مصر وجنوب السودان.. رسائل الوحدة والانفصال

2008-11-15 03:40:34

محمد جمال عرفة

في زيارة تبدو الأهم من ناحية التوقيت والطابع الإستراتيجي، والأولى للرئيس المصري حسني مبارك إلى جوبا عاصمة جنوب السودان منذ توليه الرئاسة عام 1981 والأولى أيضا منذ توقيع نيفاشا لسلام السودان في عام 2005، يؤكد مبارك أهمية عدم تقسيم السودان بما يصب في صالح أمن مصر والسودان معا حتى وإن غلفت الزيارة باتفاقات اقتصادية.

فقد مرت نصف المدة المحددة (ست سنوات) كمهلة لتحقيق الجاذبية لخيار وحدة شمال وجنوب السودان، ولم يعد يتبقى سوى ثلاثة أعوام على استفتاء تقرير مصير الجنوب بالانفصال أو البقاء موحدا مع الشمال، والمؤشرات لا تزال سلبية وتصب في خانة الانفصال أكثر من الوحدة، ما يؤثر على مصالح مصر الإستراتيجية ويتطلب تدخلا عاجلا.

ولو انفصل الجنوب، فسوف يكون هذا هو أول الغيث في سلسلة انفصالات في السودان مخطط لها في أجهزة الاستخبارات الغربية أن يكون حصيلتها هي خمسة أقاليم سودانية مفتتة، ما يعني ضربة كبيرة للأمن القومي المصري من الجبهة الجنوبية التي ظلت مستقرة على مدار التاريخ، ومدخلا لتدخلات استخبارية لا حصر لها. . ولو انفصل الجنوب فسيعني هذا أيضا أن موارد المياه المصرية ستكون معرضة للخطر، خصوصا أن هناك مخاوف مصرية قديمة من تغلغل صهيوني في الجنوب لا يحتاج لتأكيد.

ويكفي للتدليل على هذا أن نذكر ما قاله "آفي ديختر" وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي في محاضرة رسمية يوم 30/10/2008 الماضي كانت مخصصة للحديث عن الدور التخريبي الصهيوني في السودان، وكيف أن هدفه الإستراتيجي هو تشجيع انفصال الجنوب ودارفور بغرض منع السودان من التحول لدولة عربية قوية موحدة تمثل عمقا إستراتيجيا لمصر وتمنع تحوله لقوة إقليمية مؤثرة في البيئة الإفريقية والعربية!.

بل إن "دختر" يؤكد أنه "عاجلاً أو آجلاً سيتم تقسيم السودان إلى عدة كيانات ودول مثل يوغسلافيا التي انقسمت إلى عدة دول هي: البوسنة والهرسك، وكرواتيا، وكوسوفو، ومقدونيا، وصربيا والجبل الأسود"، ويقول إن الأمر متعلق بالتوقيت ومتى يتفتت السودان؟.

الجنوب يتسلح. . السلام يترنح!

وزاد القلق المصري والعربي عموما أن موجبات ومؤشرات الانفصال باتت واضحة في ظل تحريض قيادات جنوبية على ذلك يعلو صوتها على أصوات قيادات أخرى تعتبر الوحدة أفضل للجنوب، وذلك في صورة سعي الجنوب لبناء جيش خاص وتسليحه بصورة غير معتادة لأقاليم ينوي البقاء موحدا، كبناء قوات جوية وقوات برية وشراء دبابات بل وطائرات من الخارج.

فالصورة بعد 21 عاما من الصراع في الجنوب وبعد 3 سنوات من السلام توحي بأن الجنوب - والشمال أيضا وفق اتهامات الجنوب - يخزن السلاح استعدادا لاستفتاء تقرير المصير والانفصال وربما لجولة أخرى من الحرب لو حدث ما يعكر صفو العلاقات أو الصراع على مناطق النفط التي يقع أغلبها في الجنوب.

وهذا ليس جديدا أو سرا، فقد حذر تقرير للبنك الدولي حول العلاقات بين الشمال والجنوب صادر في يوليو الماضي 2008 مما سماه "العسكرة المفرطة"، كما أن تقارير غربية نقلت الأسبوع الماضي عن دبلوماسي غربي قوله: "إن نفقات الجيش الشعبي الجنوبي الذي يقدر ب 170 ألف رجل - ما يجعله أحد اكبر الجيوش في إفريقيا - في ازدياد، وصوت الشهر الماضي نواب جنوب السودان على منح هذا الجيش 980 مليون دولار (من أموال النفط) لتضاف إلى الميزانية السنوية الضخمة أصلا لهذا الجيش والتي تبلغ قيمتها 1. 5 مليار دولار وفق وكالة رويتر!.

وعندما سأل الرئيس مبارك رئيس حكومة الجنوب (سلفاكير) في زيارته الأخيرة للجنوب عن أخبار تنفيذ اتفاق السلام أبلغه سلفاكير أنه "لا يسير بسلاسة" وفق المصادر الجنوبية، وقبل ذلك سأل وزير خارجية السودان (من الجنوب) دينيق ألور عن أحوال (آبيي) - التي شهدت قبل شهرين تبادلا لإطلاق النار لأول مرة منذ اتفاق السلام بين قوات جيش الجنوب والجيش السوداني- فقال له الوزير: "إن هذه المشاكل أسبابها تنموية وإن الجنوب يحتاج لتنمية أكبر كي يشعر بالسلام"، ما حدا بالرئيس مبارك للأمر بإنشاء محطة كهرباء مصرية بصورة عاجلة في آبيي وفتح فرع لجامعة الإسكندرية في الجنوب، والاتفاق لأول مرة على عدة مشاريع استثمارية ضخمة.

اختراق ضروري

ولهذا، وبرغم الاتهامات التي توجه للقاهرة بغياب دورها الإقليمي والعربي وانكفائها داخليا - ما سمح لدول أصغر بالتدخل وطرح مبادرات لحل مشكلات فلسطينية وسودانية هي من صميم الدور المصري - وظهور دلائل خطيرة على اقتراب ليس فقط انفصال الجنوب، وإنما انفصال غرب السودان (دارفور) أيضا، فمن الواضح أن خطورة ما يعد للسودان من حروب وتفتت وأثره المباشر على مصر كان يتطلب اختراقا مصريا غير عادي.

وإذا كان هذا الاختراق قد تحقق بزيارة الرئيس مبارك للجنوب يوم 10 نوفمبر 2008 والتباحث مباشرة مع سلفاكير رئيس حكومة الجنوب ونائب الرئيس البشير بشأن مشروعات تنمية الجنوب والدور المصري فيها، فقد سبق هذا خطوات مصرية واضحة للتقارب مع الجنوب برغم حرص القاهرة على مدار أعوام الصراع في الجنوب على مد جسور العلاقة مع فصائل التمرد الجنوبية، وكان أغلبها خطوات اقتصادية ذات أبعاد تنموية لتحبيب الجنوبيين في خيار الوحدة عبر الشعور بتحسن الأحوال المعيشية.

ومن ذلك مثلا رصد مصر 200 مليون جنيه لتنفيذ المرحلة الأولى من مشروعات تنمية جنوب السودان ، التي تم الاتفاق عليها خلال زيارة سلفاكير لمصر عام 2006، تشمل إقامة أربع محطات لتوليد الكهرباء في أربع مدن بالجنوب، بتكلفة 150 مليون جنيه تنفذها شركة مشتركة بين مصر والسودان بإشراف وزارة الكهرباء في مصر، هذا خلافا لمشروعات للتعاون في مجال المياه والري واستكمال قناة جونجلي والصحة والتعليم. كما قامت مصر أيضا بتدريب إعلاميين من الجنوب لتدشين محطة تلفزيونية فضائية والسماح لها بالبث عبر القمر الصناعي المصري، وتدريب جنوبيين في مجالات مختلفة.

مكاسب جنوبية ومصرية

ولا شك أن هذا التعاون الجنوب سوداني - المصري يثمر لمصلحة الطرفين، فالجنوب يعاني من غياب الاستثمارات العربية عموما برغم ما سبق إعلانه عقب اتفاق السلام في الجنوب في الجامعة العربية عن تدفق الاستثمارات العربية على الجنوب والشمال، بينما يتدفق عليه استثمارات أجنبية فقط تقريبا.

وهناك حاجة جنوبية لشق طرق وبناء مستشفيات ومدارس وإصلاح أحوال الإدارة المحلية وتشكيل هياكل تنفيذية وتدريب الكوادر الجنوبية، ودخول أي طرف في هذا الوقت الحساس بأي مشروع يترك أثرا شعبيا كبيرا ينعكس على حب الجنوبيين لمن سيتدخل والتقارب عاطفيا معه حسبما يقول أبناء الجنوب أنفسهم.

وإذا كانت القاهرة هي الأقرب وتقدم هذه الخدمات بلا مقابل سياسي أو ابتزاز للجنوب كما قد تفعل دول غربية أو إفريقية مجاورة، فهي تسعى بالمقابل لمكاسب سياسية وإستراتيجية طويلة الأمد في حال استمر السودان موحدا ولم ينفصل الجنوب.

فالاختراق المصري للجنوب والدخول في مجالات الاستثمار بقوة يعني عرقلة خطط الهدم الإسرائيلية التي تشجع - مع أمريكا - فصل الجنوب وغيره من الأقاليم، ومن ثم تلافي تكرار هذا السيناريو الأسود في دارفور وغيرها في الشرق أو الشمال، فضلا عن توفير باحة خلفية أمنة للأمن القومي المصري، إضافة لتخفيف العبء عن الرئيس المصري القادم (في انتخابات رئاسة عام 2011 بفرض عدم ترشح مبارك)، خصوصًا لو كان مبارك الابن، وكي لا يبدأ رئاسته بمواجهة خطر يهدد أمن مصر في الجنوب لو انفصل الجنوب في نفس العام!.

ولا شك أن التدخل المصري السياسي والاستثماري بقوة يعني استقرار الجنوب واستقرار السودان وانتهاء النزاع المسلح تماما، ومن ثم خلق مشاريع زراعية واستثمارية كبيرة واستئناف مشاريع متوقفة تفيد مصر، مثل مشروع قناة جونجلي المفترض أن توفر 4 مليارات متر مكعب مياه تحتاجها مصر والسودان في ظل التقارير الدولية عن شح المياه في الربع قرن المقبلة.

وربما كان هذا أول مكسب مصري؛ إذ أعلن الدكتور محمود أبو زيد وزير الري المصري عقب عودة مبارك من الجنوب أنه تم الاتفاق مع حكومة جنوب السودان على استئناف العمل في قناة "جونجلى" التي تم الانتهاء من حفر 260كم منها من إجمالي طول القناة البالغ 360كم في جنوب السودان، بالإضافة إلى حفر الآبار الجوفية في بعض المناطق لتوفير مياه الشرب.

إن سر زيارة مبارك الأولى من نوعها للجنوب هو الأمن القومي أولا والمصالح المصرية بالسعي لتوفير فرص وعلاقات تحول دون انفصال الجنوب، وفي الوقت نفسه توفر لمصر مصالح إستراتيجية سوف تتعرض لخطر شديد لو انفصل الجنوب وأصبح للصهاينة موضع قدم على الحدود في جنوب مصر بعد شمالها!

دارفور. . رسائل أخطر!

ويتصل بزيارة مبارك عمومًا للسودان ولقائه الرئيس عمر البشير ذات الهم الإستراتيجي من تفتت السودان وتمزيقه عبر مخلبي "المحكمة الجنائية" للرئيس البشير ومطاردته دوليا والضغط على السودان - سعي حركات التمرد للانفصال بدارفور بالتعاون مع جهات غربية وإسرائيلية واضحة.

ونشير هنا أن الرئيس مبارك وصل للسودان مباشرة بعد لقاء مع الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي طرحت بلاده خطة خماسية سابقة لحل مشكلة دارفور تجاوبت معها الخرطوم نسبيا، وكان المتصور هنا أن مبارك حمل معه الرأي الأوروبي والغربي بشكل عام من مسألة محاكمة البشير وكيفية تلافيها بعد تلبية الخرطوم مطالب أوروبية محددة.

ولم يفصح الرئيس مبارك عما يتصل بهذا الشأن سوى بتلميحات، عندما قال إن مباحثاته مع البشير ركزت على تطور الأوضاع في دارفور، والتي قال أنها "مشكلة تعتريها كثير من التعقيدات"، وقطع بأن حكومته ستمضي في محاولاتها من أجل حل نهائي لأزمة دارفور.

وجاء رد الفعل السوداني في إعلان البشير وقف إطلاق النار من جانب واحد في دارفور يوم 12 نوفمبر الجاري، وسعي مبعوثين سودانيين من الجنوب قبل ذلك للقاء فصيلي عبد الواحد وخليل إبراهيم المتمردين وإقناعهم بحضور مؤتمر قطر بشأن دارفور، فهذا يصب في هذه الخانة، أي نشر السلام في دارفور وإجهاض مخططات تفتيت دارفور والسودان عموما، والتي أكدها مساعد الرئيس السوداني نافع علي نافع في حديث لصحيفة "لشرق الأوسط" 11 نوفمبر 2008، مشيرًا لوجود "مخططات خارجية لتقسيم السودان لخمس دويلات إذا انفصل الجنوب عبر الاستفتاء المقرر عام 2011"!!

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد