عشرة من اليهود فقط

2015-03-04 11:42:02 مخلص برزق


وما عشرة؟ إنه مجرد عدد ضئيل جداً لأولئك الذين خصهم الله تعالى بأكبر عدد من الأنبياء والرسل وأراهم الآيات ترغيباً وترهيباً، وحصل فيهم الخسف والمسخ عقاباً وتخويفاً، غير أن كل ذلك لم يزدهم إلا نفوراً وطغياناً كبيراً واستكباراً من عند أنفسهم التي أبت إلا معاندة الحق والتمسك بالباطل..

عرض سخي جداً، جاءهم ممن يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، جاءهم ممن يثقون بصدقه وأمانته ويعلمون أنه رسول الله وأنه المبشر به في كتبهم بنعته وصفاته، جاءهم بأعظم بشارة ومنحهم فرصة النجاة الأخيرة من وصمة عار لازمتهم قروناً، وسبة لصقت بهم أجيالاً بعد أجيال إلى قيام الساعة فهم المغضوب عليهم، وأكثر من ذلك أنهم الذين باؤوا بغضب على غضب، وهم الذين لعنهم الله بكفرهم وقتلهم الأنبياء ونقضهم العهود والمواثيق (وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنا قتلنا المسيح بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم).

جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مشفقاً عليهم وعلى المصير الذي ينتظرهم إن هم لقوا الله تعالى بتلك الأوزار والخطايا فقال لهم: (يا معشرَ اليَهودِ! أَرُونِي اثْنَيْ عشرَ رجلًا يَشْهَدُونَ أنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنِي رسولُ اللهِ؛ يحبطُ اللهُ عن كلِّ يَهودِيٍّ تَحْتَ أَدِيمِ السَّماءِ الغَضَبَ الذي كان عليهِ. قال: [فأمسكُوا و] ما أجابَهُ مِنْهُمْ أحدٌ، ثُمَّ رَدَّ عليهم، فلمْ يُجِبْهُ أحدٌ، ثُمَّ ثَلَّثَ، فلمْ يُجِبْهُ أحدٌ، فقال: [أ] أَبَيْتُمْ؟! فو اللهِ إنِّي لأنا الحاشرُ، وأنا العاقبُ، وأنا المُقَفِّي، آمَنْتُمْ أوْ كَذَّبْتُمْ. ثُمَّ انصرفَ وأنا مَعَهُ، حتى دنا أنْ يخرجَ؛ فإِذَا رجلٌ من خلفِنا يقولُ: كما أنت يا محمدُ! قال: فقال ذلكَ الرجلُ: أَيَّ رجلٍ تعلمونِي فيكُمْ يا معشرَ اليَهودِ؟! قالوا: ما نعلمُ أنَّهُ كان فينا رجلٌ أعلمُ بكتابِ اللهِ ولا أَفْقَهَ مِنْكَ، ولا من أَبيكَ من قبَلِكَ، ولا من جَدِّكَ قبلَ أَبيكَ، قال: فإنِّي أشهدُ لهُ باللهِ أنَّهُ نَبِيُّ اللهِ الذي تجدونَهُ في التوراةِ، قالوا: كذبْتَ! ثُمَّ ردُّوا عليهِ [وقَالوا لهُ] شراً، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: كَذَبْتُمْ، لَنْ يُقْبَلَ قولُكُمْ، أما آنفًا، فتثنونَ عليهِ مِنَ الخيرِ ما أثنيتُمُ، وأمَّا إذْ آمنَ كَذَّبْتُمُوهُ، وقُلْتُمْ فيهِ ما قُلْتُمْ، فَلَنْ يُقْبَلَ [قولُكُمْ]. قال: فخَرَجْنا ونحنُ ثلاثَةٌ: رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأنا، وعبدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ، فأنزلَ اللهُ [فيهِ]: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ [بِهِ] الآية).

الراوي: عوف بن مالك الأشجعي- المصدر: صحيح الموارد- الصفحة أو الرقم: 1764 خلاصة حكم المحدث الألباني: صحيح.

كان ردهم عليهم صريحاً وحاسماً إزاء تشكيكهم وتشككهم في نبوته ورسالته فقد قال لهم مقسماً وهو الصادق الأمين فلا يحتاج للقسم لكن قسمه هنا جاء ليزلزل أركانهم بلهجة صدقه: (فوالله لأنا الحاشر) أي يحشر الناس على أثره كما في الحديث (إِنَّ لِي أَسْمَاءً أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ) رواه البخاري (4896) ومسلم (2354(.

فأما قوله: (( أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي)) فمعناه على أثري أي أنه يحشر قبل الناس، وهو موافق لقوله في الرواية الأخرى: (( يُحشر الناس على عقبي)).

ويحتمل أن يكون المراد بالقدم الزمان، أي وقت قيامي على قدمي بظهور علامات الحشر، إشارة إلى أنه ليس بعده نبي. هذا مجمل ما ذكره الحافظ في الفتح ( 6 / 557).

وقال ابن القيم في زاد المعاد (1/94) فكأنه بعث ليحشر الناس.

وأما قوله لهم (وأنا العاقب) فالعاقب هو الذي جاء عقب الأنبياء فليس بعده نبي فإن العاقب هو الآخر فهو بمنزلة الخاتم، ولهذا سمي العاقب على الإطلاق أي عقب الأنبياء جاء بعقبهم.

وأما (المقفي) فكذلك هو الذي قَفّى على آثار من تقَدّمه فَقَفّى اللّه به على آثار من سبقهُ من الرّسُل وهذه اللّفظةُ مشتقّة من الْقَفْو يقال قَفَاهُ يَقْفُوهُ إذا تأَخّرَ عنه ومنه قافية الرّأْس وقافية الْبيت فَالْمُقَفّي: الّذي قَفّى من قبله من الرّسل فكان خاتَمَهم وآخرهم. فكل ما ينتظرونه بعد ذلك أوهام أو خزعبلات أو رجس من عمل الشيطان لا يمت للنبوة بصلة وليس بينه وبين الله حبل ولا رابط. ذلك أنهم كانوا يستفتحون على كفار العرب يقولون لهم: إنه قد أطل زمان نبي يبعث في آخر الزمان نقاتلكم معه. وهاهو قد جاءهم فأنكروه وارتضوا بذلك تخليد اللعنة والغضب وسوء الختام على كل من مات منهم على غير دين محمد صلى الله عليه وسلم.

لم يقف الأمر عند اثني عشر يهودياً، بل إنهم لم يصلوا حتى لعشرة كما قال سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه: (لو آمَنَ بي عَشرةٌ منَ اليهودِ لآمنَ بيَ اليهودِ) الراوي: أبو هريرة، صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم: 3941.

والأدهى والأمرّ أن دخول عشرة من اليهود كان كفيلاً بدخولهم في دين الله أفواجاً كما في رواية مسلم: (لو تابعني عشرةٌ من اليهودِ، لم يبقَ على ظهرِها يهوديٌّ إلَّا أسلم) الراوي: أبو هريرة، صحيح مسلم- الصفحة أو الرقم: 2793.

إن استقراء السيرة النبوية الشريفة يعطي إضاءات مهمة على الجهود المضنية التي بذلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته اليهود للإسلام وإقامته الحجة عليهم، فقد افتتح مجيئه إلى المدينة بكتابة ميثاق معهم يضمن لهم حقوقهم كاملة بما فيها ممارستهم للبيع والتجارة والتقاضي بشرعهم فيما بينهم، وعاشوا في المدينة بكامل حريتهم، حتى أن الأحاديث المروية تبين إلى أي مدى كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتح لهم باب الحرية على مصراعيه، فقد كانوا يغشون مجالس المسلمين ويسألون ما يريدونه ويفعلون كل ما يروق لهم دون أن يلقوا صدوداً أو كرهاً أو نهراً، ومن ذلك ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه في الحديث: (كانَ اليَهودُ يتعاطسونَ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يرجونَ أن يقولَ لَهم يرحمُكمُ اللَّهُ فيقولُ يَهديكمُ اللَّهُ ويصلحُ بالَكم). صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم: 2739، خلاصة حكم المحدث الألباني: صحيح.

وفي كافة الأحداث التي ارتكبها يهود كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم بمعاقبة الجاني دون التعميم في العقوبة على كل اليهود، فأجلى بني قينقاع عندما اعتدوا على حجاب المسلمة في سوقهم وقتلوا المسلم الذي دافع عنها، غير أن ذلك لم يمنع يهود بني النضير وبني قريظة من البقاء في المدينة بلا أي تبعات على فعلة بني قينقاع، وكذلك الحال عندما قام بإجلاء بني النضير عقب محاولتهم قتله صلى الله عليه وسلم، فإنه أبقى بني قريظة في المدينة إلى أن أوقعهم حيي بن أخطب (شيطان بني النضير) في الخيانة العظمى، فعوقبوا على جريمتهم هم وليس على جريمة غيرهم من اليهود.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هدايتهم ونجاتهم وليس أدل على ذلك من ذهابه بنفسه إليهم لدعوتهم إلى هذا الدين، ورغم عدم تجاوبهم معه إلا أنه كرر ذلك معهم جماعياً وفردياً، حتى إذا حصلت استجابة من فتى يهودي واحد لم يخفٍ فرحه وسروره الشديد بإسلامه كما جاء في صحيح البخاري: (كان غُلامٌ يَهودِيٌّ يَخدِمُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فمَرِض، فأتاه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُه، فقعَد عِندَ رَأسِه، فقال له: أسلِمْ. فنظَر إلى أبيه وهو عندَه، فقال له: أطِعْ أبا القاسمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأسلَم، فخرَج النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يقولُ: الحمدُ للهِ الذي أنقَذه من النارِ). الراوي: أنس بن مالك، صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 1356.

كان صلى الله عليه وسلم أحرص على هدايتهم من قتالهم وهو ما يتجلى بأروع صوره لحظة إعطائه الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم خيبر وسؤال الأخير عن تفاصيل مهمته كما في الصحيحين.

قال عليٌّ: يا رسولَ اللهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتى يكونوا مثلَنا؟ فقال: انْفُذْ على رِسْلِكِ حتى تنزلَ بساحتِهِم، ثمَّ ادعُهُمْ إِلى الإسلامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليْهِم مِنْ حقِّ اللهِ فيه، فواللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بكَ رجلًا واحدًا، خيرٌ لَكَ مِنْ أنْ يَكُونَ لَكَ حمرُ النَّعَمِ). الراوي: سهل بن سعد الساعدي، المصدر: صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 3701.

وحتى في هذه لم يستجيبوا لذلك العرض المغري من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصروا واستكبروا استكباراً، فكان عاقبتهم أن كسر الله شوكتهم بعبادٍ له أولي بأس شديد فما قامت لهم بعدها قائمة في جزيرة العرب.

إن في هذه الأحاديث دلالة واضحة على طبيعة متجذرة في اليهود لابد لكل من يحتك بهم ويتعامل معهم أن ينتبه إليها، فكيف بمن يخوض حرباً ضروساً معهم؟

إنهم يعيشون ككتلة واحدة منكفئة على نفسها وبالكاد يمكن التأثير عليها دون التأثير على القيادات المتحكمة فيها، ففيها من المركزية التي تربط أفرادها مصيرياً بقرار القائد الذي يجعل منه (ملكاً) في بعض الحالات كما حدث مع آرييل شارون الذي لقبوه بـ(ملك إسرائيل) و(أسد إسرائيل). وهم بذلك يستمدون قوتهم من قوة زعمائهم ويضعفون بضعفهم، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقدم على تنفيذ خطة محكمة بإرسال فرق اغتيال خاصة لتصفية الزعماء المؤثرين منهم مثل كعب بن الأشرف وسلام بن أبي الحقيق، وسيق حيي بن أخطب مع كعب بن أسد القرظي إلى مصيرهما المحتوم ضمن الذين نفذ فيهم حكم القتل الذي أجراه الله على لسان سعد بن معاذ رضي الله عنه من فوق سبع سماوات.

ونحن نشهد في أيامنا هذه ما آلت إليه القيادة في الكيان الصهيوني من ضعف بعد ذهاب الجيل المؤسس للحركة الصهيونية، وظهر جلياً أثر رحيل القيادات البارزة المؤثرة كإسحاق رابين وآرييل شارون، فقد استلمت قيادات ضعيفة بلا كاريزما مثل أيهود باراك وإيهود أولمرت وتسيبي ليفني، وصولاً إلى بنيامين نتنياهو وأفيجدور ليبرمان.

“مواجهة اليهود بالحقائق الدامغة لا يزيدهم إلا إنكاراً لها وتمسكاً بالأكاذيب التي يروج لها زعماؤهم ويبثونها في إعلامهم وأدبياتهم”

إن مواجهة اليهود بالحقائق الدامغة لا يزيدهم إلا إنكاراً لها وتمسكاً بالأكاذيب التي يروج لها زعماؤهم ويبثونها في إعلامهم وأدبياتهم، وذلك يعني أن كل أمم الأرض لو اجتمعت على رأي واحد يخالف آراءهم فلن يزحزحهم ذلك عن باطلهم تماماً كما يحدث الآن في زعمهم وادعائهم بأن لهم حق في أرض فلسطين. وهو ما يجعل السير بطريق التفاوض معهم للوصول إلى حلول ترضي الطرفين ليس سوى سراب في سراب ووهم خادع لا يعذر من يسير فيه.

ومن طبيعة اليهود المتأصلة عداؤهم الشديد وتنكرهم لمن يخرج من معسكرهم وإطارهم، وسعيهم إلى التخلص منه والإجهاز عليه، سواء كان ذلك بالقتل المادي أو المعنوي، وذلك يجعل مجرد الانسياق وراء مشروعهم ثم التفكير بالتراجع عنه فقد يودي إلى التعرض إلى مؤامراتهم الفتاكة وهو ما حصل مع الكثير من القادة والزعماء والسياسيين والإعلاميين وكان مصير كثير منهم الموت بطرق غامضة وقفت خلفها الأصابع اليهودية!!

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد