نموذج عن اشتغال العرب بعلوم الفضاء: مؤلف «المجسطي» لأبي الوفاء البوزجاني

2015-01-21 18:25:58 أخبار اليوم

اشتغل كثير من علماء الحضارة العربيّة - الإسلاميّة بالفلك وعلوم الرياضيات المرتبطة به. وتأثّرت أعمالهم في الفلك بما نقلوه ترجمةً عن علماء اليونان، خصوصاً أرسطو وبطليموس. وسمّى كثير من علماء العرب مؤلفاتهم باسم «مجسطي»، احتذاءً بكتاب شامل لبطليموس عن هذا الأمر.

وُلِدَ بطليموس قرابة العام 100م، ومات في العام 170م. وعاش مصرياً، لكنه كتب باليونانية. وحاز شهرته بفضل مؤلفه «مجموعة الرياضيات» الذي لخَّص فيه معارف عصره في الفلك. وأطلق العرب على ذلك المؤلَّف اسم «المجسطي» (ومعناه «الكتاب الكبير»). والحق أن التعبير العربي مستوحى من اليونانية، حيث كلمة «ماجسطي» تعني الضخم والكبير والفاخر والفائق والبهي وما إليها.

البداية من خرسان

وضع عالِم الفلك الإسلامي أبو الوفاء البوزجاني كتابه الكبير( «مجسطي») في القرن الرابع للهجرة. لُقّب بـ»أبو الوفاء»، أما اسمه فهو محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العبّاس البوزجاني. ولد في بوزجان، وهي بلدة صغيرة بين بلدتي هراة ونيسابور التي كانت عاصمة إقليم خراسان. وحاضراً، يقع قسم صغير من هذا الإقليم في العراق، لكن معظمه موجود في إيران. وإلى نيسابور، ينتمي الشاعر الشهير عمر الخيّام، الذي لا يعرف كثيرون عنه أنه اشتغل في الرياضيات بِعُمق. وكذلك أنجبت خراسان كثيراً من علماء الحضارة الإسلاميَّة في الفلك والرياضيات، لعل أبرزهم محمد بن موسى الخوارزمي، وهو واضع علم الجبر Algebra ومؤلّف جداول اللوغاريتمات Logarithmic Tables، التي ما زالت ركناً أساسياً في الرياضيات الحديثة لحدِّ الآن.

ولد أبو الوفاء في حزيران (يونيو) 940 م. وتربّى في كنف عائلة تشتغل بالعِلم. إذ عُرف عمّه عمرو المغازلي وخاله أبو عبدالله محمد بن عنبسة، كعالمي رياضيات. وتتلمذ في الهندسة على يد عالمين شهيرين هما: أبو يحيى الماوردي وأبو علاء بن كرنيب، فعّرفاه أيضاً الى أعمال عالِم الفلك الشهير البتّاني. وقبل أن يكمل العشرين، إنتقل أبو الوفاء الى بغداد (959 م)، وقضى فيها بقية عمره. وتوفي ترجيحاً بين عامي 997 م و998 م، بعد أن عاش قرابة 58 عاماً.

عندما كان للعرب علوم

تضمَّن «مجسطي البوزجاني» بحوثاً في ثلاثة علوم هي: الرياضيات والرصد، والآلات الفلكيّة، وعلم الفلك النظري. واعتبر دوماً من ذخائر المكتبة العلميّة العربيّة - الإسلاميّة. وحقّق كاملاً، للمرّة الأولى، على يد الدكتور علي موسى في أطروحته لنيل الدكتوراه في تاريخ العلوم. ونوقشت الأطروحة وأُجيزت في جامعة باريس السابعة (السوربون) في 2005، تحت إشراف الدكتور رشدي راشد، وهو مرجع بارز في تاريخ العلوم عند العرب. وصدر الكتاب محقّقاً عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» (2010)، بعنوان «مجسطي أبي الوفاء البوزجاني».

في تقديمه للكتاب، رأى راشد أن علماء القرن الثالث الهجري، أحدثوا تقدّماً مهمّاً في علوم الرياضيات والفلك، خصوصاً مع اشتغالهم في المراصد التي أُنشئت في دمشق وبغداد. وتصدَّوا لمهمة تنقيح ما وصل إليهم من وسائل علميّة، كما توصّلوا إلى معارف جديدة, وحضّهم على تلك الأمور تصدِّيهم لحل مسائل أثارتها حضارتهم، كتحديد القبلة ورؤية الهلال وتحديد أبعاد الأماكن وغيرها.

ولعل القسم المتعلّق باشتغال البوزجاني على «علم المثلثات» Trigonometry، استحقّ تنويهاً خاصاً من المُحقّق موسى، مع ملاحظته أن البون أضحى شاسعاً بين معارف علوم الرياضيات والفلك حاضراً وما يحتويه «مجسطي» البوزجاني. وأشار موسى الى أنه ربما يُدهش كثيرون لدى ملاحظتهم أن معظم ما يتعلّمه الطلاب حاضراً في الثانويات عن قوانين علم المثلثات، يرجع إلى أبي الوفاء وتطبيقاته في علم الفلك، وهي الطريقة التي استخدمها العرب في تدريس علم المثلثّات.

وبصورة عامة، يفيد علم المثلثات في معرفة أبعاد الأمكنة وهيئتها ومساحاتها وتقاطعاتها والعلاقات بين أبعادها، حتى عبر مسافات بعيدة، باستخدام ما يتوافر للراصد من قياسات وزوايا.

ويثير القسم الثاني من الكتاب اهتماماً كبيراً باحتوائه على ما ابتكره البوزجاني من آلات لرصد الأبعاد والمسافات والأشكال والمسارات. وأما القسم الثالث، فهو بحث في علم الفلك النظري Theoretical Cosmology وفيه، يتّضح مدى تأثّر البوزجاني بعلوم اليونان عموماً، خصوصاً بطليموس. إذ قَبِل فكرتهم الأساسية القائلة بأن الأرض هي مركز الكون، ما يوجب على الراصد أن يفكر في حركة الأفلاك والنجوم والكواكب، باعتبارها أفلاكاً تتحرك على مسطح ملفوف على هيئة كرة ضخمة، مركزها الأرض! بديهي أن هذا التصوّر قد أصبح وراء ظهر العلم.

وفي المقابل، يبقى لما رصده البوزجاني وسجّله من أحوال الفلك أهمية تاريخية، بمعنى أنها تساهم في رسم ما كانته صورة السماء بالنسبة للمراقب الأرضي، في ذلك الزمان. ويمكن النظر إلى تلك «اللقطة» التاريخية، من وجه كونها جزءاً من تراكم معارف العلماء عن أحوال الفضاء والنجوم.

ويبقى أن «مجسطي» أبو الوفاء البوزجاني، يعبِّر برمَّته عن المسار التراكمي للعلم، ما يوجب إعطاء كل مساهمة إنسانية فيه حقّها، والتخلي عن التكبّر، وكذلك التنبّه إلى التقدّم المستمر في العلوم، وعدم التخشّب في صيغ البكاء على الماضي، مقابل عدم القدرة على التعاطي مع الحاضر، ولا التجهّز للمستقبل!

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد