فتح القلوب قبل فتح السيوف.. المعالم الحضارية للفتح الإسلامي

2024-04-02 01:46:16 أخبار اليوم - متابعات

  

كانت ومازالت الفتوحات الإسلامية المادة الدسمة للمؤرخين والمستشرقين الراغبين بتشويه التاريخ الإسلامي والطعن في قيمه الدينية ومبادئه الأخلاقية وسلوك جيل الفاتحين الأوائل الذين يمثلون صفوة المسلمين وقدوتهم العليا، وقد عمد الحاقدون على الإسلام إلى تشويه هذا التاريخ بتزوير الحقائق وتحريف الروايات، وأخضعوها للتأويلات الباطلة والتفسيرات المتحيزة، ولكن معظم جهودهم ذهبت أدراج الرياح، حيث كانت حقيقة التاريخ أقوى شاهد على بطلان ادعاءاتهم، فقد اعترف الكثير من المؤرخين والمستشرقين -غير المسلمين- بتميز الفتوحات الإسلامية وسموها من الناحية الأخلاقية على غيرها من فتوحات السابقين واللاحقين من الأمم والإمبراطوريات الأخرى، وأقروا بعظمة أخلاق المسلمين وحملهم لقيم التسامح والعدالة والرحمة إلى الأمم المغلوبة والبلاد التي افتتحوها.

لقد حاول بعض المؤرخين من النصارى والمستشرقين تشويه الفتح الإِسلامي في العصر الراشدي فزعموا أن الفتوحات كانت حروبا دينية، وقالوا: إن المسلمين أصحاب عقيدة، ولكنهم توسلوا بالتعصب الأعمى، وأخضعوا الناس لمبادئهم بالقهر والإرغام، وخاضوا إِلى ذلك بحار الدم والقسوة، وأنهم كانوا يحملون القرآن بإحدى يديهم، والسيف باليد الأخرى.

وممن ركز منهم على هذه الفكرة (سيديو) و(ميور) و(نيبور)؛ إِذ ينقل (ميور) عن نيبور قوله: " وكان من الضروري لدوام الإسلام أن يستمر في خطته العدوانية، وأن ينفذ بحد السيف ما يطالب به من دخول الناس في الإسلام كافة، أو بسط سيطرته العالمية على الأقل، غير أنه لا مناص لأيٍ من الأديان أن يجنح أتباعه للحرب في إحدى مراحل حياته، وكذلك كان الحال في الإسلام، ولكن الزعم: أن المسلمين هدفوا إِلى بث الدعوة بالقوة، أو أنهم أكثر عدوانا من غيرهم، زعم يجب إنكاره إنكارا تاما".

وقد رد بعض المستشرقين على هذه التهم، ووصفوا الفتح الإِسلامي بالمثل العالية، والأخلاق الكريمة، فهذا فون كريمر يقول: "وكان العرب المسلمون في حروبهم مثال الخلق الكريم، فحرم عليهم الرسول قتل الرهبان، والنساء، والأطفال، والمكفوفين، كما حرم عليهم تدمير المزارع، وقطع الأشجار، وقد اتبع المسلمون في حروبهم هذه الأوامر بدقة متناهية، فلم ينتهكوا الحرمات، ولا أفسدوا الزروع، وبينما كان الروم يرمونهم بالسهام المسمومة، فإنهم لم يبادلوا أعداءهم جرما بجرم، وكان نهب القرى، وإشعال النار قد درجت عليها الجيوش الرومانية في تقدمها وتراجعها، أما المسلمون؛ فقد احتفظوا بأخلاقهم المثلى، فلم يحاولوا من هذا شيئا".

وقال روزنتال: "وقد نمت المدينة الإِسلامية بالتوسع لا بالتعمق داعية إلى العقيدة، مناقشة لتلك الحركات الفكرية الموجودة. وفوق كل ذلك تقدم الإِسلام فتهاوت الحواجز القديمة من اللغة، والعادات، وتوفرت فرصة نادرة لجميع الشعوب والمدنيات لتبدأ حياة فكرية جديدة على أساس المساواة المطلقة وبروح المنافسة الحرة".

إن الحقيقة التاريخية تقول بأن المسلمين لم يكرهوا أحدا على اعتناق الإسلام؛ لأنهم قد التزموا بقول الله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة: 256].

وأما إقبال الشعوب على الإسلام؛ فكان بسبب ما لمسوه في الإسلام نفسه، فهو النعمة العظيمة، ولما لمسوه في المسلمين من التخلق بأخلاق الإسلام، والالتزام بأحكامه، وأوامره، ونواهيه، ولما لمسوه في القادة، والجند الذين كانوا يقومون بالدعوة بالتطبيق العملي، فتميزت مواقفهم بأنبل المواقف التي عرفها التاريخ العالمي، فقد كان الخلفاء، والقادة يوصون جندهم بالاستعانة بالله والتقوى، وإيثار أمر الآخرة على الدنيا، والإخلاص في الجهاد، وإرادة الله في العمل، والابتعاد عن الذنوب، فكانت فيهم الرغبة الأكيدة الملحة لإِنقاذ الأمم، والأفراد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ونقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فكان قادة المسلمين على رأس جندهم يتلقون الصدمات الأولى في معارك الجهاد، واستشهد عدد كبير منهم، وقد كان القادة يسيرون خلف جندهم في وقت الأمن وفي العودة يرفقون بهم، ويحملون الكل، ويعينون الضعيف، وكان القادة دعاة في المقام الأول، طبقوا مبادئ الحرب الإِسلامية تماما، والحق: أن المسلمين كانوا يخوضون جهادا في سبيل الله، وليس حربا كما كانت تفعل الدول الأخرى.

ولذلك كانت نتائج الفتوحات الإسلامي مختلفة تماما عن فتوحات الأمم والإمبراطوريات الأخرى، فلم يكن مجرد توسع بقوة السيف لإخضاع البلاد والعباد لملك أمة ما، ولم يكن يهدف إلى نهب الأموال واستجلاب المزيد من الضرائب لخزينة الدولة، وإنما كان لإعلاء كلمة الله تعالى ونشر دين الحق بالدرجة الأولى، فحمل المسلمون قيم القرآن الكريم وأخلاق الإسلام العظيم في قلوبهم وعقولهم، وتجلى ذلك في سلوكهم ومواقفهم، فنتج عن حركة الفتوحات تلك نتائج حضارية كان لها أثرها الكبير على التاريخ البشري، ومنها: إيجاد قيادةٍ عالمية واحدة للمنطقة التي تقع في وسط الكرة الأرضية كلها، والممتدة من حدود الصين شرقا إلى المغرب غربا، ومن بحر العرب جنوبا حتى آسيا الصغرى شمالا، قيادة جديدة بمؤهلات لم تعهدها البشرية، فهي محكومة مثلها مثل بقية أبناء شعوب المنطقة بقيم، ومثل، ونظام.

وأدت إلى هيمنة المنهج الرباني على جميع الناس، دون ضغط عليهم في تغيير معتقداتهم، وديانتهم، ودون تفريق بين الأسود والأحمر والأبيض والأصفر، بل الناس كلهم أمام شرع الله سواء، ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، ولمس الناس ثمار تطبيق شرع الله في حياتهم من الأمن، والتمكين، والبركات، والسعة في الأرزاق، وغيرها.

كما ظهرت في دنيا الناس أمة الإِسلام التي جمعت بين أفرادها عقيدة التوحيد، وشريعة المولى -عز وجل- وترفعت عن آصرة الأعراق، والأنساب، والاعتبارات الأرضية الأخرى، وبرز في هذه الأمة قيادات من كل الأجناس العرقية، فكان لها المكانة العالية في وسط هذه الأمة، ولم يوجد ما يشينها، أو يغير من مكانتها في الأمة، ولهذا كانوا يقولون لمن يقاتلونهم: فإن أجبتم إلى ديننا؛ خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم بلادكم.

وبرزت حضارة ربانية متكاملة ومتوازنة ومتناسقة، ضمت بين أرجائها تفاعلات الأمم، والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى، وقبلت في عضويتها العالم بأسره، أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني وأحكامه، وأصبح المسلمون فيها نموذجا في قيادة الحضارية للبشرية في زمانهم، يعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم، الذي يسخر كل إِمكانات دولته، وجنوده، وأتباعه، وعلومه، ووسائله، وأسبابه لتعزيز شرع الله، وتمكين دينه، وخدمة الإِنسانية، وإعلاء كلمة الله، وإخراج الناس من الظلمات إِلى النور، ومن عبادة الناس والمادة إِلى عباد الله، ونفذ قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 41].

لقد أنتجت الفتوحات الإِسلامية حضارة إِنسانية رفيعة في ظل دين الإسلام، وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: تفاعل الأنشطة الإِنسانية للجماعة الواحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن، وضمن المفاهيم الإِسلامية عن الحياة، والكون، والإنسان.

  • الجزيرة
            

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد