11/11.. العار الأسود

2014-11-11 15:11:05 ملف أعده/ وليد عبد الواسع

يصادف اليوم الذكرى الثالثة لمجزرة جمعة " لا حصانة لقاتل", والتي راح ضحيتها 18 شهيداً بينهم أربع نساء وخمسة أطفال ونحو 50 جريحاً برصاص قوات الرئيس السابق ومدير أمنه في المحافظة عبد الله قيران التي وجهتها نحو المتظاهرين بساحة الحرية بتعز.. في الذكرى الثالثة بقصف مصلى النساء بساحة الحرية بتعز يبدو الاحتفاء موجعاً بـألم ذلك المشهد الحزيـن، الفاجعـة بحضور أرواح شهيدات ثلاث في محراب الثورة" تفاحة, زينب, ياسمين".. 

صباح الحادي عشر من نوفمبر 2011، استيقظت تعز على أصوات المدافع، ولعلعات الرصاص العشوائي الموجه إلى البيوت والأحياء.. كانت القذائف توزع هداياها على الأحياء والبيوت والشوارع،..و.. إمعانا في بث الرعب في أوساط السكان ومنعهم من الخروج.. الجرحى في ازدياد، والكبار يصابون داخل الساحة وخارجها.. قذائف الإجرام تلاحق الشهداء والجرحى إلى داخل المستشفيات.

وكانت قوات صالح قد شنت قصف مدفعي عنيف بشكل مباشر على ساحة الحرية بمدينة تعز أثناء أداء صلاة الجمعة، ما أسفر عن استشهاد 3 نساء. وقال شهود ومصادر طبية إن قوات صالح قصفت بالمدفعية تجمعات النساء في ساحة الحرية أثناء أداء الصلاة ما أدى إلى استشهاد امرأتين على الفور وإصابة عشر نساء أخريات إحداهن جراحها «خطرة للغاية».

كما شنت قوات صالح منذ الصباح الباكر قصفاً عشوائياً تركز على أحياء «زيد الموشكي» و«الروضة» والأحياء المجاورة لساحة الحرية مستخدمة الأسلحة الثقيلة والمتوسطة إضافة إلى القناصة، ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين. وسقطت أكثر من 15 قذيفة على مستشفى الروضة، قامت على إثرها إدارة المستشفى بنقل عشرات الجرحى إلى مستشفيات أخرى.

 قصف مستشفى الروضة تزامن مع القصف الذي شنته قوات صالح على أحياء مختلفة من المدينة أسفر عن سقوط 13 شهيداً بينهم 4 نساء و5 أطفال. فقد استشهدت امرأة رابعة إلى جانب طفلة إثر قصف قوات صالح على منطقة الحصب بمدينة تعز، والذي كان قد بدأ منذ الصباح الباكر عشوائياً، وتركز على أحياء زيد الموشكي والروضة والأحياء المجاورة لساحة الحرية، ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى.

ومن بين هؤلاء الجرحى الدكتور عبدالله الذيفاني- رئيس المجلس الأهلي- وقال نجله للمصدر أونلاين، إن د. الذيفاني أصيب برصاصة في ذراعه أثناء وجوده في ساحة الحرية وأسعف إلى المستشفى لتلقي العلاج. وقد أشعل القصف القنص غضب المتظاهرين الذين خرجوا بعشرات الآلاف في شوارع المدينة متحدين القصف الذي تشنه قوات صالح منذ فجر الجمعة على الأحياء السكنية بالمدينة وساحة الحرية. وردد المتظاهرون الذين خرجوا تحت شعار «لا حصانة للقتلة» هتافات تطالب بتقديم صالح ومعاونيه للمحاكمة الدولية.

ويصف ناشطون ما حصل بذلك اليوم بالمجرة البشعة وسمّاه آخرون باليوم الأسود نظرا لاستخدام القوة المفرطة وطول عمر قصف المدنيين من المتظاهرين والذي طال أيضا مستشفيات ومبانٍ أخرى في المدينة.

يقول الكاتب أحمد عثمان, في وصفه لساحة الحرية في ذلك اليوم بأنها " اشبه بمسرح تاريخي يسجل اغرب واعظم المشاهد التاريخية التي لن تمحى ", واعتبر تعز بأنها كانت بنسائها ورجالها في الساحة تهتف باسم الحرية بالدم وبدلاً من الاستجابة للشعب اتُخذ قرار بضرب الساحة بالنار الثقيلة والمتوسطة لمنع الصلاة. ويضيف" لم يفكر بأمر كهذا هتلر ولابوش ولا القذافي كانوا مقتنعين ان قذائف الدبابات عندما تسقط بين الجموع ستكون مرعبة؟.. ومن هذا الأهبل الذي سيبقى في مكانه؟ دوت قذائف الدبابات .. كان الامر مرعباً حقاً استهدفت القذائف مصلى النساء فهن رحم الثورة وملهمات الثوار".

الناشطة الحقوقية إشراق المقطري تقول: يوم 11 نوفمبر كان الاشد قتلا وضراوة كون القصف بدأ في ساعات مبكرة من اليوم واستمر طيلة النهار والمساء ولكون منزلي في الساحة فقد توقعت انه لن يحضر احد الساحة و لكن عزيمة المناضلين كانت اقوى وصلوا بالساحة رغم القصف من الثكنة العسكرية المتمركزة في مستشفى الثورة وأدى لضرب المكان الذي تصلي فيه النساء وسقطت الشهيدات, تفاحة وياسمين وزينب.

 ويصنف المحامي والناشط الحقوقي توفيق الشعبي أحداث جمعة " لا حصانة لقاتل " بأنها من الجرائم الجسيمة وإن المسئولية تقع على المسئول الأول بحسب القوانين والمواثيق الدولية.

الصلاة في وجه الموت

لم يكن يوم الحادي عشر من فبراير 2011، يوما عاديا في ذاكرة الثورة الشبابية الشعبية السلمية، بل وفي حياة كل اليمنيين.. إنه جرح مفتوح لا يندمل- حد وصف الزميل محمد الجماعي..

صباح جمعة "لا حصانة للقتلة"، كان ثوار اليمن يتقاطرون إلى الساحات.. كما هم ثوار تعز، كانوا هناك في ساحة الحرية، يفرشون سجادة الصلاة، في وجه الموت، بعزائم لا تلين، وإصرار يأبى التراجع.

الرصاص يمطر ساحتهم منذ ظهر اليوم الأول.. قوات الرئيس السابق يستميتون للحيلولة دون دخول الساحة.. اعتراض مسيرة الخميس 10/11 كان شاهدا على خبث طويتهم.. مكرهم المتواصل لمنع إقامة الجمعة في اليوم التالي..

تزايدت خطى الثوار والثائرات إلى ساحتهم، على وقع أصوات المدافع والرشاشات.. كان الجميع يأخذون مواقعهم، يتأهبون للصلاة. خطيب جمعة "لا حصانة للقتلة" يتهيأ لصعود المنبر، فيما تفاحة صالح العنتري، وزينب حمود الحزمي، وياسمين سعيد الأصبحي، في مكانهن المعتاد.. وبجوارهن زينب المخلافي..

المشهد في تصاعد ملحوظ بين الفريقين. أصوات القذائف المرتعشة كما لو أنها تعزف سيمفونية لإلهاب حماس أبناء المدينة الثائرة، كأنها جرس يحضِّر الطلاب لطابور الصباح.. اكتظت الساحة بالحضور والزغاريد وتكبير المصلين.. فيما مخازن الذخيرة تؤول إلى نفاذ.. وها هو خطيب الجمعة الأستاذ أحمد عبدالرب يصعد إلى منبر الثورة بثبات، يروي النبأ الفاجعة، البعض يهرع للإنقاذ، فيما البقية صامدون في أماكنهم.. لقد كان درس المحرقة قاسيا جدا..
أهداف مشروعة لقذائف النظام

لم تنته مأساة ذلك اليوم عند هذا الحد.. فقد أسعفت الجريحة زينب المخلافي وأخواتها تهاني ومريم وغيرها من المصابين إلى مستشفى الروضة، المستشفى الميداني لساحة الحرية بتعز، الذي تحولت غرفة العمليات في الدور الثاني للمستشفى إلى هدف مشروع لقذائف النظام، الأمر الذي جعل الأطباء يخرجون الجرحى والمصابين من العمليات إلى صالة الانتظار وبينهم زينب، ثم إلى البدروم، تمهيدا لنقلهم إلى مستشفى اليمن الدولي، باستثناء زينب التي نقلت إلى مستشفى الرفاعي لإجراء العملية الجراحية هناك..

فتح مستشفى الروضة أبوابه أمام الجرحى من الثوار منذ بداية الثورة، كواجب إنساني ووطني، وفي ذلك اليوم تعرض لأكثر من 13 قذيفة دبابة، سقط على إثرها شهيدان وعدد من الجرحى الذين اكتظ بهم المستشفى حينها جراء القصف المرعب. كما تعرضت الطوابق العلوية للتدمير فيما بقي البدروم ملجأ للجرحى والنساء والأطباء.


أرواح صعدت السماء:

1- محمد رزاز عبدالعزيز (13 عاماً)

2- عبدالسلام احمد عبده صالح (8 أعوام)

3- أمل عبدالواحد (طفلة)

4- ياسمين سعيد الأصبحي

5- زينب العديني

6- تفاحة العنتري

7- صدام محمد مدهش

8- عبد الله هزاع 35 سنة

9- سعيد عبده سعيد مهدي 25 سنة

10-مهيوب محمد طاهر 25سنة

11-هاني الشيباني 24سنة

الفصل الأخير

بلال الطيب

 كثيرون هم من ذهبوا شامخين، وضحـوا بأرواحهم رخيصة من أجـل إيجاد وطن مثالي خـالٍ من التشوهات، فكانـوا بحق قنـاديل فجـرنا الجديد، وعصارة نضالنا الممتد، ومازالت دمـاؤهم الزكية تُحرك فينا روح «الرفض والثورة» تلك الـروح الـوثابة التي تتبنـاهـا السجيـة الإنسانيـة السليمة، التواقة للحرية، وتتجسـد أكثر في النفوس الكريمة التي تـأبى «الـذِلــة».

لا شيء غير رائحة البارود، وصوت الرصاص، ودويّ المدافع، هكذا كـان صباح الحالمة تعـز، التي لم تصح بعـد من كوابيسها؛ في جمعة «لا حصانة للقتلة» 11/11 / 20011م، القصف على ساحة الحرية على أوجه، ومن عديد اتجاهات، لإثناء الحشود عن التوافد والحضور، دون جدوى؛ فالساحة امتلأت بـ «الثوار»، فيما صدى تكبيراتهم حاصرت الأرجاء، وخنـقت القتلة.

كانت «تفاحة العنتري» أول الواصلين، افترشت سجادتها أمام فندق المجيدي، وبجانبها «زينب الحزمي، وياسمين الأصبحي»، وحين قصفت الساحة بالسلاح الثقيـل كُـن أول الضحـايـا.. هكذا كان سيناريو الفصل الأخير لشهيدات الحالمة، كما ترويه زينب المخلافي الجريحة الناجية من موت محقق في تلك الواقعة.

قال الكاتب الرائع جمال أنعم حينها: كل ثورة تتقدمها الشهيدات منتصرة لا محالة, وفادياتنا حفيدات الشهيدة الأم سميَّة أولى الثائرات, أم عمار زوج ياسر, الشهيد الكبير، الشاهد على كبرياء روح اليمن منذ البواكير. هي أسرتنا الرائدة في درب الفداء, ونحن بنوها الأوفياء... وفي صدارة هذا المشهد الفدائي لشهيدات تعز الغالية عزيزة, زينب, تفاحة, ياسمين, هو ذا الصنم المحروق يهوي تحت أقدامكن العالية, هو ذا يسقط مهاناً ممرغاً بالعار, تلعنه الأرض وتمقته السماء..

حُـزن ثقيـل

 مازلنا جميعاً نتذكر بـألم ذلك المشهد الحزيـن، الفاجعـة والحدث الاستثنائي الذي استحوذ على أحزاننا بفعل الصـورة التي بثت التفاصيل دون رتوش، لقد سطرن ثلاثتهن «تفاحـة، زينب، يـاسمين» على ظهر «أول متر مربع لساحة الحرية والثورة» أبهى لحظات التضحية والفداء.

 كانت إحداهن الشهيدة «تفاحة العنتري» من اكتشف العالم بسقوطها قانون الثورة اليمنية وجـاذبيتها، كانت زوجـة أبي وأمي الثانية، بفقدانهـا تجرعت أسرتي الصغيرة أكبر وأقسى الأحزان.

 خُيـل لي أن روح والدي «محمود الطيب» المولع بالثورة والثوار تستعد هي الأخرى للمغادرة، بعد أن خيمت عليه نـوبات متتالية من حُـزن ثقيـل، وذكـرى مـؤرقة كادت تذهب بوضاءة وجهه، وحين عجزت مواساتنا بالتخفيف عنـه، ذكـرنـاه بـ «اليمن» فعاد صلباً قـوياً كما هي عـادته.

*من مقال نشرته صحيفة الجمهورية


 تفاحة الثورة وأُم الثوار


صباحاً انطلقت تفاحة العنتري كعادتها إلى ساحة الحرية بتعز لأداء صلاة الجمعة.. تقول ابنتها إسراء "قالت لي تأخري، وقبل أن تخرجي اتصلي بي، وبالفعل اتصلت بها فردت علي وطلبت مني أن أعمل لأبي الغداء، وبينما كنا نتحدث سمعت أصوات قذائف والنساء يصرخن، وبعدها لم أسمع صوت أمي إلى اليوم.. الحمد لله على كل حال"..

قبل 21 عاماً زفت الشابة تفاحة صالح العنتري لزوجها محمود عبد الوهاب الطيب، من منزل والدها المطل على ساحة الحرية حارة محطة صافر جوار المعهد العالي للعلوم الإدارية. كان عمرها 21 عاما أيضا. وحين اندلعت الثورة الشبابية السلمية عادت إلى ذات الساحة، تتلمس الذكريات وتشتم عبق المكان الذي سكنت إليه وتعلمت فيه أبجدية الحرية ذات يوم..

لم تتواجد الشهيدة تفاحة العنتري في ساحة الحرية صدفة، لم يكن ذلك وليد اللحظة، أو مشهدا عابرا.. لقد بيع منزل والدها منذ قرابة عقد من وفاة والديها - بحسب ما نقله الزميل محمد الجماعي عن جلال المحيا، أحد أقربائها- ولم تعد تعرف من جيران طفولتها إلا منزلاً واحداً لجأت إليه مكرهة يوم حوصرت في محرقة ساحة الحرية.

كانت تفاحة تقطع المسافات الطوال من بيت زوجها في الحوبان يوميا دونما كلل ولا ملل، إلى ساحة الحرية التي كانت تفاحة فيها هي قلب الثورة، والقيادية البطلة التي لم تتخلف عن مسيرة واحدة، إن لم تكن هي قائدة الركب وحادي القافلة. أسست "الحركة الطلابية" وكانت تخرج مع أبنائها الطلاب، لحمايتهم، وتقدمت الصفوف التي شهدتها تعز طيلة أيام الثورة، كما شاركت في لجنة الحشد ولجنة الدعم، وخلال شهر رمضان المبارك كانت تفاحة ذات يد طولى في مشروع إفطار الصائم.

في ساحة الحرية كانت خلية نحل، تقضي نهارها في الإشراف على التغذية تارةً، وتارة في تنظيف المصلى، وعندما تستريح تنهك جوالها وتستنفد رصيدها في حث زميلاتها وقريباتها لزيارة الساحة والمشاركة في المسيرات، بحسب الزميل المحيا أيضا.. أطلق عليها شباب الثورة بتعز، لقب "أم الثوار".. بيد أن تفاحة، صفة تتعالى على كل الألقاب والتسميات.. يروي زوجها "يوم بلغت الثورة شهرها التاسع وتحديدا في يوم الجمعة، كانت تؤكد له بأن الثورة ستنتصر عما قريب"..

وبينما كانت تفاحة تتحدث مع ابنتها عبر الهاتف انقطع الاتصال، هرعت الثائرة الشابة إسراء باتجاه الساحة.. تقول: "حين وصلت إلى الساحة، كان الذهول سيد الموقف، لا صوت يعلو فوق صوت القذائف سوى صوت الخطيب أحمد عبد الرب!!. وجوه المصلين يعلوها الحزن، ما الذي حدث؟ لا أحد يخبرني، قلبي يخبرني أن شيئا ما قد حدث، قلبي يقول لي بأن أمي لو كانت بخير كانت اتصلت بي وأخبرتني بذلك".. وتضيف "رحم الله أمي العظيمة.. أتذكر يوم استشهاد عزيزة الدهبلي، أنها قالت لي أنا الشهيدة القادمة!! وبالفعل كانت كما قالت بعد أقل من شهر"..

ظهر ذلك اليوم لم تعد الشهيدة تفاحة إلى منزلها كعادتها لأنها كانت مع موعد آخر مع حياة جديدة كانت تفاحة تنشدها وفي شوق إلى الانتقال إليها، قبل أن تخترق شظية رقبتها فتنتقل إلى الرفيق الأعلى.. تختتم إسراء حديثها قائلة "أمي طلبت إذا استشهدت أن ندفنها يوم انتصار الثورة وبإذن الله وأسأل رب العالمين بأن غداً سيكون يوم النصر"..

وفاء الشيباني.. زغرودة الشهادة

في ضفة أخرى غير بعيدة عن جنون القصف.. كان حي الكوثر المتاخم لساحة الحرية، يسجل واقعة إجرام أخرى في منزل الشهيد هاني الشيباني، خطته شقيقته الثائرة "وفاء" بدمه على جدار البيت (ارحل يا سفاح)، ثم عزفت لرثاء أخيها زغرودة الشهادة وأيقونة انتصار الثورة..

فعلها قيران قبيل صلاة الجمعة بساعة واحدة لا أكثر.. فعلها باتجاه المباني والبيوت والأحياء السكنية، وفجر رأس الشهيد هاني في صالة منزله.. عندها أدركت وفاء وكافة أبناء تعز أنه لا يفجر الجماجم ويقصف المنازل والأحياء إلا صالح وليس ثمة من يفعلها في اليمن إلاه، فجاء الرد من وفاء الشيباني مباشرا وعلى الهواء: ارحل يا سفااااااح.. سطرتها بدم الشهيد..

كانت أخته الثائرة وفاء الشيباني تبحث عن معجزة لتجميع وجه أخيها الشهيد، الذي لم تنظر إليه منذ الصباح، كان رأس الشهيد هاني الشيباني مهشما تماما، حين اختطت شقيقته وفاء من دمه، أيقونة الثورة وزغرودتها الأبدية.. كان هاني بانتظار طعام الإفطار، حين كانت أمه تعد له الطعام في المطبخ، فيما كانت قذيفة من مضادات الطيران، تتناول من رأسه وجبة كاملة..

حين تروي أم الشهيد وأخته وأشقاؤه، تلك الأحداث المؤلمة، يتملكنا الرعب.. كما لو أن قذيفة ستتسلل إلى جدار البيت، والمكان الذي زرناه ووصلنا إليه، من ثقب باب غرفة والده، أو من بقايا النافذة التي أهداها مستشفى قيران للخدمات العسكرية، موتا زؤاما إلى صالة المنزل..

كان لابد أن نتذكر أننا في تعز، التي تنتفض من رمادها كطائر العنقاء، ومازال في البيت ثمة هاني، يداعبه جده ويردد ذات الشعارات، ثائرا كعمه الشهيد الذي وشاه باسمه.. ليواصل مسيرة الثورة ومشوار البطل.. اقتبست هذه الأسرة من دم شهيدها، حناء الفرح، وما فتئت تنقش به لون الراية ومعنى الحرية..

غرفة الشهيد، حالة من حالات الوطن الذي لا ينام، وروح هاني فواحة بداخلها.. وفيها مالا عين رأت، من أحلام الغد وأشواق المستقبل الأجمل، التي كانت تبيت مع الشهيد.. تعيش معه ليل نهار وفيها مجسم ذهبي لامرأة ورجل يلبسها خاتم الخطوبة، وكان هاني غداة السبت على موعد مماثل.. لكنهم زفّوه في جمعة تالية، في اليوم الذي كان فيه خاتم الخطوبة يلمع أكثر..

زينب.. أيقونة الشهادة والثورة

أصرت زينب على الخروج يوم جمعة "لا حصانة لقاتل".. ودعت أمها قائلة لها:" ادعي لي بالشهادة".. وقبل أن تتجه نحو ساحة الحرية عطرت سجادتها.. وفي تمام الواحدة والنصف ظهراً تلقت أم زينب نبأ استشهاد ابنتها..

صدمة الأم المكلوم كان دافعاً لإصرارها على الخروج للمستشفى.. "كلما كنت أحضنها أحس أني ما ارتويت وظليتُ أحضنها وأحضنها": قالت أم زينب, وبصوت حزين وحرقة أضافت "الله يقتل من قتل فلذة كبدي وقرة عيني، الله يحرق قلبه وينزع قلبه مثلما نزع قلبي".

"في آخر يوم رأيتها فيه كان محياها يشع نوراً لا يمكن التعبير عنه" تقول سمية شيبان إحدى أقرب صديقات الشهيدة زينب الحزمي أثناء زيارتنا لمنزل الشهيدة ذات الـ25عاما، التي كانت تحلم بشراء ثلاجة للمستشفى الميداني، قبل أن تدخله كواحدة من ضحايا النظام، وشهيدات الثورة، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.

كان شغفها بوطنها المنشود، يزداد كلما أشرفت فجر كل صباح من نافذة بيتها المطل على جانب من مدينة تعز وساحة الحرية ومستشفى الثورة العسكري.. عملت الشابة الثائرة زينب الحزمي ضمن تكتل "مناضلات ثورة اليمن" وكانت أكثرهن نشاطاً وحيوية في تقديم الأطباق الخيرية ومساعدة الجرحى وأسر الشهداء وأمضت ليالي حتى الصباح لتنقش بأناملها وخطها الجميل شهادات الجرحى، بالإضافة إلى مشاركتها في كتابة اللوحات في المسيرات وفي الفعاليات المختلفة..

أستاذة التنمية البشرية والقيم الإنسانية بامتياز، والحافظة لكتاب الله إجازة وسندا وسلوكا.. حاصلة على إجازة مفتية وتخرجت من جمعية معاذ العلمية بتعز ضمن 40 عالما وعالما أجيزوا من كبار مشائخ تعز، بعد خمسة أعوام عكفت خلالها لتنهل من العلوم الشرعية، وعامين قبلها في مركز الزهراء التابع لجمعية معاذ، حفظت خلالها كتاب الله تعالى إجازة وسندا، وحصلت على درجة الامتياز في بحث تخرجها من دار العلوم الشرعية الذي كان عنوانه "أمة اقرأ.. آن لها أن تقرأ"..

تقول والدتها عن يوم استشهادها إن القصف يوم الجمعة كان عنيفاً، لكن زينب أصرت على الخروج وودعت أمها قائلة لها: ادعي لي بالشهادة، ثم عطرت سجادتها وخرجت إلى الساحة.. وتمام الواحدة والنصف ظهراً تلقت أم زينب نبأ استشهاد ابنتها.. فانصدمت وحزنت كثيراً وأصرت الأم على الخروج للمستشفى، تقول "كلما كنت أحضنها أحس أني ما ارتويت وظليت أحضنها وأحضنها" وبصوت حزين وحرقة قالت "الله يقتل من قتل فلذة كبدي وقرة عيني، الله يحرق قلبه وينزع قلبه مثلما نزع قلبي".

تقول صديقتها سمية مدهش "أنا كنت معتادة إنه إذا في مسيرة نمشي مع بعضنا، نمسك بعضنا البعض، وكنا نقول نموت سوياً، ونعيش سوياً. حتى يوم استشهاد عزيزة رحمها الله، كانت تقول لي يا سمية نمشي أنا وأنت نموت أنا وانتي، ولكن إذا استشهدت جنبك أمانة يا سمية لا تخلي أحد يلمسني، ولا تخلي أحد يفتشني ويصورني. أمانه كفنيني، وأمانتك أهلي".

وتضيف" كانت لآخر لحظة ونحن دائماً مع بعض، لا توجد مسيرة حصل فيها ضرب إلا وكنا فيها سوياً". وتضيف سمية "كانت تحب الثورة بعمق، كانت تحب أن تشارك بأي شيء، إذا فاتها مهرجان أو مسيرة تتصل بي وتعاتبني بشدة. الآن نتذكر زينب بخطها الجميل؛ كان فعلاً خطها رائع جدا، ولديها مشاركات في منتدى الخطوط، شهادات الجرحى أغلبها بخطها؛ بقيت ثلاثة أيام متواصلةً تكتب شهادات الجرحى"..

عشية الجمعة لم تنم زينب طيلة الليل بل أقامته كاملاً، طلع الصباح عليها وهي فرحانه كالعصفور الصغير كما روت أختها الكبرى وكأنها ستذهب إلى الجنة. "يوم الجمعة الصباح كانت زينب إنسانة ثانية، بكرت تغتسل، غيرت ملابسها، لاعبت أولادنا كالعادة عندما تأخذهم إلى الساحة، حتى في العيد قلنا لها أجلسي معنا يا زينب تقول لنا لا، وأخذت الأولاد إلى الساحة، وكانت حياتها أن تنتصر الثورة".

قبل استشهادها بيوم سألتها أختها: من أين لك هذه الساعة (ساعة ذكر) دورت واحدة مثلها وما حصلت؟ قالت زينب: "باقي لي يوم وبعطيها لك".. كانت أمها وأخواتها يقولون: ليش يا زينب، ليش تقولي هذا الكلام؟.. فترد عليهم:" هكذا".. إحدى مدرساتها قالت لها" أيش هذا الجمال اليوم يا زينب, اليوم أنتي ثانية", فترد زينب:" ليش أنت مش عارفة أني بكون شهيدة"؟!.

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد