2025-07-05
"مصانع الدهون"... سرّ جديد من أسرار البقاء لدى إنسان نياندرتال
لا تسير الهويات في خطوط مستقيمة في مدوّنة التاريخ الإسلامي، ولا تُحدَّد الانتماءات بحدود الجغرافيا أو مواضع الميلاد كما هي الحال في أنظمة الجنسيات الحديثة. فقد نجد عالمًا كبيرًا يُنسب إلى مدينة لم يولد فيها، أو يشتهر باسم موطن لم يدفن فيه، أو يُعرف ببلد لم يعش فيه إلا يسيرًا من عمره. وذلك لأن العلاقة بين الإنسان والمكان في الحضارة الإسلامية لم تكن مجرد علاقة نشأة أو إقامة، بل كانت علاقة علم وسند ومدرسة، ومنزلة في التصنيف والانتساب.
لقد شكّل نظام النسبة في الإسلام أحد أبرز ملامح التكوين العلمي والثقافي، حيث لم تكن الأنساب مقتصرة على الدماء، ولا كانت الانتماءات قاصرة على التراب، وإنما كانت المدن والحواضر رموزًا للمدارس والمناهج، وأسماء البلاد شواهد على البيئة العلمية التي ينتمي إليها صاحبها. فالعالم قد يُنسب إلى بلده الأصلي، أو إلى موطن آبائه، أو إلى المكان الذي طلب فيه العلم، أو حيث اشتهر وتفرّد في حلقاته، أو حيث نُقل عنه الحديث وروي علمه.
ومن هذا الباب، تأتي دراسة علمية بعنوان "صنعانيون، ولكن من دمشق" للأستاذ الدكتور عبد العزيز الصغير دخان، المنشورة في مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة والدراسات الإسلامية عام 1431هـ / 2010م، لتفتح نافذة نادرة على ظاهرة ثقافية وعلمية مدهشة ومغفلة في آن معًا: علماء حديث نُسبوا إلى صنعاء، وهم في الواقع عاشوا في دمشق، أو وُلدوا بها، أو قضوا عمرهم في مجالسها، وأفادوا منها وأفادوها.
هذه النسبة لا تعني خطأً في كتب التراجم، ولا تعكس وهمًا في التوثيق، وإنما تمثّل امتدادًا حيًا لنظام النسبة في الثقافة الإسلامية، حيث لا يُنظر إلى المكان بوصفه مجرد موقع ميلاد، ولكن باعتباره رمزًا لهوية علمية، أو انتسابًا إلى مدرسة، أو ارتباطًا بسلسلة إسناد ومرجعية فكرية.
"صنعاء دمشق" هجرة الأسماء.. وإقامة الذاكرة
تكشف الدراسة عن مفارقة تاريخية نادرة قلما التفت إليها الباحثون، وهي وجود موضعين يحملان الاسم نفسه "صنعاء"، لكن أحدهما في قلب اليمن والآخر في غوطة دمشق. ليست المفارقة في التشابه الاسمي فحسب، بل فيما ترتب عليه من التباس علمي وثقافي في كتب التراجم والأنساب، حيث اختلطت النسبة بين صنعاء اليمن وصنعاء الشام، وأدى ذلك إلى إسناد بعض العلماء إلى صنعاء اليمن بينما هم في الأصل من بلاد الشام، وبالتحديد من قرية "صنعاء دمشق" التي اندثرت لاحقًا.
صنعاء اليمن كانت وما تزال العاصمة التاريخية للبلاد، ومركزًا من مراكز العلم والفقه والحديث، ارتبط اسمها بكبار العلماء، وعلى رأسهم الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211هـ)، أحد كبار المحدثين في القرن الثاني الهجري، وصاحب "المصنف"، أحد أشهر كتب الحديث. وقد رسّخ عبد الرزاق ومن جاء بعده من علماء اليمن النسبة إلى صنعاء كعلم على مرجعية علمية سنية متينة، ساهمت في تدوين الحديث ونقله إلى أصقاع العالم الإسلامي.
أما صنعاء دمشق فهي قرية صغيرة في غوطة دمشق، استوطنها قوم من اليمانيين القدماء الذين انتقلوا إلى الشام في فترات مختلفة، وسمّوها تيمّنًا ببلدتهم الأصلية، في تعبير واضح عن الحنين والاعتزاز بالانتماء. وصفها العلامة محمد كرد علي بأنها من القرى التي نزلها اليمنيون في دمشق، وكانت تقع بين "المزة" و"رتل الثعالب"، وقد أقيم فيها مسجد يُعرف بمسجد "خاتون".
وكتب عنها الصحفي عيسى فتوح في مجلة الإكليل (1983) مؤكدًا أنها عُرفت بعناية خاصة بعلم الحديث، وكان لها شأن علمي قبل أن يندثر اسمها مع الزمن. أما المحقق محمد أحمد دهمان فأشار إلى أن القرية تحولت في القرن السادس الهجري إلى مزرعة، ولم يبقَ من آثارها إلا بساتين تُروى من نبع المنيبيع، دون معالم سكانية بارزة.
ويذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان أن غوطة دمشق كانت تضم عشرات القرى التي اندثرت أسماؤها، ومنها قرية "صنعاء" التي لم يحدد موقعها بدقة، لكنها كانت مأهولة في بعض القرون ثم انقرضت.
وقد سجّل الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي الشافعي (ت 841هـ) في كتابه نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس ما يؤكد وجود هذه النسبة الشامية، إذ قال: "صنعاء هي ممدودة، قاعدة اليمن. ولهم صنعاء أخرى بدمشق، وهي المنيبيع أو بقربها، والنسبة إليها صنعاني بالنون."
وهذا النص يوضح أن النسبة إلى "صنعاء" لم تكن حكرًا على اليمن، ولكنها كانت تُطلق أيضا على من سكن القرية الشامية، وهو ما يفتح بابًا لتأمل عميق في معنى الانتماء المكاني في الثقافة الإسلامية، وكيف أن الأسماء قد تعبر الحدود وتنتقل مع ساكنيها إلى بلاد جديدة، وتُعيد تشكيل الذاكرة في المكان الجديد.
وعند التخوم الغربية لدمشق، خارج أسوارها القديمة، تقف منطقة حي البرامكة اليوم حيًّا نابضا بالجامعات والمؤسسات والطرقات المتشابكة، لكنها تخفي تحت إسفلتها اسما غابرا يكاد يُنسى: "صنعاء دمشق" في كتب الجغرافيين ورواة المدن، تُذكر هذه الأرض بأنها كانت قرية صغيرة في العهد الأموي، استوطنها قوم من اليمانيين الذين ارتحلوا من صنعاء اليمن، فاستعادوا في المنفى الجغرافي اسم الموطن، وأطلقوا على مستقرّهم الجديد اسم مدينتهم الأولى: صنعاء. كان ذلك تثبيتًا للهوية في وجه المسافة، ومحاولة لزرع الذاكرة في تربة غريبة.
لكن الاسم لم يبقَ، فعبر قرون من التحول، أُعيدت تسمية المكان إلى "تل الثعالب"، ثم إلى "البرامكة"، نسبةً إلى مقبرة آل البرمك التي كانت قائمة هناك، لتتحول لاحقًا إلى حي عمراني حيوي يضم مرافق تعليمية وإدارية بارزة.
وتوضح موسوعة ويكيبيديا والموسوعة الدمشقية أن حيّ البرامكة الواقع غرب دمشق، كان يُعرف في العهد الأموي باسم "صنعاء دمشق" أو "صنعاء الشام"، وسكنه قوم من اليمنيين الذين أطلقوا على موضعهم الجديد اسم موطنهم الأصلي. ومع الوقت تغيّر الاسم، كما تغيّرت معالم المكان، فاختفى الاسم القديم تحت طبقات الذاكرة، لكن ظلاله لا تزال حاضرة في خرائط البحث التاريخي والمعرفي. وخلاصة ذلك:
• من الناحية الجغرافية: تُعرف هذه المنطقة الغربية حتى اليوم باسم حي البرامكة.
• من الناحية التاريخية: كانت تُعرف بـ"صنعاء دمشق"، نتيجة استيطان اليمانيين في غوطة دمشق.
• من الناحية الثقافية: ظلّ الاسم القديم محفوظا في كتب التراجم والمصادر الجغرافية، شاهدا على انتقال الاسم والهوية مع الإنسان.
لم تنتقل صنعاء إلى دمشق بوصفها مجرد اسم منسي، وإنما كانت قرية حقيقية زرعها القادمون من اليمن على أطراف المدينة. ومع مرور الزمن، تغيّر الاسم وذابت معالمها في زحام الأحياء، لكن من يبحث في تاريخ المكان سيجد فيها شاهدا حيا على كيف تُشكِّل الهجرة الجغرافيا، وكيف تترك الأقدام الراحلة أسماء تعيش بعد اختفاء أصحابها.
علماء "صنعانيون" في الشام: شواهد من التاريخ
تشير الدراسة إلى عدد من العلماء الذين حملوا النسبة إلى “صنعاء” رغم أن نشاطهم العلمي وإقامتهم الدائمة كانت في بلاد الشام، وتحديدًا في دمشق. وهذا ما يؤكد فكرة "النسبة العابرة للجغرافيا"، والتي تجعل من الموطن العلمي أو الأصل القبلي أو الانتساب الروحي إلى مدينة أو بيئة معينة مرجعيةً لنسبة العالم، ولو لم يعش فيها فعليًا.
ومن أبرز هؤلاء العلماء:
- حفص بن عمر بن ميمون العدني ويقال له الصنعاني: كان يُلقب بالفرخ، وأصله من عدن، لكنه استقر في دمشق، وبرز فيها كراوٍ ومحدث، وأخذ عنه جمع من العلماء. وقد أكسبه ارتباطه بمدينة صنعاء (أو بمسقطه في الجنوب اليمني عموما) نسبته هذه، رغم إقامته ووفاته في الشام، حيث عُدَّ من أهلها روايةً ومقامًا.
- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الصنعاني الدمشقي: وُصف بأنه من أهل دمشق، وتلقى عنه الإمام الدارقطني، أحد كبار المحدّثين في القرن الرابع الهجري. وتبرز هذه الرواية قيمة الرجل العلمية في بيئة شامية خالصة، رغم حمله للنسبة "الصنعانية".
- أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الصنعاني: من المحدثين المعروفين بالشام، اشتهر بعلوم الرواية، ويُحتمل أن تكون نسبته إلى صنعاء بسبب انحداره من أسرة يمنية الأصل، أو سكنه في قرية "صنعاء" الدمشقية.
- أبو العباس أحمد بن عبد الله الصنعاني: أحد مشايخ دمشق المعروفين في مجال الحديث، عُرف بحضوره في حلقات العلم والرواية، مما يؤكد تشكله العلمي في الشام.
- أبو بكر محمد بن إسماعيل الصنعاني: ورد اسمه في طبقات الشافعية للسبكي، دلالة على حضوره في الفقه، وهو دليل إضافي على عمق الامتزاج العلمي بين الهوية اليمنية الأصلية والبيئة الشامية المقيمة.
كما أوردت الدراسة مجموعة من الرواة ممن حملوا النسبة إلى "صنعاء"، وتدل الشواهد التاريخية على أن معظمهم من "صنعاء دمشق"، ومنهم:
- إبراهيم بن عمرو الصنعاني.
- حجاج بن شداد الصنعاني.
- حفص بن ميسرة الصنعاني.
- حنش بن عبد الله الصنعاني.
- راشد بن داوود الصنعاني.
- سعيد بن يوسف الرحبي الصنعاني.
- شراحيل بن مرثد الصنعاني.
- عبد الملك بن محمد الصنعاني.
- يحيى بن مبارك الصنعاني.
- يزيد بن يوسف الرحبي الصنعاني.
وجميع هؤلاء من رواة الحديث الذين وردت أسماؤهم في مصادر أهل السنة، بعضهم رواه أئمة كبار كابن ماجه والنسائي وابن حبان. وقد تفاوتت درجات التوثيق لهم؛ فمنهم من كان حديثه صحيحًا، ومنهم من تُكلم في روايته، لكن المشترك بينهم هو ثبوت أسمائهم ونسبهم في كتب الحديث والتراجم، وهو ما يدل على حضورهم العلمي في البيئة الشامية، رغم النسبة "الصنعانية".
وتكمن أهمية هذه الشواهد في أنها تبرهن على أن النسبة في التاريخ الإسلامي ليست مجرد علامة على مسقط الرأس، بل هي مؤشر دلالي عميق يتصل بالسند والمذهب والمقام العلمي، ويعكس في الوقت ذاته حركة انتقال العلم والأعلام بين الأقاليم الإسلامية في تناغم حضاري نادر.
دلالات النماذج: ما الذي تكشفه؟
تكشف النماذج التي رصدتها دراسة "صنعانيون، ولكن من دمشق" عن أبعاد عميقة تتجاوز مجرد التوثيق الترجمي لأسماء العلماء، لتصل إلى ملامسة جوهر العلاقة بين المكان والعلم في الحضارة الإسلامية. ويمكن تلخيص هذه الدلالات في ثلاثة محاور متداخلة:
1. اتساع مفهوم النسبة
لم تكن النسبة في الثقافة الإسلامية التقليدية مقيدة بمفهوم "الهوية الجغرافية" أو "الجنسية" بالمعنى المعاصر. فالنسبة إلى مدينة معينة لم تكن تعني بالضرورة الولادة فيها، وإنما قد تدل على الانتساب الروحي أو الانتماء العلمي أو الأصل القبلي أو حتى مرحلة من مراحل التكوين العلمي. لذلك لا يستغرب المرء أن يجد عالِمًا شاميًّا يُنسب إلى الكوفة، أو مغربيًّا يُعرف بالمدني، أو عراقيًّا يُلقب بالدمشقي، بحسب مراحل رحلته العلمية أو محل إقامته الطويلة أو انتمائه المدرسي.
2. دمشق مركز علمي دولي
أظهرت النماذج كيف كانت دمشق، لا سيما في القرون الثلاثة الهجرية الأولى، مركزًا علميًا مهمًا تتقاطع فيه طرق الرحلة ودوائر السند. قصدها طلاب الحديث من الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وفيها اجتمعوا بشيوخها وأخذوا عنهم، وبدورهم نشروا علومها في بلادهم. كانت دمشق مدينة ذات إشعاع علمي يعكس مركزية الشام في الشبكة العلمية الإسلامية، حتى غدت النسبة إليها، أو الإقامة فيها، موطنًا آخر للعلماء.
3. تداخل الحواضر العلمية
ساهم نظام الإسناد والرحلة في تشكيل هويات علمية لا تعترف بحدود سياسية أو جغرافية صارمة. فالمساجد الكبرى والمدارس والمجالس كانت ملتقى للأسانيد والعقول، وما يحدد الهوية العلمية للعالم هو "سلسلة الرواية" التي يحملها، لا خارطة الميلاد. وهكذا، فقد حملت دمشق صنعاء، كما حملت بغداد القيروان، والمدينة غرناطة، في شبكة علمية تتجاوز المكان وتتوحد بالعلم.
صنعاء: دلالة زمانية ومذهبية
تُبرز دراسة "صنعانيون، ولكن من دمشق" مفارقة تاريخية دقيقة، وهي أن جميع العلماء الذين نُسبوا إلى "صنعاء" رغم إقامتهم أو وفاتهم في دمشق، كانوا قد تُوفوا قبل دخول الإمام يحيى بن حسين بن القاسم، المعروف بـ"الهادي إلى الحق" إلى اليمن عام 284هـ، حيث تُوفي آخرهم تقريبا سنة 280هـ. وهذا التوقيت يحمل دلالة جوهرية، إذ يكشف عن أن النسبة إلى "صنعاء" في تلك المرحلة كانت خالية من أي دلالات طائفية أو ارتباطات مذهبية خاصة. كانت تشير في جوهرها إلى بيئة علمية سنية، يغلب عليها الطابع الحديثي والمنهج الروائي، بعيدًا عن أي رمزية هادوية أو زيدية.
ففي تلك الفترة، كانت صنعاء عاصمة العلم في اليمن، تستقطب طلاب الحديث والفقه من مختلف الأمصار، ويزدهر فيها النشاط العلمي، خاصة في مجال الرواية والسند. ولعلّ أبرز من يجسد هذا المناخ هو الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني، أحد أئمة الحديث الكبار، وصاحب كتاب "المصنف"، الذي يُعد من أمهات كتب الحديث. وقد مثّل عبد الرزاق ذروة المدرسة الحديثية في صنعاء، التي اتسمت بالسنية الصافية في الفكر والممارسة.
أما التحول المذهبي الذي عُرفت به صنعاء لاحقًا، فقد بدأ مع قدوم الإمام المعروف بـ"الهادي إلى الحق"، في أواخر القرن الثالث الهجري. دخل صنعاء نحو سنة 288هـ بدعوة من بعض القبائل، لكنه لم يستقر فيها طويلًا، وفضّل اتخاذ صعدة مركزًا لحركته العلمية والسياسية. ومن هناك، بدأ المشروع الزيدي الهادوي بالانتشار والتوسع، حتى غلب لاحقًا على عدد من مناطق شمال اليمن، بما في ذلك صنعاء التي أصبحت مركزًا إداريًا للمذهب بفعل الهيمنة السياسية لا بسبب السياق العلمي الطبيعي.
وبذلك، فإن نسبة أولئك العلماء إلى "صنعاء" لا علاقة لها بالمذهب الزيدي لاحقًا، بل تعبّر عن مرحلة سابقة لها طابع علمي سنّي خالص.
شامنا ويمننا… توأمة الذاكرة والهوية
في عمق دمشق، عاش "صنعانيون"، وفي قلب صنعاء، ظلت الشام حاضرة؛ إذ لم تكن الهوية الإسلامية يومًا حبيسة الجغرافيا أو مقيدة بالحدود السياسية. كانت هوية ممتدة، تنسج وشائجها عبر طرق العلم والسند والمجالسة، وتبني جسورًا من الانتماء تتجاوز الحواجز الأرضية نحو وحدة حضارية شاملة. لم يكن العالم المسلم يُعرّف فقط من خلال موقع ميلاده، بل من خلال رحلته في طلب العلم، ومنبر تدريسه، وامتداد سنده، وتأثيره في الحواضر التي حل بها.
أن يُنسب عالم إلى صنعاء وهو يروي في دمشق، أو يُلقب بالبغدادي وهو يتصدر حلقات الأندلس، لم يكن خللًا في التراجم، بل علامة على ديناميكية الهوية الإسلامية، التي كانت ترى في "العلم" موطنًا، وفي "السند" جغرافيا. لقد كانت العواصم الإسلامية تتقاطع في أدوارها؛ فدمشق ليست مجرد مدينة شامية، ولكن هي حاضرة حديث ورواية، وملتقى طرق المحدثين من الحجاز واليمن والعراق. وصنعاء لم تكن فقط عاصمة يمنية، وإنما مشتل إسناد، ومركز تراكم علمي ترحل إليه الأسانيد من الشام والعراق والحرمين.
كل سند نُسب إلى "الصنعاني" في كتب الحديث، وكل رواية انتقلت من مجلس علم في الشام، كانت تجسد هذا التلاحم. إن علماء "صنعاء دمشق" الذين تناولتهم الدراسة لا يمثلون فقط حالة فردية، بل يكشفون عن نمط أوسع من الانصهار الثقافي بين الشام واليمن، ذلك الانصهار الذي يُمكن تسميته بـ"توأمة الذاكرة والهوية". في هذه التوأمة، تتداخل الأنساب، وتتقاطع المدارس، وتزدهر الهويات المعرفية، دون أن تقف أمامها الحواجز أو تُشتتها الأطر السياسية.
ولم يكن عبثًا أن يجمع النبي ﷺ في دعائه بين الشام واليمن: "اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا"؛ فهو دعاءٌ ليس جغرافيًا في دلالته، ولا مجرد تمنيًا بالبركة لمكانين على خارطة، وإنما هو نداءٌ حضاري جامع، يختصر روح الأمة الواحدة في صيغتها العلمية والإنسانية، ويؤسس لوحدة شعورية ومعرفية ضاربة في عمق التاريخ الإسلامي.
لقد بارك النبي ﷺ في الشام واليمن لأنهما لم يكونا فقط موطنين، ولكن رئتين يتنفس منهما جسد الحضارة الإسلامية، وعينين تبصران بها أنوار العلم، ومحرابين يتعاقب فيهما الدرس والدعاء والرواية.
ففي الشام وُضعت لبنات كبرى لعلوم الحديث والفقه والتفسير، وفي اليمن ازدهرت حلقات الإسناد وروح الزهد والتلقي. وحين نُسب علماء إلى صنعاء وهم في دمشق، أو إلى الشام وهم من اليمن، لم يكن ذلك التباسًا، بل تعبيرًا صادقًا عن وحدة معرفية كانت أعمق من الانتماءات السياسية وأسبق من الهويات القُطرية.
هذا التداخل بين الشام واليمن ليس حدثًا عابرًا في كتب التراجم، بل نموذج حيّ لامتداد العقل المسلم، الذي لا يتوقف عند تخوم الأرض، بل يعبرها بوسائط العلم، ويتجاوزها بسلاسل الإسناد والرحلة في طلب الحكمة.
إن دعاء النبي ﷺ يختزل مشروعًا حضاريًا لا يزال ممكنًا، حين نستعيد تلك الروح الوحدوية، وننبذ ضيق الانغلاق المذهبي، وننظر إلى المشرق والمغرب باعتبارهما أطرافًا في جسد واحد، لا مناطق نفوذ متخاصمة.
فمتى ندرك أن الأمة التي وحّدها الحديث والسند والمصنفات، لا يفرّقها اختلاف اللهجات أو تغير الخرائط؟
ومتى نعيد لهذا السند الممتد بين الشام واليمن قدره، فنحيي بذلك ذاكرة الأمة الحيّة؟
المصدر: الجزيرة نت
حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد
وزير الدفاع في حوار مع “العين الإخبارية”: حربٌ لم ينطفئ لهيبها، وهدنٌ مكسورة، وسلامٌ يُغتال قبل أن يولد.. هنا اليمن.. هنا تُسرق أحلام شعب بقبضة مليشيا لا تعرف إلا لغة الدم.. وهنا قوات شرعية تقف كالطود الأشم، وشعبٌ يقس مشاهدة المزيد