطفل اليمني، والتي تنص على أن "لكل طفل الحق في التعليم المجاني في المراحل الأساسية، وأن يكون التعليم موجهًا لتحقيق التنمية الكاملة للطفل واحترام حقوق الإنسان"، معتبرًة أن إدخال مضامين طائفية أو أيديولوجية في المناهج الدراسية يُعد انتهاكًا لهذا النص، كونه يخل بمبدأ الحياد، ويُعرّض الأطفال لعمليات تلقين فكري، تمثل استغلالًا صريحًا لهم.

الهوية الوطنية في خطر

لم تكتفِ مليشيا الحوثي، بتغيير المناهج الدراسية وفرض رؤيتها الفكرية والسياسية على الطلاب، بل عمدت إلى تغييب أعلام وطنية، واستبدالها بشخصيات طائفية تخدم أيديولوجيتها الخاصة، مما يثير مخاوف كبيرة حول مستقبل الهوية الوطنية اليمنية، في وقت تُعد فيه المناهج الدراسية أحد أهم أدوات بناء وعي الأجيال وصياغة مستقبل الشعوب.

تعديلات المناهج الدراسية تزامنت مع إلزام المعلمين والطلاب بمضامينها دون أي نقاش مجتمعي أو تربوي، إذ تمثلت أبرز هذه التغييرات في إدراج شخصيات طائفية غير يمنية ضمن الدروس، وتقديمها كنماذج يجب أن يقتدي ويحتفي بها الطلاب ويحتذوا بها في سلوكهم، في تجاهلٍ متعمَّد لتعدد وتنوع الهوية اليمنية الجامعة.

وعلى سبيل المثال، تم إدراج درس عن شخصية "راغب حرب" – وهي شخصية لبنانية معروفة بانتمائها لحزب الله – ضمن مادة اللغة العربية للصف السابع، بينما حُذفت دروس لشخصيات يمنية تاريخية من مادة التربية الوطنية للصف الخامس، مثل "محمد محمود الزبيري" و"علي عبدالمغني"، اللذين يُعدان من رموز ثورة 26 سبتمبر التي قامت ضد الحكم الإمامي ويجمع عليها اليمنيون كأحد أعظم الأحداث التي شهدتها البلاد، منتصف القرن الماضي، وإضافة شخصيات خاصة بالمليشيا كالإمام القاسم بن محمد، مؤسس الدولة القاسمية.

أثارت هذه التعديلات تساؤلات عديدة لدى الطلاب أنفسهم؛ من هؤلاء؟ ولماذا ندرُس سيرتهم؟ وما الذي قدّموه لليمن؟ وهي تساؤلات تعكس حالة من الاغتراب الثقافي والهوية التي بدأت تتشكل في أذهان الجيل الناشئ نتيجة هذه السياسات.

في السياق، لم تعد فاطمة يحيى، معلمة لغة عربية للمراحل الأساسية (سادس/سابع/ثامن)، تشعر بالراحة أثناء وقوفها وشرحها للطلاب، إذ تقول لـ"يمن فيوتشر": أرى الخيبة على وجوههم، مفردات لا يفهمونها، خاصة في دروس مثل "التصنيع الحربي" وأسماء الأسلحة الغريبة التي لا تمتّ لطفولتهم بصلة؛ بل إن بعض دروس الأدب والنصوص تتضمن أدعية وقصائد لم أقرأ عنها طيلة دراستي الجامعية، ولا حتى أثناء تحضيري لدرجة الماجستير المتخصص بالأدب".

يرصد "يمن فيوتشر" حذف سيرة شعراء كبار من أعلام اليمن مثل عبدالعزيز المقالح وعبدالله البردوني، "مع أنهم الأجدر بأن يكونوا قدوة للطلاب"، وفق حديث المعلمة فاطمة، واستُبدلوا بشعراء تابعين للمليشيا. وأصبحت اللغة العربية تُدرس بطريقة مؤدلجة، فقصائد معاذ الجنيد مثلًا، وهو شاعر شاب، فُرضت على الطلاب دراسةً وحفظًا، إضافة إلى التهكم والسخرية من قبل الطلاب خاصة بعد انتشار قصائده القديمة على مواقع التواصل الاجتماعي جراء مشاركته في إحدى مواسم برنامج "شاعر المليون" قبل الحرب.

تستطرد المعلمة: "بحثت عن معلومات إضافية حول درس مالك الأشتر لأثري الشرح، فلم أجد ما يساعد، بل وجدت أن الأمثلة والمفردات كلها تدور حول الأفكار الجهادية."

"حتى الأمثلة النحوية لم تسلم، فهي الأخرى غارقة في عبارات الجهاد والمفاهيم السياسية، بعدما دُمجت السياسة بالتعليم بشكل فج"، والحديث للمعلمة فاطمة، "مما شوّه مضمون المناهج وأفقدها هدفها التربوي."

يقول أسامة اليمني (اسم مستعار)، معلم لغة عربية، لـ"يمن فيوتشر"، "درست اللغة العربية سنوات طويلة، وأستمتع بتدريسها كثيرًا، لكن ما رأيته في كتاب الصف السابع كان كارثة بكل المقاييس، لم أجد أسوأ منه طوال مسيرتي التعليمية. نظرات الخيبة التي تعلو وجوه الطلاب مؤلمة، خاصة عندما يُطلب منهم فهم مفردات غريبة أو التعامل مع تمارين غير منطقية.

يتابع أسامة بنبرة حزينة: جميع الزملاء يعانون من تدريس هذا المنهج، ويشتكون منه؛ وأردت أن أوصل لك – بلسان كل معلم – ماذا يحدث حقًا داخل الصفوف الدراسية. ولا أنسى الأمثلة النحوية المزعجة، المليئة بكلمات الموت والقتال، التي لا تُناسب بيئة الطالب النفسية ولا عمره الدراسي.

تغييرات سياسية وطائفية

بالمقابل، شهدت كتب التربية الاجتماعية في المراحل الأساسية تغييرات واسعة، يمكن تصنيفها إلى نوعين؛ الأول تغييرات ذات طابع سياسي وطائفي، والثاني تغييرات وصفية عادية.

من أبرز ملامح التغيير ذات الطابع السياسي، التركيز الواضح على آل البيت وما تعرضوا له من ظلم في عهد الدولة الأموية، وهو ما انعكس في غالبية دروس التاريخ بشكل ملحوظ، كما تم تمجيد الحكم الزيدي في اليمن وكيف وحد اليمن وقضى على الظلم والطغيان آنذاك.

 لم تقتصر التغييرات في هذا الشأن على كتب التاريخ فقط، بل امتدت إلى كتب التربية الوطنية، حيث تم حذف بعض الدروس المتعلقة بالمناسبات الوطنية، إضافة إلى عرض المبادرة الخليجية على أنها سبب مباشر في تدمير اليمن، مدعّمة بصور توضيحية في كتاب الاجتماعيات للصف الرابع.

لكن التغييرات لم تتوقف عند المحتوى الأيديولوجي فقط، بل شملت أيضًا أخطاءً علمية ومطبعية كثيرة.

في هذا الخصوص، يشير الأستاذ فايز أحمد، وهو معلم لمادة التربية الاجتماعية، في حديث لـ"يمن فيوتشر"، إلى وجود تضارب في المعلومات بين الدروس؛ على سبيل المثال: في الصف التاسع، يظهر اختلاف في ارتفاع جبل النبي شعيب من درس لآخر.

كذلك الأمر مع مساحة جزيرة سقطرى التي تختلف بحسب الدرس. وفي الصف الثامن، تختلف مساحة القارات من درس إلى آخر، وهو تناقض واضح في المنهج نفسه، وأيضًا، في جغرافيا الصف الثامن، يظهر أن عدد سكان القارات ثابت من عام لآخر، رغم تغيّر الرقم سنويًا بطبيعة الحال.

أما في الصف السادس، فقد أشار فايز إلى أن المنهج، خاصةً مادة التاريخ، لا تتناسب مع مستوى الطالب العقلي أو العمري لما يحوي من معلومات كثيرة وطائفية، مما يشكل عبئًا إضافيًا على الطلاب والمعلمين حيث أعاد إدراج هذه الدروس فتح ملفات تاريخية حساسة، ويُسهم في إثارة النعرات الطائفية بين الطلاب، كما يُعيد إحياء التباينات القديمة التي تجاوزها المجتمع، بدلًا من أن يركز التعليم على ترسيخ مبادئ التعايش والسلام والانتماء الوطني.

نماذج محبطة وصادمة

اعتاد طلاب المدارس في اليمن أن يشعروا بالفرح في أول يوم دراسي عند استلامهم للكتب الجديدة. كانت الرسومات على أغلفة المناهج تبعث البهجة، وتمنح الطلاب حماسًا لبداية عام دراسي جديد، حيث يُعتبر الغلاف البوابة الأولى التي "تفتح النفس" وتشجع على حب التعلم والطموح لبناء مستقبل أفضل.

لكن هذا المشهد تغيّر جذريًا في مناطق شمال اليمن الخاضعة لسيطرة مليشيا الحوثي الإرهابية، حيث أصبحت أغلفة الكتب تنقل رسائل سلبية وصادمة مليئة بصور وعناوين تدور حول الموت والفناء، مما يبث الإحباط في نفوس الطلاب.

يتساءل أحد طلاب الصف التاسع بعد قراءته لعبارة "من أحب الحياة عاش ذليلًا" على غلاف كتاب اللغة العربية أصابته بالصدمة: لماذا نتعلم إذن؟ إذا كنا أذلة لأننا نريد العيش ونحب الحياة، وإذا كانت الحياة فعلًا لا تستحق، فلماذا أستيقظ كل صباح وأواجه الصعوبات، وأذاكر وأكتب واجباتي وأتعب؟ ماذا سنستفيد؟"

بحسب استبيان أجرته "يمن فيوتشر"، شمل 5 مدارس أهلية وحكومية، تبيّن أن حوالي 30% من طلاب المراحل الأساسية يفضّلون المواد العلمية مثل العلوم والرياضيات عن بقية المواد، وهي المواد الدراسية التي لم تشهد أي تعديلات أو تغييرات منذ سنوات ما قبل الحرب في اليمن.

لا تكمن المشكلة في أغلفة الكتب الدراسية فحسب، بل تمتد إلى مضمونها ذاته، والذي يترك أثرًا أعمق في نفوس الطلبة، إذ تقول ريما عادل، طالبة في الصف الثامن لـ"يمن فيوتشر": "أنا أكره كتاب التاريخ، وأتمنى في كل مرة أن تكون المعلمة غائبة، أو أن تُستبدل حصتها بحصة الرسم أو اللعب".

ركزت مليشيا الحوثي في عملية تغيير المناهج على كتب مثل التاريخ الذي يعتبر أكثر الكتب الدراسية لجميع الصفوف التي خضعت لتغيير جذري شمل إزالة إي ذكر لثورة 26 سبتمبر واستبدالها بتاريخ انقلاب الحوثيين على مؤسسات الدولة في 21 سبتمبر 2014.

تضيف ريما أنها أصبحت تكره المواد الأدبية كالتاريخ واللغة العربية، خاصة دروس القراءة والنصوص، وتتحدث بتهكم؛ "لماذا أحفظ قصيدة هاني طومر أو "هُمُ الشُّعْثُ" وأنا لم أفهم منها شيء ولا تعنيني ولا أزال أذكرها من باب السخرية فقط".

صور وأناشيد لا تتناسب مع الأطفال

لا تقتصر الصور والمضامين الجديدة في المناهج الدراسية على المراحل المتوسطة فقط، بل تمتد أيضًا إلى الصفوف الأولى، حيث تُغرس مفاهيم لا تتناسب مع بيئة الطفل النفسية ولا عمره الدراسي. فعلى سبيل المثال، يظهر في غلاف كتاب التربية الإسلامية للصف الثاني الابتدائي صورة لطفل يتبرع لصندوق دعم "المجهود الحربي"، في مشهد يغرس في ذهن الطفل الارتباط المبكر بمفاهيم الحرب بدلًا من قيم السلام والتسامح.

أمثلة على التغييرات التي حصلت في المناهج الدراسية

*في كتاب اللغة العربية للصف التاسع الجزء الأول أضافت المليشيا درسًا عن الحجاج تحت عنوان "دماء الحجيج"، صفحة 138، ذكرت فيه، ضمن تأجيج الصراع، أن جماعة من الجيش السعودي آنذاك قاطعت الحجاج وأردتهم قتلى بدون وجه حق.

*في درس الخلفاء الراشدين أظهر الدرس عمر بن الخطاب في كتاب التاريخ للصف السادس بشكل مختصر ومصغر بينما أظهر علي بن أبي طالب بشكل أكثر توسع وبإسهاب مبالغ به، ويظهر هنا التمييز بين "الصحابة"، حيث ذكر الكتاب أن عمر ابن الخطاب قُتل بينما ذكر الكتاب أن علي بن أبي طالب استشهد إضافة إلى الإسهاب في ذكر استشهاد الحسين بن علي، إلى جانب مغالطة تاريخية بحذف لقب أبو لؤلوة المجوسي من المنهج.

*إضافة إلى ذلك في درس الدولة الأموية لم يذكر الكتاب التاريخ الإسلامي إلا في إطار مهاجمة بني أمية، فيما تجاوز درس الدولة الزيدية بمدح الإمام الهادي حد توصيفه بموحد اليمن دون حقائق تاريخية.

وتتضمن مناهج المرحلة الابتدائية أيضًا العديد من التجاوزات، منها تغيير الأناشيد المدرسية التقليدية واستبدالها بأناشيد مؤدلجة تتوافق مع أفكار المليشيا، حيث تم رصد بعض الآيات في كتابي القرآن والتربية الإسلامية والتي تم تفسيرها وفق رؤية المليشيا، مثل تفسير النص في سورة الفاتحة: "صراط الذين أنعمت عليهم"، على سبيل المثال، حيث فُسرت بأنهم الأنبياء وأعلام الهدى، ويُقصد بـ"أعلام الهدى" الرموز الدينية الخاصة بالمليشيا، مما يرسخ في أذهان الطلاب منذ الصغر معصومية هذه الرموز من الخطأ، وأن من يخالفهم الرأي أو المذهب يُعتبر خصمًا أو عدوًا. كذلك تم تعديل كيفية أداء صلاة العيد لتتوافق مع مذهب المليشيا، دون مراعاة للتنوع المذهبي الواسع الذي يميز المجتمع اليمني،" الأمر الذي صعّب على الأطفال حفظها وفهمها، ووضع أولياء الأمور في موقف مربك أثناء شرحها لهم في المنزل.

انفصال فكري وذهني

في عصر التكنولوجيا وتسابق الأجيال نحو المعرفة وتشجيعها لمواكبة التطورات اللا متناهية يقف الطالب اليمني أسيرًا بين ما يرى حوله من تطورات علمية ومعرفية وتكنولوجية، وما يُلقن في المدرسة، مما يجعله يعيش حالة من التناقض فيشعر بصراع داخلي وحالة من التشتت وفقدان المعنى وضعف الدافع للتعلم، وبات يرى أن ما يقوم بدراسته يمثل حجر عثرة في طريقه نحو الاندماج بالتغيرات العالمية من حوله.

تروي شقيقة الطفل "م.ن"، البالغ من العمر 13 عامًا، تفاصيل فقدان شقيقها لمدة ثلاثة أشهر بعد أن تأثر بفكر المليشيا أثناء دراسته، تقول لـ"يمن فيوتشر": "أختفى فجأة بعد أن بدأت تظهر عليه علامات الانطواء والميول للعدوانية حيث يعيش إلى جانب ثلاثة من أخوته مع جدتهم بعد انفصال الأب والأم التي غادرت إلى القرية، في حين الأب في إحدى دول الاغتراب."

تتابع، "بعد بحث طويل عنه علمنا التحاقه بدورة تدريبية تتبع المليشيا عن طريق أحد المشرفين"، مضيفة، "بعد تدخلات واسعة، وافقوا على عودته للمنزل بعد دفع مبلغ كبير، شريطة أن يعود إليهم بعد أن يبلغ سن الثامنة عشرة، لكنه عاد شخصًا مختلفًا؛ أصبح انطوائيًا أكثر وعنيفًا بشكل لا يطاق، ولم يعد مهتمًا بدراسته أو بأحد في البيت."

وفق شهادات من داخل المدرسة، فإن "م.ن" اجتاز الامتحانات الأساسية رغم تغيبه الطويل، والأمر يعود إلى مشاركته ضمن دورة تابعة للمليشيا، ما أشعر زملاءه في الصف بحالة من اختلال العدالة التعليمية.

تؤكد تقارير محلية أن مدارس صنعاء الحكومية تشهد تناميًا في مثل هذه الحالات، حيث يُفضل بعض الطلاب حضور تلك الدورات أو التوجه للجبهات، مما يضع مستقبلهم في مهب الريح، ويهدد بتحويل التعليم إلى واجهة شكلية.

لوحظ تكرار الأسماء التالية في جميع الكتب الدراسية: علي، فاطمة، زينب، زين العابدين، زيد، والحسن، واستُخدمت في كل فرصة ممكنة، كما تكررت الإشارة إلى معركة صفين بأكثر من صيغة.

واشتملت بعض الدروس على صور دموية لا تراعي الخصوصية العمرية للأطفال، إلى جانب صور لأسلحة وصواريخ لا تمتّ بصلة لعالمهم الطفولي، ولا تنسجم مع بيئتهم التعليمية، كما في درس الصمود الأسطوري للصف التاسع، الجزء الثاني، صفحة رقم 134.

وتضمّن منهج الصف الثامن درسًا يحذر من خطر الطائفية، في حين أن المنهج نفسه لم يتناول سوى قصائد ذات طابع طائفي، فيما ينتمي جميع الشعراء المختارين إلى خلفية فكرية وسياسية واحدة.

بحسب الخبير المختص في الجانب النفسي التربوي حسام عبد الرحمن، لـ"يمن فيوتشر"، عندما يدرس الطالب محتوىً جامدًا لا يتماشى مع تطورات العالم من حوله، ينشأ لديه شعور بالانفصال الفكري والذهني، إذ يخلق هذا التناقض حالة من التشتت، حيث يصبح ما يتلقاه الطالب في المدرسة مختلفًا عن ما يشاهده على الإنترنت أو يسمعه في وسائل الإعلام، مما يؤثر على شعوره بالمعنى والارتباط بما يتعلمه.

إضافة إلى غياب التحفيز الذهني والنفسي في المناهج الدراسية والتي لا تحفّز الطالب على التفكير النقدي أو الإبداعي قدر ما تغلب عليها النزعة التلقينية التي عادة ما تضعف دافعية الطالب للتعلم، وتدفعه إلى الانسحاب النفسي من العملية التعليمية برمتها. ومع تكرار هذا النمط، قد تظهر عليه علامات القلق أو الاكتئاب الخفيف، نتيجة شعوره بالعجز أو عدم الفائدة، وهو ما يتعارض تمامًا مع الصحة النفسية السليمة التي تعتمد على الإحساس بالمعنى والارتباط الفعّال بالحياة والمستقبل.

وتتزايد المخاوف من استغلال بعض الطلاب واستقطابهم لدورات فكرية ومعسكرات تابعة للمليشيا نتيجة تعبئة مغلوطة أو اندفاع بسبب الشعور بالعجز واضطراب المشاعر خاصة الطلاب الذين يعانون من الإهمال العاطفي والتربوي، أو من أسر مفككة.

ويعتبر عبدالرحمن أن الطلاق أو غياب أحد الوالدين، الإهمال المزمن، أو حتى الضغط المفرط داخل الأسرة، كلها عوامل تُشكّل بيئة خصبة لانعكاس أي مضمون تعليمي سلبي، أو سوء فهم، مؤكدًا أن ما يتلقاه الطالب في المدرسة لا ينفصل عما يعيشه في البيت، فالبيت الهش لا يحمي الطفل من المناهج المشوشة، بل يضخم أثرها.

يشير تقرير صادر عن منظمة ميون لحقوق الإنسان والتنمية إلى أن 640 طفلًا مجندًا تتراوح أعمارهم بين 13 و17 عامًا قد قُتلوا خلال النصف الأول عام 2021 فقط، نتيجة الزج بهم في جبهات القتال.

ويرى حسام عبدالرحمن، وهو اختصاصي بالجانب النفسي التربوي، أن دعم الأهل للطالب نفسيًا وفكريًا عبر الحوار المفتوح حول ما يتعلمه ومساعدته في فهم الفروق بين التعليم الأكاديمي وواقع الحياة هو واجب أخلاقي لتنشئة جيل ذي عقل متزن ومستعد للمستقبل من خلال تهيئة بيئة تعليمية نفسية صحية في المنزل، تحترم عقل الطالب وتُنمّي فضوله وإحساسه بالمعنى والانتماء بعيداً عن سلطة الأمر الواقع.

كما أظهر الاستبيان الذي أُجري على عينة من أولياء الأمور أن واحدًا من كل خمسة أشخاص قد فكّر في توقيف ابنه عن الدراسة، نتيجة عدم رضاهم عن المنهج الحالي، في ظل غياب بدائل مناسبة.

وعند طرح سؤال حول إمكانية تسجيل الطفل في مدارس تعتمد التعليم الآمن عن بُعد، في حال توافقت المناهج مع رؤية الأهل لمستقبل أبنائهم، عبّر أكثر من نصف المشاركين عن استعدادهم لنقل أبنائهم من المدارس التقليدية إلى تلك المدارس البديلة أو إلى التعليم عبر الإنترنت.

تقول رضية عُبادي أخصائية اجتماعية، لـ"يمن فيوتشر"، إن التغييرات في المناهج الدراسية التي تكون مشبعة برسائل طائفية أو توجهات فكرية أحادية، لا تؤثر فقط على التحصيل الأكاديمي للطالب فقط، بل تمتد إلى تشكيل وعيه الاجتماعي مستقبلًا، ورؤيته لذاته وللآخر المختلف عنه.

"لذا في المستقبل، سنواجه جيلًا مرتبكًا، يفتقر للقدرة على تقبّل التنوع أو الحوار أو النقد البنّاء، وهي سمات ضرورية لأي مجتمع يسعى للاستقرار والتنمية. لهذا فإن بناء منهج يربّي على قيم السلام والتسامح والانتماء الوطني هو مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون تعليمية،" وترى عبادي أن الطفل الذي ينشأ وسط بيئة تعليمية تزرع الخوف أو تمجد العنف وتُقصي الآخر، غالبًا ما يكبر وهو يحمل تصورات مشوهة عن مجتمعه، مما يؤدي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وتنامي روح الانقسام والكراهية بين مكونات المجتمع الواحد.

بين التوجيه والإغراق؛ أين الاعتدال؟

تواجه العملية التعليمية في المدارس الحكومية تحديًا إضافيًا يتمثل في غياب الكادر المؤهل، حيث يعزف كثير من المعلمين المتخصصين عن مزاولة التعليم بسبب انقطاع الرواتب.

تقول والدة إحدى الطالبات في الصف الثاني: "المعلمة التي تُدرّس ابنتي لا تمتلك حتى شهادة ثانوية، وهذا أمر خطير. كيف لمعلمة غير مؤهلة أن تكون مسؤولة عن مرحلة تأسيسية كهذه؟"

تضيف أن هذه لم تكن شكواها فقط، فثمة شكاوى عديدة من أولياء أمور آخرين، وكلها تدور حول ضعف الكفاءة التعليمية وتأثيرها المباشر على الأطفال لكن دون جدوى.

من جانبها تقول أم طالب في خامس ابتدائي يُدعى حامد، لـ"يمن فيوتشر"، إن طفلها أصبح يكره المدرسة، لا يتقبل المعلومات التي تُعطى له، ويشعر أن كل شيء مفروض عليه ولا يفهم السبب.

في استبيان أجرته المنصة، وُجّه لمجموعة من أولياء الأمور حول أثر التغييرات في المناهج الدراسية، جاءت الردود صادمة في بعض تفاصيلها، إذ عبّرت نسبة كبيرة منهم عن قلق بالغ حيال هذه التغييرات، مشيرين إلى أن أبناءهم لم يعودوا يكترثون للدراسة، بل فقدوا شغف التعلم، وأصبحوا ينظرون إلى التعليم نظرة نفور ورفض.

بحسب مواطنين، فإن هناك تأثيرًا نفسيًا وسلوكيًا واضحًا بسبب المناهج على أبنائهم التي يرون أنها تزرع فيهم التشتت والانغلاق، وتجعلهم أكثر قابلية للانجرار خل

                                                                   

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
استعدادات الحكومة للحسم العسكري: وزير الدفاع يكشف خطط المواجهة مع الحوثيين

وزير الدفاع في حوار مع “العين الإخبارية”: حربٌ لم ينطفئ لهيبها، وهدنٌ مكسورة، وسلامٌ يُغتال قبل أن يولد.. هنا اليمن.. هنا تُسرق أحلام شعب بقبضة مليشيا لا تعرف إلا لغة الدم.. وهنا قوات شرعية تقف كالطود الأشم، وشعبٌ يقس مشاهدة المزيد