يبدو أن موقف بريطانيا من الإمام يحيى وسياستها في الجنوب، علاوة على مسائل تتعلق بالبراعة السياسية، ومعوقات تتعلق بالنفور المتوارث من حكم الإمامة، بما في ذلك السياسة الجبائية المجحفة، وبخل الإمام يحيى المشهور مقابل كرم نظيره الرئيسي في جزيرة العرب بن سعود الذي كان يحمل خزينته معه أينما حل ويصرف كمن لا يخشى الفقر، وفقاً لكارن إليوت هاوس Karen Elliot House في كتابها On Saudi Arabia وأشكال أخرى من التعسف مثل موضوع الرهائن، كانت السبب الرئيس، في حصر دولة الإمام يحيى في 195 ألف كيلو متر مربع من مجمل الأراضي اليمنية، التي كان يطالب بوحدتها، التي قدرها أحد نواب الإمام (حسين الويسي) في كتابه اليمن الكبرى؛ بأكثر من مليون وسبعمائة ألف كيلو متر مربع.
يقول إريك ماكرو في كتابه اليمن والغرب، إن الإمام يحيى أمر قواته بغزو المحمية- محمية عدن- وهدفه الواضح طرد القوى المستعمرة منها، ومعروف أن قوات الإمام قد استولت على سلطنة العواذل ودثينة ومناطق في لحج، وقام الطيران البريطاني بقصف مناطق عدة في الشمال منها إب ويريم وتعز التي قتل فيها وحدها ثلاثمائة مواطن، حسب نزيه مؤيد العظم، (رحلة في بلاد العربية السعيدة، من مصر إلى صنعاء) وقال إريك ماكرو إن جاكوب، مساعد المقيم في عدن، وصل إلى صنعاء في 1919 وحاول الحصول علي إمتيازات تجارية لمصلحة بريطانية، ومد خط حديدي، عدن لحج صنعاء، مقابل الاعتراف بسيادة الإمام على سلطنة لحج وحضرموت، لكنه عاد من صنعاء دون أن يحصل على شيء، سوى أنه نشر بياناً عند عودته إلى الحديدة، يعبر عن الرغبة في إقامة علاقات ودية! ووصل السير جيلبرت إلى صنعاء في طريقه من السعودية، في فبراير 1926 وهو يأمل الوصول إلى تسوية مسألة الحدود، وتبين له أن الإمام يطالب بمنحه جنوب غرب الجزيرة العربية كلها ويدعي السيادة على المحميات وعدن.
وقال الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني في الجزء الأول من مذكراته، إن سبب عدوان الطائرات البريطانية، على المدن اليمنية هو إن حكومة الإمام يحيى كانت قد بسطت نفوذها على نواحي الضالع وجحاف وحالمين، والشعيب والأجعود، إلى قرية ملاح، وكان يديرها حاكم وعامل من قبل الإمام هو محمد الشامي، وهو مرتبط بأمير قعطبة يحيى بن محمد عباس الذي كان شديد الوطأة على المواطنين، وقد أعتبر أن أراضيهم صوافي، أي أنها أموال حكومية، وسجن بعضهم بما في ذلك شقيق الأمير نصر بن شايف، وأن بعضهم بما في ذلك الأمير نصر بن شايف أمير الضالع، فروا إلى الإمام يشكون الظلم ولم ينصفهم، وأعادهم إلى الأمير يحيى محمد عباس، خائبين، فحبسهم! مما حمل الأمير نصر بن شايف إلى الفرار إلى عدن طالباً الحماية من الإنجليز، الذين وافقوا على ذلك.
وكما كان عبدالعزيز آل سعود يقاتل لاستعادة ملك آبائه وأجداده وفقاً للمراجع السعودية، استناداً إلى الأرض التي استولت عليها الدولة السعودية الأولى والثانية، كان يحيى يتبنى الشيء ذاته وذكر ذلك في خطابه إلى ملك بريطانيا، عند النزاع على شبوة في عام 1938.
وقال إريك ماكرو إن مطالب الإمام في المحميات كانت تستند إلى أن أسلافه كانوا يحكمون تلك المناطق من 1630 إلى أن انفصل سلطان لحج العبدلي، في 1728 وهو أحد عمال الإمام وينتمي إلى أرحب الهمدانية، مثلما ينتمي إلى همدان الكبرى بن هرهرة سلطان يافع، وآخرين من سلاطين الجنوب والمشرق مثل الرصاص والكثيري.
وأضاف ماكرو إن المعتمد البريطاني الجديد رايلي الذي كان ضمن بعثة جاكوب إلى صنعاء في 1919 كان يتحين الفرصة المناسبة، ويتوقع أن الحرب بين الإمام وابن سعود ستحصل وأن المسألة وقت (ولا بد أن بريطانيا أججت مثل ذلك الصراع لمصلحتها)، وقال إن المعتمد البريطاني رايلي، وهو أول من يلقب بالمعتمد، أملى الاتفاقية، علىِ الإمام يحيى، وتم توقيع الإتفاقية في 11 فبراير1934، التي جعلت الإمام يعترف بوضع قائم على الحدود (خلافاً لموقفه من قبل).. وفي 20 مارس 1934 انفجرت الحرب بين الإمام يحيى وابن سعود.
ويرجع القاضي الإرياني هزيمة الإمام يحيى، الذي وصفه أنه كان حلس الحروب، في شبابه، إلى جُبن ابنه سيف الإسلام عبدالله حاكم الحديدة، ومحاولة تغطية الإمام يحيى على ذلك الجبن، بسحب القوات من الحديدة دون إطلاق رصاصة واحدة قبل وصول قوات الأمير فيصل. وقال: كان يحكم الحديدة سيف الإسلام عبدالله إبن الإمام يحي الأثير عند والده جدا، والجبان في نفسه جداً، فقد هول على أبيه زاعماً أن فيصل يقود جيشاً كبيراً مسلحاً بآليات حديثة، لا تملكها اليمن. وأنه لا يمكن مقاومة ذلك الجيش! وأُصيب الإمام يحيى، الذي كان حلس الحروب في شبابه، بالهلع خوفاً على ولده، فأمر بالانسحاب إلى حراز.. ولم يكتف بهذا، بل أمر جميع قادة الجيوش والعمال على تهامة بالانسحاب، حتى لا يُرمى أبنه بالجبن ويحمله الشعب المسؤولية! وقال القاضي الإرياني إن معظم أهل تهامة، وعلى راسهم هادي هيج، تلقوا الجيش السعودي بالترحاب لأن عمال الإمام لم يحسنوا معاملتهم في أيام السلم! ويؤكد كلام الرئيس الإرياني ما ذكره إريك ماكرو حيث قال (حملت السفينة وقبطانها ر.ه. بيان تقريراً إلى عدن مفاده أن القوات اليمنية جلت عن الحديدة، وانفرط الأمن فيها، مما عرض حياة 300 من السكان الهنود وممتلكاتهم للخطر، واستجابة لطلب القائد بيفان قامت الطائرات السرب رقم 8 بطيران استعراضي فوق المدينة، ثم هبطت هذه الطائرات بكمران لبضعة أيام حتى احتلت القوات السعودية الحديدة وأعادت النظام والأمن.. كما اهتمت فرنسا وبريطانيا خلال هذه المدة، بالخطر المحتمل على رعاياهما في الحديدة، وانضمت إلى السفينة بيزنانس في ميناء الحديدة ثلاث سفن إيطالية مسلحة من مصوع وسفينة فرنسية قديمة مطاردة للغواصات، وفقاً لماكرو..
وأشار الارياني كيف أن الوضع كان مختلفاً في نجران، حيث القيادة هناك بيد سيف الإسلام أحمد (وهو محارب متمرس شجاع وإن كان طاغية فظيع في الحكم).. وكيف حدثت بعد ذلك المقايضة بالانسحاب من الحديدة مقابل الانسحاب من نجران.
وشنع القاضي الإرياني على سياسة الإمام يحيى تجاه أهل نجران الهمدانيين الياميين، الإسماعيليين، وكيف أنهم لجأوا إلى إبن سعود، مخافة بطش الإمام بهم بسبب مذهبهم، مثلما حدث لأبناء مذهبهم أهل حراز وعراس الإسماعليين، الذي أمرهم الإمام بالإسلام من جديد إما باتباع المذهب الزيدي أو أحد المذاهب الأربعة، في حين أقرهم ابن سعود على مذهبهم!
وكان الداعي الإسماعيلي يحارب إلى جانب الأتراك في ”الفتح“ العثماني الأول، وكان متحالفاً معهم ضد الأئمة، وقد أستمر وجود العثمانيين في المرة الأولى، في اليمن، حوالي 100 عام.
ويمكن ملاحظة نفور أهل الضالع وأهل تهامة وأهل نجران من أساليب حكم الإمامة ويقارن بالنفور من حكم الحوثي اليوم في كل اليمن؛ وتبقى الإمامة على الدوام عامل مفرق ومشتت في اليمن، وليس عامل وحدة.
وكانت الطائرات البريطانية تلقي بمنشوراتها على المناطق الشافعية محرضة أبناء تلك المناطق بأنها لا تريد بهم شراً، لكنها تريد إنقاذهم من بطش الزيود وعسفهم!
ويحمل القاضي الإرياني على الطائفية والإقليمية البغيضة التي بسببها تم دفن بعض من تبقى من الجنود أحياء في الحديدة، لأنهم جبالية، وقال إنه إذ قد يجد لهم عذراً بسبب ما كانوا يعانونه من أولئك الجنود من قبل، وهذه حقيقة نقولها للتاريخ، على الرغم من مرارتها على النفس، لكنهم في النهاية وجدوا أنفسهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، بسبب ما وجدوه من فضائع من التعامل مع السعوديين، حسب القاضي الإرياني.
وصدق الأستاذ محمد محمود الزبيري عندما أكد على خطر الإمامة على وحدة اليمن، في كتابه؛ الإمامة وخطرها على وحدة اليمن. وقال إن الإمامة فكرة ”كان“ يعتنقها جزء قليل من سكان اليمن الأعلى وإن باقي الشعب يرفضونها ولا يقبلونها.. ويقول الزبيري أن الحكم الذي حاولت الإمامة فرضه على الشعب هو سبب من الأسباب التي أدت إلى تمرد أبناء الشعب، ليصل الأمر إلى أن الإمامة ترى أن “اليمن الأعلى” المتمثل بالزيدية هو الذي يحق له الحكم، وأما “اليمن الأسفل” فهم مجرد ميدان لهذا الحكم!