أرشيف الأديب الكبير الراحل نواف أبو الهيجاء الذي وافته المنية قبل أسبوعين كان معظمه قد احترق اثر احتلال العراق ولكن ما حفظ له في دور النشر والمكتبات تجاوز العشرين رواية وأربع مسرحيات ومجاميع قصصية وقد حصلنا في "أخبار اليوم" على بعض الأرشيف المفقود وهذه القصة واحدة منها.

وهي:-

طقوس لقتل الحبيب

لم أشاهدك في حياتي نحن آسفون، أنت أخطأت المنزل والأهل، ثم أمسك بذراع أمه، جذبها، واستدار معها إلى الداخل، تحركت الأرجل الأربعة، بعيداً عن الباب الخارجي الواسع الحديدي، لكن الرجلين تسمرتا وراءه، وكانت الدهشة قد سيطرت عليه، بالكامل، فأحس أنه فقد القدرة على الوقوف، ارتخت مفاصله، وأحس رجفة سرية تدب ببطء في أوصاله، فقرر المكابرة، ورفض القرفصة، أو الانحناء بل صعد بعينيه إلى فوق، حيث عذوق النخلتين، ودهش أنه لم ينتبه إلى العذوق حين تأمل النخلتين قبل أن يقرع الجرس، وإذ أطال النظر في عذوق (البرحية) الشامخة، خيل إليه أنه اكتشف ما لم يستطع أي مخلوق آخر أن يكتشف، أن للنخلة وجهها، وأن لها قفاها، إن لها شكلاً حياً آدمياً، بالتصرف الذي لمسه ولم يصدقه في البدء. نخلة البرحي أشاحت بوجهها عنه، أكثر من ذلك، أدارت له قفاها، أغمض عينيه وفتحهما بعد لحظة لكنه لم ير شيئاً جديداً كانت النخلة قد أدارت ظهرها، حتى أنها ضمت تسريحتها الصفراء إلى صدرها تأمل العذوق التي كانت ثقيلة، متلألئة، ثرية، شهية، وقرر أن ينقل بصره إلى النخلة الثانية، (الخستاوية). كان ثمة ثلاثة عذوق، ناضجة، ويبدو أنها ما تبقى حتى الآن، فالخستاوي ينضج قبل البرحي لكنها، وهو يتأملها زمجرت في عينيه كانت وجهاً غاضباً وعينين شديدتي القسوة، ما هذا؟ معقول، إنها تتحرك، تماماً في الاتجاه الآخر إنها لا تريد أن تراني هو ذا ظهرها، أدارت لي ظهرها، أنا أحلم، ليس ثمة في الدنيا شجرة نخيل ذات وجه وظهر وقفا، وعينين، أنا أحلم، بل هو كابوس، أمي أخي، ثم النخلتان، وأتحدى أن تبرهن شجرات (النارنج) الثلاث عن أن ما حدث للنخلتين صحيح؟ هل للنارنج وجه وقفا، هل له عينان وشعر؟ مستحيل، مد ذراعيه إلى فوق، حيث يستطيع أن يلمس شيئاً تراءى لعينيه، كأن شيئاً مبهم الشكل، بيضوياً، لكن لونه أخضر، داكن الخضرة، وكان جامداً، لكن حرارة الحياة فيه كانت تنبعث وكأنها مدفأة نشيطة في أيام الشتاء الباردة، وما إن اقتربت يداه منها حتى لذعة شيء، كانت اللذعة موجهة، ومباغتة، فلم يتمالك نفسه، فصرخ بصوت عال، أذهله، لكنه كان يعبر الشارع، وكانت اللسعة الباردة تضربه على صدغيه، وفي عينيه، وتلج منه الصدر إلى القلب، وكانت أمامه تسير بتؤدة، وتلتفت إليه حملق فيها كانت الصبغة حمراء دموية على شفتيها، وكانت عيناها وقحتين، توقفت، إنها في الثلاثين أو في الأربعين أو في الستين من العمر من يدري؟ كل شيء فيها مزور. ـ بزنس؟. ـ ماذا؟ ـ بزنس فرقعت ضحكة مباغتة من بين شدقيه، ضحكت أيضاً ومدت يدها نحو ذراعه اليمنى. ـ باردة جداً صحيح؟ انفلت من قبضتها تدرجت البرودة من رقبته إلى سلسلة الظهر، آه أيها البرد "بزنس" أيها الإنكليز الملاعين كل شيء عندكم (بزنس) أنا أيضاً "بزنس" وفي أثر قهقهات طليقة في شارع (كوينزوي) بلندن التفتت عدة رؤوس واشرأبت عدة أعناق، وابتسم اكثر من ثغر، وكان يمضي إلى (الأستديو)، وأوراق الخريف تتطاير في أركان الشارع والمحلات تغلق أبوابها والأنوار

نواف ابو الهيجاء-بغداد عام 1995