بين إئتلافات اليمن الثورية وجمعية أثينا الشعبية

ساحات التغيير.. الشعب يحكم نفسه بنفسه!

2011-06-05 05:49:45 حسين اللسواس


في القرن الخامس قبل الميلاد، كان سكان مدينة أثينا اليونانية، يلتقون جميعاً بضع مرات في السنة الواحدة لمناقشة أمورهم الحياتية والمعيشية وانتخاب ممثليهم في مجلس الخمسمائة واختيار محلفي المحاكم القضائية.
كانت الجمعية العمومية، هي الإطار الشعبي العام الذي يجمع معظم أبناء أثينا في لقاء واحد لبحث مجمل القضايا العامة وإخضاعها لطائلة التداول بهدف إقرار السياسات واتخاذ القرارات بالأغلبية.
في دولة المدينة، مارس سكان أثينا ديمقراطية مباشرة حقيقية لا سيادة فيها سوى للشعب وحده، مجسدين بذلك النمط الأكثر صدقاً لمصطلح الديمقراطية الذي استخدمه المؤرخ اليوناني (هيرودوت) للمرة الأولى في القرن الخامس قبل الميلاد أيضاً.
بعد 25 قرناً، هاهو التأريخ يحاول أن يعيد إنتاج تجربة مماثلة في اليمن وذلك رغم الفوارق الكبيرة بين التجربتين (الجمعية العمومية من جهة وساحات التغيير من جهة أخرى).
للوهلة الأولى، قد يبدو التشبيه عصياً على الفهم والاستيعاب لاسيما في ظل الفروقات الجوهرية بين جمعية أثينا وساحات اليمن وبالأخص من حيث الغايات والأهداف والوسائل.
فاجتماعات الناس في أثينا تحت مظلة الجمعية العمومية لم تكن بهدف إسقاط نظام أو إقامة آخر بقدر ما كان هدفها تنظيم الحياة اليومية للسكان وانتخاب المسؤولين وعزلهم ومباشرة أعمال ومهام السلطة من قبل شعب أثينا نفسه.

محاكاة تجربة أثينا
يتبدد ذلك الاستعصاء –المُتخلق للوهلة الأولى- تدريجياً حين نحاول قصر المقارنة والتشبيه في فكرتين، الأولى: حق الشعب في تقرير مصيره وعزل ممثليه، والثانية: فكرة اللقاء الشعبي العام والمداولات الواسعة.
في ساحات التغيير والحرية، يقضي ملايين اليمنيين بمعظم المحافظات جل أوقاتهم في التداول والنقاش والتظاهر والاعتصام بهدف تقرير المصير واستعادة سلطة الشعب وعزل ممثليه الذين حادوا عن النهج الوطني مكرسين بذلك سلطة الفرد والأسرة على حساب سلطة الأمة.
باستثناء التظاهر والاعتصام، كان سكان أثينا يلتقون عشر مرات سنوياً في جمعيتهم العمومية وذلك لتقرير مستقبلهم وعزل ممثليهم وانتخابهم عبر نهج المداولات والنقاشات والتباحث وتبادل الآراء وصولاً لاتخاذ القرارات بالأغلبية.
فكرة التشبيه بين جمعية أثينا وساحات التغيير ربما لم تكن قابلة للتمرير المجازي لو أن ثورة الشباب اليمنية المجيدة حققت غاياتها مبكراً تماماً كما هو حال الثورتين التونسية والمصرية.
استطالة المدة الزمنية بموازاة التواجد الشعبي المتواصل في الساحات منذ ما يربو على ثلاثة أشهر، جعل الأمر يبدو أعمق من مجرد ثورة لحظية تتغيا الإطاحة بطبقة حاكمة والاتيان بأخرى.
التمدد الزمني المتوازي مع طفوق نزعات الإصرار الشعبي عاملين أسهما في تخليق ظاهرة شعبية يومية تقترب من محاكاة تجربة المجتمع الاثيني.
الإرادة الشعبية تبدو في الواقع، محور الارتكاز بين التجربتين، ففي أثينا تخلقت الإرادة الجمعية التي حققت العدالة الاجتماعية وكرست لمفاهيم السلطة الشعبية، وفي اليمن تناضل الإرادة الجمعية للأمة اليمنية من أجل فرض خيارات التغيير سلمياً وإعادة صياغة النظام السياسي بما يحقق التمثيل العادل والمتوازن لمختلف القوى السياسية والتوزيع الأمثل للثروات بين أبناء الوطن.

خصوصية التجربة اليمنية:
إلتقاء التجربتين، في فكرتين، لا يعني بتاتاً ترجيح التطابق على حساب الاختلاف السائد، فلكل تجربة ما يميزها عن الأخرى، التجربة اليمنية مثلاً، تحظى بتفرد لافت يجعلها انموذجاً جديداً غير متكرر حرفياً.
فهنالك شعب عظيم في اليمن يعيش منذ أشهر في الشوارع ويمارس طقوسه اليومية الاعتيادية بالتزامن مع أدائه للطقوس الثورية الاستثنائية.
شعب يتظاهر بشكل شبه يومي متشبثاً بالخيارات السلمية رغم قدراته القتالية التي لا تُقهر.
شعب يعتصم في الخيام المُعرضة لتقلبات الطقس وتغيرات المناخ غير آبه بالأمطار والرياح، وغير مكترث لتأرجح الأجواء بين السخونة النهارية والبرودة المسائية.
إنها بحق تجربة فريدة من نوعها تحكي جسارة شعب حر تستعصي إرادته على الكسر وتأبى هامته الشامخة على الإنحناء والرضوخ لنزوات التركيع ومساعي الإخضاع.
في ساحات التغيير والحرية، تتعدد أوجه الخصوصية للتجربة الشعبية اليمنية الفريدة من نوعها، إذ لا تبدو مقتصرة على الناحية الثورية كنقطة خصوصية رئيسية.
فاليمن ليست مدينة كما هو حال اثينا، وبالتالي فالوحدة الشعبية المتجلية بفعل الثورة تعد انجازاً وطنياً هاماً كذلك الحال بالتراجع الذي أصاب النغمات المناطقية، وأفول التساؤلات الباحثة عن الانتماء المناطقي.
في الساحات، هنالك حياة مجتمعية كاملة التفاصيل متشعبة الاحداث، حياة تتصف بالتنوع والتجدد والديمومة، حياة ممتلئة بالقيم النبيلة متشبعة بمظاهر الحداثة والعصرنة، بعكس جمعية أثينا التي ليست سوى اجتماعاً رسمياً عاماً لمناقشة شؤون الدولة فقط.
خصوصية التجربة اليمنية –النابعة من استثنائيتها الثورية- لا تبدو مقتصرة على ذلك فحسب، إذ ثمة بواعث أخرى لتفردها تجعلنا نحاول إبانة جانب منها بمعزل عن فكرة التشبيه والمقارنة بين التجربتين.

لهذا لا يمكن للثورة أن تتصدع:
العيش في مكان واحد، وتحت ظروف وأوضاع وأجواء متماثلة تقريباً، يعد أكثر التعليلات بروزاً في تخليق الوحدة الاستثنائية وتقليص هامش التباينات وتعطيل قدرتها على إحداث أي تصدعات في البنيان الثوري الشامخ.
العيش المشترك لم يؤد إلى ذلك فحسب، إذ جسد دافعاً رئيسياً لرفع القدرات البينية على إدارة التنوع والاختلاف بصورة أدت للحيلولة دون التأثير السلبي للاختلافات على المسار الكلي للموجه الثورية المتعاظمة.
أحياناً تحدث في ساحة التغيير بصنعاء نقاشات حادة بين بعض شباب الائتلافات لدرجة توحي –لمن يسمعها أول مرة- بتجذر الخلافات وتضعضع النسيج الثوري، غير أن تلك الخلافات التي تبدو كاحتقانات متجذرة، لا تلبث أن تتلاشى كلياً في اليوم التالي لحدوثها، حيث ترى من كان الجدال بالأمس ديدنهم، يتجاذبون أطراف الحديث الودي ويضحكون وذلك قبل أن ينهمكوا في متابعة التطورات الجديدة، ليبدو الأمر وكأن شيئاً لم يكن..!
ببساطة: مابين هؤلاء القوم –الذين يعيشون معاً- أكبر من أن تصيبه الاختلافات والتباينات بأي تصدع.
الحياة المشتركة، والمصير الواحد، ليسا كل شيء، فالدماء المسفوكة لشهداء الثورة الأبرار، تُجسد نقطة الإجماع الأمضى تأثيراً، إذ لا مجال للتفريط بهذه الدماء الزكية الغالية، ولاسبيل إلى قرار او موقف لا يقيم وزناً او حساباً لتضحيات الثوار الأحرار الذين قدموا أرواحهم فداء للثورة المجيدة.
بالنسبة للثوار المرابطين في ساحات النضال، تظل دماء الشهداء الأبرار نقطة الحسم والاتفاق، ففي وجودهم تتوارى التباينات الطارئة وتتلاشى الخلافات العرضية كما لو أنها لم تحدث أصلاً.

المداولات كنقطة إلتقاء:
ثمة نقاط أخرى للتشبيه والمقارنة بين التجربتين (ساحات اليمن وجمعية أثينا) تقتضي فكرة المقال الكلية العودة إليها وعرضها بشكل أكثر وضوحاً.
المداولات والنقاشات الجماعية يمكن ان تُجسد ابرز القواسم المشتركة بين التجربتين.
ففي الساحات اليمنية، بوسع رأي واحد أن يتسبب في إحداث تغييرات حقيقية على صعيد الواقع الثوري، وهو ذات ما كان عليه حال الأثينيين –سكان أثينا- الذين كانت مداولاتهم ونقاشاتهم مسموعة وصانعة للقرارات والسياسات.
في الساحات، يشعر المرء أن وجوده ونقاشه وحديثه وتظاهره وإعتصامه يؤدي لإحداث فارق حقيقي بإتجاة تكريس واقع التغيير وفرض الخيارات الثورية، إنه شعور لا يعادله سوى شعور أبناء أثينا الذين كانوا يشاركون في إدارة كل شؤونهم الحياتية والمعيشية بنقاشاتهم ومداولاتهم وأصواتهم.

بين إئتلافات اليمن وجمعية أثينا
اتصفت تجربة السلطة الشعبية في أثينا، بالتنظيم والتحديد الدقيق للآليات والوسائل، حيث كانت المداولات خاضعة لترتيب منطقي واضح كذلك الحال بالانتخاب والتصويت.
في تجربة الساحات الشعبية اليمنية، هنالك حضور حقيقي لفكرة التنظيم حتى ولو كان حضوراً بدائياً.
حين نتحدث عن التنظيم لسنا بالضرورة نعني اللجنة التنظيمية بساحة التغيير في صنعاء، بقدر ما نعني قدرة الشباب على تنظيم أنفسهم في كيانات وحركات ثورية، كذلك الحال بفكرة اللجان الشعبية المُشكلة لحفظ الأمن في بعض المدن.
لقد أسهم التمدد الزمني للثورة في منح الشباب فرصة حقيقية لتنظيم أنفسهم في كيانات قابلة للتطور مستقبلاً، حيث انخرط معظمهم في تشكيل الائتلافات والحركات، وحين وصلوا إلى قناعة مفادها أن الاتساع العددي قد طغى على الفاعلية المتوقعة، اتخذوا من فكرة الدمج نهجاً بهدف توحيد الائتلافات وخلق كيانات أخرى أكثر شمولاً وهو ما أكد قدرة الشباب على الجمع بين التوحد والاختلاف معاً.
آليات اتخاذ القرار، رغم أنها محصورة في اللجنة التنظيمية، إلا أن ذلك لا يعني عدم مشاركة بقية الائتلافات الثورية في صنع القرارات وتقديم المشورة للجنة التنظيمية المُكلفة بالإشراف على العمل الثوري وإدارته.
الاحتكام لرأي الأغلبية، سلوك ما لبث أن تكرس بالتقادم، فحين يجد الإجماع والتوافق طريقه إلى التعذر يخضع الجميع لرأي الأغلبية دون إغفال للاختلافات والتحفظات، إذ لامجال لتغييب صوت أي ثائر لاسيما إذا ما كان متصفاً بأهمية المضمون ورصانة المحتوى وذكاء الأسلوب.
قد يُمنع البعض أحياناً من اعتلاء المنصات، لكن ذلك المنع لا يحول دون قدرة الممنوع على قول ما يريد في التجمعات والمخيمات والندوات.
في الساحات، تتجلى ثقافة احترام الرأي الآخر بوضوح لافت، ورغم ظهور بعض المحاولات الاقصائية، إلا أنها تظل فردية ولا تعبر بتاتاً عن الموقف الإجمالي العام للثوار.

ساحات التغيير بوصفها مدرسة للحياة
في التجربة اليمنية، تحولت ساحات التغيير والحرية إلى مدرسة حقيقية، ليس لإنماء روح الثورة وترسيخ قيم الحرية والعزة والإباء والشموخ فحسب، بل ولتعليم الجيل الثوري الصاعد أسس الحياة ذاتها.
التكاتف الاجتماعي، سلوك يتجلى مثلاً، حين يتشاطر الجميع في ذات ظروف العيش ويتشاركون في الأكل والقات والمسيرات والصلوات والنقاشات ...الخ.
قيم الوفاء والإخلاص، تبرز بوضوح هي الأخرى، حين يلحظ المرء انتشار صور الزعيم إبراهيم الحمدي في عدد كبير من مخيمات ساحة التغيير بصنعاء، وهو انتشار يدل على مدى إخلاص ووفاء الشعب لذلك القائد الوطني الذي كان وفياً لوطنه ومخلصاً لشعبه وأمته.
الحراك الثقافي والسياسي اللامسبوق يُجسد مظهراً لافتاً من مظاهر المدرسة الثورية في الساحات، حيث تتناسل الفعاليات والندوات، وتقام معارض الصور واللوحات سواء تلك التي تحوي صوراً للشهداء الأبطال أو تلك التي تتضمن رسومات وأشكالاً فنية معبرة عن غايات الثورة وأهدافها.
رغم تعدد ألوان الطيف السياسي، إلا أن نظرية العيش المشترك تسببت في انتظامها وتناغمها لتبدو موحدة الرؤى حتى وان اختلفت في الوسائل.

مستقبل التجربة اليمنية
في مصر، يلتقي شباب الثورة أسبوعياً في ميدان التحرير، بهدف التأكيد على استمرارية الفعل الثوري ومواصلة الضغط على المجلس العسكري الأعلى لتنفيذ ما تبقى منها، وفي تونس بات للثورة مجلس يضطلع بمهام المتابعة والإشراف على تنفيذ أهداف الثورة.
لدينا في اليمن، يبدو من المبكر الحديث عن مستقبل التجربة الشعبية الثورية الرائدة، لاسيما في ظل عدم تحقيق مطالبها حتى لحظتنا الراهنة، ورغم أن فكرة الائتلاف الوطني العام الذي دعا إليه الدكتور/ ياسين سعيد نعمان يمكن أن تُجسد ضماناً حقيقياً للثورة ومستقبلها، إلا أن احتمالات التوقيع على المبادرة الخليجية من جانب قوى الثورة ستؤدي إلى تضاؤل قابلية هذه الفكرة للتنفيذ.
بوسعنا الادعاء أن شباب الثورة المعتصمين لن يغادروا الساحات إلى حين تحقيق كل مطالبهم، وحتى لو غادروها عقب تنحي صالح فسيعودون إليها اسبوعياً وبشكل منتظم أن لم يكن بهدف تذكير الحكومة الوطنية بما تبقى من الأهداف الثورية، فبهدف الوفاء للشهداء الأبرار وتخليد ذكراهم العطرة.

وماذا بعد
بين ساحات التغيير وجمعية أثينا الشعبية، تتعدد أوجه الاختلاف وتتصف الفوارق بالجوهرية، غير أنها – في الوقت عينه- تتشاطر في عدد من القواسم المشتركة.
الفعل الشعبي في التجربتين، حتى وإن بدا مختلفاً في الوسائل والغايات والممارسات لكنه –في التجربتين- يظل مرتبطاً بالإرادة الشعبية كحافز للفعل ذاته.
إنها ببساطة: الإرادة التي دفعت الشعب اليمني إلى الانتفاض والخروج للشوارع بهدف إسقاط النظام وتغيير التركيبة القيادية الحاكمة، وهي ذات الإرادة التي مكنت شعب أثينا من إدارة شؤون (دولة المدينة) بشكل مباشر عبر الجمعية الوطنية ومجلس الخمسمائة.
بهذه الإرادة يعكف الشعب اليمني في ساحات النضال والتغيير على رسم ملامح مستقبله، وبهذه الإرادة أيضاً تكتسب الثورة كل دفاعاتها في مواجهة محاولات الكسر ومساعي التركيع، وبهذه الإرادة كذلك يقرر الشعب مصيره المنشود، ويتعلم كيف يحكم نفسه بنفسه!.

 al_leswas@hotmail.com
 

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد