ألمانيا في ناميبيا.. مئة عام على "أول إبادة جماعية" في القرن العشرين

2024-01-16 01:26:19 أخبار اليوم/ متابعات

 

الأرض والذاكرة هما التوأمان اللذان لا يزالان متشابكين بشدة حتى يومنا هذا بالنسبة لشعبي الهيريرو والناما، اللذين يسكنان دولة ناميبيا أقصى جنوبي غربي أفريقيا، وألمانيا الواقعة وسط القارة الأوروبية.

 

قبل مئة عام بالضبط، شدد الاستعمار الألماني حكمه القاسي على ناميبيا، وكانت عمليات القتل على نطاق واسع جزءا من حملة العقاب الجماعي الألمانية بين عامي 1904 و1908، والتي تُعرف اليوم بأنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين، ولكن قصة الاستعمار الألماني بدأت قبل 3 عقود من تلك الحقبة الدامية.

شكَّل مثول إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، في قضية ارتكابها جريمة إبادة جماعية في الحرب التي تشنها على الفلسطينيين في غزة، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، الحدث، إذ نجحت جنوب أفريقيا، التي تكفلت برفع هذه القضية أمام المحكمة في عرض ملفٍ شامل يدين إسرائيل بارتكاب أخطر تهمة توجه إليها حتى الآن، وهي ارتكاب إبادة جماعية في حربها على قطاع غزة.

 

وأمام الموقف الصعب الذي أصبحت تواجهه تل أبيب، سارعت الدول الداعمة لإسرائيل في التعاطف والدفاع عنها في محكمة العدل الدولية، فبعد أن هاجمت الولايات المتحدة الأمريكية الدعوى الجنوب أفريقية واعتبرتها باطلة، انضمت الجمعة، 12 يناير/كانون الثاني 2024، ألمانيا إلى المحاكمة كطرفٍ ثالث للدفاع عن إسرائيل في وجه تهم الإبادة الجماعية.

 

دفاع ألمانيا عن ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية أعاد إلى الأذهان الممارسات الوحشية لألمانيا خلال القرن الماضي، بارتكاب الألمان أول إبادة جماعية في القرن العشرين، وذلك عند إبادتهم لشعبي الناما وهيريرو، وهي الجريمة التي حاولت ألمانيا التنصل منها، قبل أن تعترف بها بعد 100 عام، فماذا قصة هذه الإبادة المنسية؟ وكيف تهرّبت ألمانيا من العقاب؟

 أول إبادة جماعية في القرن العشرين ارتكبتها ألمانيا

كان القرن العشرين مسرحاً لمئات من جرائم الإبادة الجماعية، التي راح ضحيتها ملايين البشر في مختلف قارات العالم، وعند الحديث عن نصيب ألمانيا التي تدافع حالياً عن ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي جريمة الإبادة الشعبية بحق الفلسطينيين، فقد كان سجل الألمان أسودَ بشكلٍ لن ينظّف أبداً.

 

وعلاوة على ما فعلته ألمانيا في الحربين العالميتين من جرائم بشعة، فإنّ الألمان كانوا أوّل الدول التي فتحت الباب أمام ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في القرن المنصرم، إذ كانت أول إبادة جماعية في القرن العشرين من فعل الألمان، أمّا ضحيتها فكانت نامبيا التي كانت مستعمرة ألمانية مطلع القرن العشرين، وأصبح يصطلح عليها تاريخياً بالإبادة الجماعية الناميبية.

 

لم تكن الإبادة الجماعية الناميبية هي أول إبادة جماعية في القرن العشرين فقط، ولكنها تبدو الأكثر رُعباً في ذلك القرن المضطرب. حيث كانت إبادة منهجية لحوالي 80% من شعب هيريرو و50% من ناما، وكان العمل يُدار على حدٍّ سواء من الجنود الألمان والإداريين الاستعماريين لإبادة الزنوج في نامبيا وخلق مجتمعٍ أبيض في جنوب غرب أفريقيا.

100 ألف شخص ذهبوا ضحية أول إبادة جماعية في القرن العشرين

حدثت هذه المجزرة بين عامي 1904 و1908، قبل تولي النازية للسلطة في ألمانيا بأقل من ثلاثة عقود، وبقيت طيّ النسيان، مع أنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين.

 

بدأت الجريمة عندما قام ثيودور ليوتوين، حاكم مستعمرة الجنوب الغربي، وقائد الجيش الاستعماري الألماني آنذاك، بقمع دموي لانتفاضة أطلقها سكان ناميبيا.

 

ومرّت أشهر من دون تمكن الألمان من السيطرة على الوضع، ولكن عندما عين قيصر ألمانيا فيلهيام الثاني الجنرال لوثر فون تروثا قائداً للجيش الاستعماري، بدأت المجزرة الحقيقية.

 

إذ قام الجنرال ورجاله بقتل النساء والأطفال وتسميم آبار المياه، وأعطيت الأوامر بإبادة تلك القبائل الأفريقية من طرف الجنرال نفسه، الذي كان يطمح لخلق منطقة بيضاء خالية من الزنوج.

 

كما كان كل من يحاول العودة إلى أرضه يتعرض للقتل أو الاحتجاز في معسكرات خاصة، وكاد أن يُفني جماعتي هيريرو وناما عن بكرة أبيهما.

 

وتم اعتقال قرابة 3500 سجين، وُسِموا بالنار بحرفَي " GH "، إشارة إلى الحرفين الأولين من كلمتي سجين هريرو بالألمانية، وتم تعذيبهم.

 

وأجرى الطبيب الألماني يوجين فيشتر تجارب على بعضهم لإثبات تفوق العنصر الأبيض على الأجناس الأخرى، وقد تأثرت النازية بزعامة أدولف هتلر بتجاربه تلك، ولم ينجُ من أولئك السجناء سوى مئتين.

 

ويُعتقد أن ما يصل إلى 100 ألف من قبائل الناما وهيريرو لقوا حتفهم على أيدي القوات الألمانية في أوائل القرن العشرين، في ظل الاستعمار الألماني آنذاك في جنوب غرب أفريقيا.

 

واستمرت جريمة ألمانيا في حق ضحايا أوّل إبادة جماعية في القرن العشرين لأكثر من قرن، إذ في عام 2018، أعادت ألمانيا إلى ناميبيا بعض الرفات البشرية التي كانت قد استخدمها الألمان في "أبحاث علمية"، سعت لإثبات التفوّق العرقي للأوروبيين البيض، وذلك بعد أن احتفظت بها في متاحف في ألمانيا لأكثر من قرنٍ من الزمن.

اعترافٌ بعد أكثر من 100 سنة من ارتكاب الإبادة

 

بعد سنواتٍ طويلةٍ من المفاوضات بين ناميبيا وألمانيا، لم تعترف ألمانيا بارتكاب الإبادة الناميبية الجماعية سوى في سنة 2021، أي بعد أكثر من 113 سنة، إذ اعترفت ألمانيا رسمياً في سنة 2021 بأن قواتها ارتكبت جرائم إبادة جماعية في ناميبيا، إبّان الحقبة التي استعمرت فيها ألمانيا هذه الدولة الأفريقية، ووافقت الحكومة الألمانية على دفع تعويضات مالية لقاء ذلك.

 

وذلك بعد حملةٍ قادتها قبيلتا الهيريرو والناما، التي ارتُكبت بحقهما الإبادة بعد استقلال ناميبيا سنة 1990، إذ حافظ أحفاد الهيريرو والناما على ذكرى تلك الأحداث وعلى قصص الإبادة الجماعية حيةً في وجدانهم طوال قرن من الزمان، من خلال الروايات الشفهية والفعاليات الثقافية، حتى إجبار الألمان على الاعتراف والتعويض عن تلك الإبادة، التي تعدّ أول إبادة جماعية في القرن العشرين.

وكان أحفاد الهيريرو والناما قد رفعوا قضيةً ضد الألمان أمام القضاء الأمريكي، بالمسؤولية عن ارتكابهم إبادة جماعية بحق أجدادهم، إلا أنّ الألمان نجوا من تلك القضية، بعد أن رفضت المحكمة إدانة ألمانيا بارتكاب أول جريمة إبادة في القرن العشرين.

 

واستندت المحكمة حينَها في قرارها إلى مبدأ الحصانة السيادية، والذي يعني عدم جواز خضوع دولةٍ بغير إرادتها لقضاء دولة أخرى. فلا يجوز لدولة ذات سيادة أن تفرض سلطتها القضائية على دولة أخرى ذات سيادة.

 

الأمم المتحدة: "إبادة جماعية"

في عام 1985، صنف "تقرير ويتاكر" الصادر عن الأمم المتحدة ما حدث لشعبي الهيريرو والناما بأنه إبادة جماعية. وفي مايو/أيار 2021، اعترفت الحكومة الألمانية نفسها رسميًا بما حدث بأنه إبادة جماعية.

 

في إعلان مشترك مع ناميبيا، تعهد الألمان بدفع 1.1 مليار يورو للحكومة الناميبية مساعدة خلال أكثر من 30 عامًا، ونص الاتفاق على ضرورة إنفاقها في المناطق التي يعيش فيها الآن أحفاد ضحايا الفظائع.

 

كان هناك الكثير من الاستياء في ناميبيا بشأن الاتفاق المشترك بين الحكومتين الناميبية والألمانية، إلى جانب مطالب من نشطاء الناما والهيريرو بإعادة التفاوض بشأن الاتفاقية، وتوفير المزيد من الأموال للمجتمعات المتضررة، وإشراكهم مباشرة في المناقشات.

 

في الواقع، لم توقع أي من الحكومتين على الاتفاقية حتى الآن. وأشارت الحكومة الناميبية إلى رغبتها في مزيد من المفاوضات، في حين رفض البرلمان الألماني إجراء المزيد من المحادثات.

 

يشعر العديد من الهيريرو والناما أن حزب الأغلبية الحكومي "المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا" (سوابو) لا يمثلهم ولا يمثل شعوبهم بشكل كاف، لأن أقوى دعم للحزب الحاكم يأتي من شعب أوفامبو في النصف الشمالي من البلاد. في حين ترى الحكومة أنها تمثل جميع الناميبيين، وأن الاتفاقية لا يمكن تقييدها بموافقة الهيريرو والناما فقط.

 

يقول فانويل كاباما، أحد كبار المفاوضين في الحكومة الناميبية، للجزيرة إنه في الوقت الحالي هناك "عملية مشاورات داخلية لبناء توافق في الآراء".

 

ويؤكد المبعوث الخاص للحكومة الألمانية روبريخت بولينز، في رسالة بالبريد الإلكتروني، أن "الإعلان المشترك تمت مناقشته في ناميبيا منذ مايو/أيار 2021، وغالبا ما يُنظر إليه على أنه مثير للجدل. الحكومة الاتحادية تراقب هذا النقاش وتنتظر النتيجة".

 

وفي الذكرى المئوية للإبادة في ناميبيا، رفضت الدولة الأفريقية دعم ألمانيا لموقف إسرائيل في محكمة العدل الدولية حيث تواجه تهمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.

 

وأعربت الرئاسة الناميبية -في بيان لها على موقع إكس أمس السبت- عن قلقها العميق إزاء "القرار الصادم" الذي أصدرته ألمانيا قبل يومين، والذي رفضت فيه لائحة الاتهام الأخلاقية التي قدمتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل.

 

وأعلنت ألمانيا أنها ستتدخل كطرف ثالث أمام محكمة العدل لدعم إسرائيل في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضدها.

 

وأشارت ناميبيا إلى ما وصفتها بـ"أول إبادة جماعية" في القرن الـ20 ارتكبتها ألمانيا على الأراضي الناميبية بين عامي 1904 و1908، و"راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء في ظروف لا إنسانية ووحشية".

 

وقالت إن الحكومة الألمانية لم تقم بالتكفير الكامل بعد عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها على الأراضي الناميبية.

 

وانتقدت وندهوك تجاهل برلين الوفيات العنيفة التي أدت إلى استشهاد أكثر من 23 ألف فلسطيني في قطاع غزة، كما تجاهلت تقارير الأمم المتحدة التي تسلط الضوء على النزوح الداخلي لنحو 85% من المدنيين في غزة، وسط نقص حاد في الغذاء والخدمات الأساسية.

 

وكررت الرئاسة الناميبية دعوة الرئيس حاجي جينجوب التي أطلقها في نهاية الشهر الماضي قائلا إنه "لا يمكن لأي إنسان محب للسلام أن يتجاهل المذبحة التي ارتكبت ضد الفلسطينيين في غزة".

 

وناشد جينجوب الحكومة الألمانية أن تعيد النظر في قرارها غير المناسب بالتدخل كطرف ثالث للدفاع عن "أعمال الإبادة الجماعية" التي ترتكبها إسرائيل، ودعم تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية.

  

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد