المؤرخ الإيطالي فرانكو كارديني: مظالم غزة وظلمات الحداثة

2024-01-24 12:20:21 أخبار اليوم - متابعات

  

في الافتتاحية التي كتبها يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لمدونته الشخصية على الإنترنت، سخر المفكر الإيطالي فرانكو كارديني (مواليد عام 1940) من الصحفيين الإيطاليين الذين شحذوا أقلامهم منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة “لإقناع جمهور يعوزه الفكر النقدي بأن حماس تمثل “الشر” في هذا العالم.

 

“هذه ليست سوى دعاية”، يقول المؤرخ الإيطالي المختص بالعصور الوسطى والذي لاحظ في كتابه الصادر في سبتمبر/أيلول الماضي “تهافت الغرب” (منشورات لاتيرزا، 2023) كيف أن العالم الغربي لم يتجاوز فكرة “الشر المطلق” وشيطنة العدو على طريقة المجتمعات القروسطية (العصور الوسطى)، على الرغم مما أسماه “وَهْمَ علمنة الشعوب الأوروبية”.

 

ويُحاجج كارديني الخبير في تاريخ الحروب الصليبية بأن الغرب صنع له شياطين كثيرة في تاريخه المعاصر بداية من النازية التي شكلت بتعريف ريغان “الشر المطلق”، لتأتي بعده “إمبراطورية الشر” ممثلة في الاتحاد السوفياتي، ثم “أصل الشرور” الإسلام، “ليتم تعويض هؤلاء اليوم بـ(الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين”، يقول في كتابه بنبرة ساخرة.

 

كتاب “تهافت الغرب” للمفكر الإيطالي فرانكو كارديني (الجزيرة)

“الليبرالية التوليتارية”

ويوضح فرانكو كارديني، في إصداره المكثف الواقع في 170 صفحة، أن مفهوم العدو الأكبر أو العدو المطلق بالمعنى الوجودي هو مفهوم راسخ في “الديانات الإبراهيمية المؤمنة بالإله الواحد” وما يقابله كخصم في الديانة المسيحية “الشيطان”، واستحضر المؤرخ الإيطالي البارز المفكرة الأميركية (من أصل ألماني) حنة آرنت التي نظّرت لفكرة لجوء الأنظمة التوتاليتارية لتكريس سلطتها عن طريق اختراع عدو تقدمه باعتباره المسؤول الأول والأخير عن كل الشرور، ليشير كارديني إلى أن الأمر لا يقتصر على ما تعرف تاريخيا بالأنظمة الشمولية فحسب، “بل العكس، فإن الليبرالية الغربية أو ما يُعتقد أنها الأيديولوجية الأكثر ديمقراطية من بين كل الأيديولوجيات في القرن العشرين والواحد والعشرين، قادرة على إنتاج شكل جديد من الفكر الشمولي، يظهر كملمح للفكر الأحادي”.

  

ويواصل كارديني مؤكدا أن “الليبرالية نفسها يمكن اعتبارها ضربا من ضروب التوتاليتارية”.

 

كارديني لم يتوقف عند مثال شيطنة الغرب لأعدائه كدليل على عقم الفكر الحداثي والمؤسسات الدولية التي أنتجها وأثبتت عجزها الكلي أمام المجازر التي ترتكبها إسرائيل كل يوم بحق الفلسطينيين، بل عبّر صاحب “الارتحال من إيطاليا إلى القدس” عن موقفه من العدوان الإسرائيلي على غزة في افتتاحية مدوّنته بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بدعوة نتنياهو لتدبر آياتٍ من سفر التكوين، متسائلا “هل رئيس الوزاء الإسرائيلي قادر على فهمها، أم إنه يعتقد بأنه أشد جبروتا من الرب؟”.

 

اللافت هنا أن كارديني لم يستدعِ لا “الديمقراطية” ولا “حقوق الانسان” في التعبير عن موقفه من المقتلة اليومية الجارية في فلسطين، بل استحضر الكتاب المقدس حصرا والقصص الإنجيلي.

 

وهكذا نجده في افتتاحية مدونته بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي والتي عنونها بـ”يا ربّ، يا منتقم، لا تنسى”، يؤكد أن “ثمة مذبحة متواصلة لا تَظهر أي بوادر عن قرب انتهائها، ومعها تتواصل عمليات تسترِ وسائل الإعلام على المجازر، والتقليل من شأنها، والنظر في الاتجاه الآخر، ولعب سياسة دس النعامة رأسها في التراب. يطلقون عليها اسم الحرب بين إسرائيل وحماس، لكنها الحرب التي أودت بحياة أزيد من 20 ألفت من الأبرياء، بما في ذلك عدد مهول من الأطفال”.

  

franco cardini ANDALUSIA

كتاب “الأندلس” للمفكر الإيطالي فرانكو كارديني (الجزيرة)

كارديني الذي تضرع لله من أجل نصرة الأبرياء في غزة، لا يبدو أنه يؤمن بجدوى مناشدة مؤسسات النظام الدولي أو استحضار معجمها، بل ذهب في كتابه الصادر حديثا إلى نقد جذور الفكر الحداثي الذي ابتذر فكرة “إرادة القوة” ومنها فرض “الغرب” هيمنته على العالم بأسره، ذلك بأن الغربي -بحسب كارديني- مقتنع بأن قيمه هي بالضرورة قيم كونية، في حين أن “الأمر لا يتعلق سوى بحلم السعادة الأميركي الذي حوّله إلى حق”.

 

ويضع كارديني في مقدمة كتابه الأصبع على أعطاب الفكر الحداثي منذ النشأة، مؤكدا أن “إرادة القوة هي ما يشرّع للرُّكنين اللذين تقوم عليهما الحداثة: المساواة والعدالة، ركنان للأسف ليسا سوى حصانين يركض كل واحد منهما باتجاهين معاكسين، وهكذا فكلما زادت المساواة قلت نسبة الحرية، وكلما زادت الحرية ضعفت المساواة”.

  

ومن أجل خلق توازن بين الطرفين لا بد من ركن ثالث يتوسطهما، بحسب المؤرخ الإيطالي، “وهنا تقترح الثورة الفرنسية بكل إنسانية وطوباوية الإخاء”. ويتابع كارديني “ولكن ما يبدو هو أن الإخاء لا يصمد إن لم يأتِ مدعما بتبرير ميتافيزيقي ومتجاوز للتاريخ، أي ذي مصدر إلهي”.

 

وهنا يقف كارديني عند المفارقة الأبرز في الفكر الحداثي وهي أن “مسار العلمنة اللصيق بمفهوم الحداثة كان هو نفسه ما حيّد أي إمكانية لتقديم أي تبرير معقول من هذا النوع”. لتحل إرادة القوة محل الإخاء وتصبح الرغبة في الهيمنة هي المفهوم الأصيل المرافق للحداثة التي جلبت الاستعمار، وهو ما يقول كارديني إنه قد لا تكفينا آلاف المجلدات لتعداد فظائعه ومعه فظاعات الاستعمار الاقتصادي والنيوكولونيالية التي تتعامى عنها اليوم مؤسسات النظام الدولي.

 

كارديني لا يكتفي بنقد الأسس الفلسفية للحداثة، بل يشكك أيضا في أدواتها الإبستيمولوجية (المعرفية)، ويذكرنا كمختص في التاريخ بمقولة المؤرخ الأميركي ديفيد لاندس التي يدعونا من خلالها لكتابة التاريخ مع إرفاق كل الأفعال بحرف “قد”، الذي “يفيد التشكيك”.

 

وهنا يتوسع كارديني في أطروحة “التاريخ الذي يكتبه المنتصرون” ليصل إلى أن التاريخ في أوروبا ومنذ بدايات العصر الحديث أصبح عبارة عن سلعة يدفع ثمنها الممولون، “فالتأريخ هو مهنة” -يقول كارديني- “ومن يمارسها يحتاج لكسب قوته، وهي بذلك تستدعي وجود زبائن”.

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد