ما إن مرت سنوات قليلة على انقطاع الوحي، حتى أخذت الانقسامات والتشققات تملأ جسم الدين الجديد لتؤكد حقيقة أن النبي العظيم لم يترك وراءه وصية، أو قاعدة بعينها لتحديد نظام الحكم أو إدارة الأمر من بعده. لقد ترك ذلك لتقديرات واجتهادات المسلمين وفقاً للظروف والمعطيات المحيطة، والمتجددة، بكل ما تحمله من متغيرات، وبهذا يكون قد ترك ميراثاً قاعدته الثلاثية: الإيمان، العقل، المصالح المرسلة .
تمثلت الخلافات التي شهدها المسلمون بمجملها في :
١- فكري، ابتداءً بالقدرية والجبرية والمرجئة والمعتزلة وإخوان الصفاء والجهمية والأشاعرة.. وغيرهم، ناهيك عن المذاهب الفقيه؛ وجميعها أثرت الفكر الإسلامي.
٢- الانقسام الذي تمحور حول أصول الحكم والذي أخذ طرفاه الرئيسيان (السنة والشيعة) يعززان قاعدتهما الاجتماعية بافتراق كبير في أصول الدين، الأمر الذي فتح الأبواب للغلو والتطرف لأجنحة من الفريقين تسببت في سلسلة كبيرة من الأضرار على المسلمين، لا زالت تفعل فعلها حتى اليوم.
من نافلة القول إن غلاة الشيعة والسنة ممن فقدوا صلتهم بالأرض وبالواقع، راحوا يخوضون معارك دنكشوتية في فضاءات التاريخ مستحضرين من جوفه محطات منتقاة، وخاصة تلك التي تلطخت بدماء الأبرياء والمخدوعين من المسلمين بحثاً عن حق الأطراف المتنازعة على الولاية والحكم والسلطة بين سالب ومسلوب، وصاحب حق ومدعي، وظالم ومظلوم.. وغيرها من التوصيفات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
لقد غطت هذه الصراعات الدموية مساحة واسعة من التاريخ الإسلامي ، وهي المساحة التي لا زالت حتى اليوم تشكل البيئة التي تتوالد فيها أمراض الصراعات ، وتتكاثر فيها أوبئة الانتقام ، وتتفجر فيها ألغام الفتن والحروب ، وتشتعل في جنباتها نيران الكراهية على ذلك النحو الذي استطاع فيه هؤلاء الغلاة تحويل محطات الصراع تلك إلى مراكز استقطاب وفرز للناس بصورة يغيب فيها الوطن والمواطنة ، وتغيب فيها الحقوق المدنية ومؤسساتها التي تشكل بطبيعتها العامل الحاسم في تشبيك المصالح المجتمعية على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات .
لقد أخذت هذه التداعيات تزاحم الدولة الوطنية وتمارس عليها الضغوط، وتضيق عليها الخناق بافتعال معارك تستقطب فيها قطاعات واسعة من المجتمع، وخاصة تلك القطاعات التي بقيت ، لأسباب عديدة ، تراوح في المساحة التي تفصل ما بين الدولة والبنى المقاومة للدولة ، وتجندها للعنف ، وسفك الدماء ، وإشاعة الفوضى ، وإرهاب كل من يدعو إلى قيام دولة تؤسس لنظام مواطنة مدني يكون فيه الشعب مالك السلطة ومصدرها .
إن من أخطر البنى المقاومة للدولة هي تلك التي تأسست في رحم التاريخ الذي قسم المسلمين إلى طوائف يدعي كل منها حقه في الحكم باعتباره مالك ناصية الحقيقة ومرجعية الرسالة ، وخاصة تلكما الطائفتان اللتان تنازعتا الإمامة والخلافة في تكريس أصول الحكم ، فبينما تستمد الإمامة مشروعيتها من منظور يعتمد خرافة الوصية ، وجسدت شرط البطنين المؤهل الأساسي لنيل لقب الإمام ، فإن الثانية ، وإن بدا أنها قد تحررت نسبياً من شرط النسب الأقرب ، إلا أنها وقعت في خديعة الانتساب الجهوي القرشي الذي شكلت فيه السقيفة أول محاولة لتكريس الأمر خارج المضمون الأممي والإنساني للإسلام ، على الرغم من وجاهة المبررات التي حملت الحاضرين يومذاك على حسم المسألة على ذلك النحو الذي تذكره كتب التاريخ .
من جذر الفكرة- الإشكالية تلك، أخذت تتوالد محطات الصراع بين القرشيين أنفسهم، مروانيين، هاشميين، أمويين، ثم علويين، وعباسيين، وفاطميين، ومن داخل هذه العائلة المنقسمة ظهر غلاة الشيعة وغلاة السنة في تساوق محكم مع صراعهم من أجل الحكم. أما بقية المسلمين فقد كانوا مجرد بيادق يحاربون ويُقتلون تحت الرايتين، فيما عدا حالات نادرة حاول فيها بعض العلماء أن يعيدوا إلى الذاكرة الجمعية للمسلمين أن الناس سواسية، وأن أمر المسلمين هو شأن يتولاه المسلمون بشروط لا يحتكرها عرق أو دم أو لون، وأنها مسألة لم يأت بها كتاب أو سنة، وأن ما علق في الفكر الإسلامي من مرجعيات بخصوص نظام الحكم هي اجتهادات، منها ما كان يخدم في حالات كثيرة الحاكم، ومنها ما هو مستوحى من حاجة الممالك الإسلامية للاستقرار في الظروف التي كانت تمر بها.
وعندما كان المسلمون من خارج قريش وفروعها يهبّون لإيجاد معادلات للحكم مستوحاة من حقيقة أن أمر المسلمين غير معقود على عرق، أو مرجعية بشرية بعينها، كانت فروع قريش وأفخاذها يتوحدون تحت راية عبد مناف، إن لم تكن راية قصي بن كُلاب، متجاوزين مروان وهاشم والسقيفة والغدير ومقتل عثمان والفتنة والجمل وصفين وكربلاء والشيعة والسنة، لمواجهة ذلك الدخيل، كما حدث مع الخوارج الذين ذكّروا الجميع بمضمون حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي لا يشترط عرقاً بعينه لتولي أمر المسلمين.
لم تكن نقاوة الإيمان هي المحدد الأساسي لهذا الخلاف الذي أورث المسلمين هذا الانقسام، وما ارتبط به من غلو، حتى اليوم بقدر ما كان ذلك يحوم حول تأسيس مرجعية للحكم تُستنبط عبطاً من "المقدس" الذي جاء خالياً من هذه المرجعية. وفي هذا السياق وعلى مدى قرون تشكلت خارطة الصراع التي رسمها هذا الغلو واتخذت صوراً مختلفة، منها ما لا يخطر على بال.
منذ يومين حملت الأنباء أن غلاة الشيعة في العراق طالبوا بإزالة تمثال أبو جعفر المنصور من إحدى ساحات الكرخ في بغداد، وكانوا في وقت سابق قد أحرقوه في مشهد ارتبط في وعي العراقيين بسقوط الدولة.
بدا المشهد وكأن العلويين يصفون حساب تاريخي مع ثاني خليفة عباسي، وهو الذي بنى مدينة بغداد التي أصبحت عاصمة المسلمين لمدة تزيد عن خمسمائة سنة قبل أن يحرقها هولاكو، وكانت قبلها دمشق دمشق الأموية. غلاة الشيعة لا يريدون شيئاً يجرح قبضتهم على بغداد، حتى لو كان مجرد تمثال حجري غدا ذاكرة تاريخية شبيهة بأي أثر أشوري أو بابلي أو سومري أو كلداني يؤمه السواح كجزء من تاريخ هذا البلد المتنوع والعريق. وموقف غلاة الشيعة من التمثال يختلف عن موقف غلاة السنة الذين أيدوا بصمت إحراق التمثال، فبينما يعكس موقف غلاة الشيعة نظرة أيديولوجية تاريخية من العباسيين الذين انتزعوا الخلافة من أبناء عمومتهم العلويين، فان غلاة السنة ينظرون للمسألة من زاوية أنها أصنام ونصب وأزلام من عمل الشيطان. اتفق الخصمان على أبي جعفر المنصور كل من الزاوية التي يرى فيها تمثال المنصور خصماً لعقيدته ومنهاجه.
وفي حين يتعاضد الخصمان في معركة هامشية تجسد حماقة الانتقام من ناحية ومراوغة الإيمان الملتبس من ناحية أخرى، فإنهما يملآن الدنيا ضجيجاً بخلافات تتوقف عند العتبة التي تبدأ فيها مصالح الدنيا تفرض شروطها، كما تجسدها وقائع اليوم وحاجاته المتنوعة. ولنا في هذا الجزء الهام والمُعاش من المشهد أن نلاحظ كيف تتخادم الإمامة مع الخلافة، وكيف يتشابكان في مشروع مشترك ضد مدنية الدولة ونظام المواطنة. لقد أصبح النظام الإيراني، والذي يمثل بسلوكه غلو الفكر الشيعي، الملاذ الآمن للمتطرفين من غلاة السنة كالقاعدة وغيرها، يجمعهم جامع واحد وهو تدمير الدولة الوطنية بالمعنى الذي تتطلع إليه الشعوب في هذا العصر وما يزخر به من علوم ومعرفة وحريات وتقدم اقتصادي واجتماعي، وتمكين للمرأة، واحترام لحقوق الإنسان.
في اليمن يقدم الحوثيون وغلاة السنة المتطرفين من القاعدة وغيرهم نموذجاً لهذا التخادم الذي يتمثل في التعاون المشترك لإسقاط الدولة منذ فجر الحوار الوطني ، حيث قدم غلاة المتطرفين السنة خدمة لا تقدر بثمن للمشروع الحوثي برفض الحوار الوطني وتكفير مخرجاته ، وفي حين شارك الحوثيون في الحوار برداء التقية بهدف التمويه وحماية أجندتهم الانقلابية ، فقد اعتمدوا على رفض غلاة السنة من المتطرفين الحالمين ب"الخلافة" للحوار ومخرجاته ، فقد كان ذلك بمثابة المرتكز الأساسي الذي وفر لهم ولأجندتهم الشرط الكافي للسير حتى النهاية في تنفيذ مشروعهم الانقلابي على الدولة وعلى التوافق السياسي .
ومما له دلالة واضحة في هذا المضمار هو أن تنظيم القاعدة اليوم يعمل في اليمن تحت إشراف الحوثي وبسلاحه، وهذا دليل على أن طرفي التطرف والغلو صنوان يتبادلان الذرائع والأدوار، يختلفان ويواجهان بعضهما وفقاً لما أسساه من أحكام تكفر الآخر، ويتفقان في مواجهة دولة المواطنة. وكما هو الحال في تجارب تاريخية فإن القوي منهما يستخدم الأضعف، تماماً مثلما يحدث اليوم في أكثر من مكان حيث تمكن غلاة الشيعة بدعم عالمي في مرحلة معينة من التسلح والتوسع والانتشار بذريعة مواجهة الإرهاب السني الأمر الذي خلق معادلات إرهاب بات فيها الإرهاب السني القديم موظَفاً لدى الإرهاب الشيعي في تعاون سيريالي لا يحكمه سوى منطق الإرهاب الذي طالما شكل الجسر الذي يربط بين الاثنين.