مطارحات في وجوه الإعجاز القرآني

2024-04-01 00:45:34 أخبار اليوم/ متابعات

  

لما زعم مشركو مكة أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو الذي ألّف القرآن، قال الله -تعالى-: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ۚ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ 33 فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ 34 أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}، (الطور: 33ـ35).

 

- ثم تحداهم بعشر سور: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ ٱللَّهِ وَأَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}، (هود: 13ـ14).

- ثم تحداهم بسورة واحدة: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، (البقرة: 23ـ24).

- وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، (يونس: 38).

 

فعجز جميع الخلق أن يعارضوا ما جاء به، سجّل على الخلق جميعًا العجز إلى يوم القيامة بقوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}، (الإسراء:18).

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ ما مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ، عليه البَشَرُ، وإنَّما كانَ الذي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فأرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَومَ القِيَامَةِ". رواه البخاري.

 

أولًا: أنواع الإعجاز في القرآن الكريم

 

كتب العلماء البلغاء قديمًا وحديثًا حول "إعجاز القرآن" ووجوه هذا الإعجاز، وألّفت في ذلك كتب شتى، فمنهم من عُني بإخباره بالغيوب، ومنهم من عُني بالنظم والعبارة والأسلوب، أو ما يسمى "الإعجاز البياني" وقد كتب فيه القدماء؛ مثل: الباقلاني، والرماني، والخطابي، والجرجاني، والفخر الرازي، وغيرهم.

 

وكتب فيه المحدَثون؛ مثل: مصطفى صادق الرافعي، وسيد قطب في كتابه "التصوير الفني في القرآن" ومثله "مشاهد القيامة في القرآن" وطبّقه في تفسيره "في ظلال القرآن"، وكتاب الدكتور بدوي طبانة "بلاغة القرآن"، والدكتور محمد عبد الله دراز "النبأ العظيم"، ومنهم من عُني بالإعجاز التشريعي أو الإصلاحي الذي جاء به القرآن، كما فعل الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه "الوحي المحمدي"، حيث جدّد التحدي بالقرآن، وبين المقاصد التي جاء القرآن يلحقها الحياة، وأنه يستحيل أن يأتي بها رجل أمي في أمة أمية، وقد فاقت كل ما جاء به الفلاسفة والمصلحون، ومثل ذلك: المقالات التي كتبها العلامة محمد أبو زهرة في مجلة "المسلمون" الشهرية المصرية، تحت عنوان "شريعة القرآن دليل على أنه من الله". (الإيمان بالقرآن والكتب السماوية، الصلابي، ص 42)

 

وقد تعدّدت جوانب الإعجاز القرآني، بمعنى عجز البشر عن الإتيان بشيء مثله بتعدد الزوايا، التي ينظر منها إنسان محايد إلى كتاب الله، ومن هذه الجوانب:

 - الإعجاز اللغوي، والأدبي، والبياني، والبلاغي، والنظمي، واللفظي، والدلالي.

- الإعجاز العقدي "الاعتقادي".

- الإعجاز التعبدي "العبادي".

- الإعجاز التشريعي.

- الإعجاز التاريخي.

- الإعجاز التربوي.

- الإعجاز النفسي.

- الإعجاز الاقتصادي.

- الإعجاز الإداري.

- الإعجاز التنبؤي.

- الإعجاز العلمي.

- إعجاز التحدي للإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بشيء من مثله في أسلوبه، أو مضمونه، أو محتواه دون أن يتمكن أحد من ذلك. (من آيات الإعجاز العلمي السماء في القرآن، زغلول النجار، ص: 12 ـ 13)

  

ثانيًا: وجوه الإعجاز اللفظي

ذكر الإمام أبو بكر الباقلاني (رحمه الله) -من علماء القرن الخامس الهجري- جملة من وجوه إعجاز القرآن الكريم، ومما ذكره في سياق كلامه: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناهٍ في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه.

 

والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصّل ذلك بعض التفصيل، ونكشف الجملة التي أطلقوها.

فالذي يشتمل عليه بديع نظمه، المتضمن للإعجاز وجوه:

- أولًا: منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم (أي العرب)، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه من أساليب الكلام المعتاد.

 

وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر، على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفّى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالًا، فتطلب فيه الإصابة والإفادة، وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، ترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلًا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل فيه، ولا يتصنع له.

وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق.

ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر؛ لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع، ومنهم من يدعى فيه شعرًا كثيرًا.

فهذا إذا تأمله المتأمل تبين -بخروجه عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم- أنه خارج عن العادة، وأنه معجز.

وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في جميعه.

 

- ثانيًا: أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة.

والتشابه في البراعة، على هذا الطول، وعلى هذا القدر.

وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف، والتجوز والتعسف.

وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبًا في الفصاحة، على ما وصفه الله -تعالى- به، فقال -عز مِن قائل-: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ}، [الزمر: 23]، وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}، [النساء: 82]، فأخبر -سبحانه- أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت، وبان عليه الاختلال.

 

- ثالثًا: وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها: من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة.

 

وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها.

 

- رابعًا: وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتًا بينًا في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع.

 

ألا ترى أن كثيرًا من الشعراء قد وُصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه.

 

والقرآن الكريم على اختلاف فنونه وما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة والطرق المختلفة يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد.

 

وهذا أمر عجيب، تبين به الفصاحة، وتظهر به البلاغة، ويخرج معه الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العُرف.

 

- خامسًا: وهو أن نظم القرآن وقع موقعًا في البلاغة يخرج عن عادة كلام الجن، كما يخرج عن عادة كلام الإنس.

 

فهم (الجن) يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله -عز وجل-: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}، [الإسراء: 88].

 

- سادسًا: وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب، من البسط والاقتصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم، موجودة في القرآن.

 

وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم، في الفصاحة والإبداع والبلاغة.

 

وقد ضمنا بيان ذلك من بعد، لأن الوجه ههنا ذكر المقدمات، دون البسط والتفصيل.

 

- سابعًا: وهو أن المعاني التي تضمنها في أصل وضع الشريعة والأحكام، والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضًا في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر ويمتنع، وذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعانٍ مبتدعة، وأسباب مؤسسة مستحدثة، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه -بأن التفاضل في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدهما على الآخر- فالبراعة أظهر، والفصاحة أتم. (إعجاز القرآن الكريم، الباقلاني، ص 45-52)

 

إن القرآن الكريم هو معجزة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الكبرى، ودليله على النبوة، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد وقف أئمة اللغة من العرب عاجزين أمام القرآن أن يحاكوه أو يماثلوه في أزهى العصور للأمة العربية بيانًا وفصاحة وبلاغة. (الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، علي الشحود، ص 488)، فكان التحدي بألفاظ القرآن وكلماته في فصاحته وبلاغته وبيان أسلوبه؛ أعظم تحدٍ منذ أول آية نزلت على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة؛ ليبرهن للناس في كل عصر أنه كتاب لا يمكن أن يأتي به مخلوق، ولو اجتمع الإنس والجن على آية مثله، ولكنه: {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، [فصلت: 42].

* الجزيرة

 

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد