استنفاد المياه الجوفية غير المتجددة لا يترك لليمن خياراً حقيقياً غير تحلية المياه

خبير دولي: صنعاء تواجه مستقبلاً قاحلاً

2013-12-29 18:41:24 تقرير/ خاص


يظل الوضع المائي في اليمن واحدة من أهم المشاكل التي تقف بتحدياتها أمام المجتمع والدولة في وقت تعجز السلطات الحكومية إيجاد حلول ناجعة لمعالجة المشكلة المستفحلة.. ولدى المراقبين والباحثين العديد من الرؤى التي يطرحونها إزاء المشكلة.. وهذا هو مساعد بحوث في برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن/ آدم حافظ الذي يقول: إنه ربما تصبح صنعاء بعد ما يزيد قليلاً على عقد من الزمن, العاصمة الأولى في العالم التي تنفد مواردها المائية.. ويرجع بعض اللوم لجفاف المدينة وفشل الحكومة وسوء الإدارة البيئية.. لكن هناك متهم آخر مثير للدهشة، ألا وهو (إدمان اليمنيين القات) وهو مخدر يستهلك الكثير من المياه بشكل لا يمكن تصوره.


ويوضح الباحث الدولي أنه إذا استمرت التوجهات الحالية، فبحلول عام 2025 سوف يصبح سكان المدينة, الذين من المتوقع أن يبلغ تعدادهم 4.2 ملايين نسمة لاجئين بسبب جفاف المياه، حيث سيضطرون إلى هجر أراضيهم القاحلة والانتقال إلى أراض أكثر غنى بالمياه.. واستعداداً لذلك، درس بعض المسؤولين بالفعل نقل العاصمة إلى الساحل.. كما اقترح آخرون التركيز على تحلية المياه وترشيد الاستهلاك لكسب المزيد من الوقت.

ويضيف"بينما يفكر ملياً صناع القرار حول المسار الأفضل لليمن، تتراجع إمدادات المياه بصورة كبيرة وتقود بالفعل إلى حالة من عدم الاستقرار، فوفقاً لصحيفة "الثورة" ـ إحدى الصحف الرائدة في البلاد ـ فإن 70 إلى 80 في المائة من النزاعات في المناطق الريفية في اليمن ترتبط بالمياه.. وفي مختلف أنحاء البلاد تُشير تقديرات وزارة الداخلية اليمنية إلى أن النزاعات المرتبطة بالمياه والأراضي ينجم عنها 4000 قتيل سنوياً وهو أعلى 35 مرة من عدد الضحايا التي أوقعها هجوم تنظيم «القاعدة» الأكثر دموية في تاريخ البلاد".

وتعد زراعة القات (وهو نبات مخدر طفيف يطلق محفزات عند مضغه) المسؤولة عن استهلاك ما يصل إلى 40 في المائة من المياه التي يتم سحبها من حوض صنعاء كل عام، وهذا الرقم آخذ في الارتفاع, ويرجع ذلك إلى أن زراعة القات تستهلك الكثير من المياه (أكثر من القهوة بكثير، وهي نبات آخر تزدهر زراعته على أراضي اليمن الخصبة), فضلاً عن أن زراعته تزداد بنحو 12 في المائة سنوياً، وفقاً لـ"وزارة الزراعة والموارد المائية" اليمنية.. والنبات لا يعمل فقط على تجفيف حوض صنعاء، بل إنه أدى إلى إتلاف عشرات الآلاف من المحاصيل الحيوية - الفواكه والخضروات والقهوة- مما تسبب في ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية..

 ووفقاً لـ"البنك الدولي" فإن الزيادات في أسعار الغذاء أدت بدورها إلى زيادة معدلات الفقر في البلاد بمعدل 6 في المائة في عام 2008 وحده.

يتساءل حافظ: لماذا الاعتماد المتزايد على إنتاج القات؟ لدى المزارعين استعداد لتحمل استهلاك النبات الكبير للمياه؛ نظراً لانتظام محصوله ووفرته عن المحاصيل الأخرى؛ ونظراً لضمان سوقه، فكل متر مكعب من المياه يُستخدم في زراعة القات يُحقق ربحاً يبلغ خمسة أضعاف المحصول التالي الأكثر ربحية، وهو العنب.

ويقول: لا عجب في ذلك، فوفقاً لـ"منظمة الصحة العالمية" فإن ما يصل إلى 90 بالمائة من الرجال في اليمن يمضغون القات لمدة ثلاث إلى أربع ساعات يومياً وتشدو به النساء فعلياً. (فهناك أغنية شهيرة تقول كلماتها: "يحيا القات، الذي.. يجعلنا نعيش مسالمين في وطننا مع أصدقائنا"). وفي حفلات الزفاف والمناسبات الخاصة، يُقاس المركز الاجتماعي للعائلة بقيمة القات المقدم للضيوف, وربما يعتقد المرء أن للقات أصولاً ضاربة بجذورها في الثقافة المحلية، لكن شيوع استخدامه ما هو إلا أمر حديث نسبياً، ففي سبعينيات القرن الماضي عندما كانت هناك القليل من الطرقات المعبدة في اليمن، لم يكن بالإمكان توصيل القات - التي تبلغ فترة حفظه 24 إلى 48 ساعة فقط- إلى الأسواق المنشودة في الوقت المناسب، لذا لم يكن المنتج متوفراً سوى لعدد قليل من الناس.

ويشير إلى أن اليمن لا يستطيع مواصلة استخدام المياه بهذه الطريقة، ففي عام 2011 تجاوز معدل استهلاك المياه من حوض صنعاء معدل إعادة الملء الطبيعي بمعامل (5), مع فهم هذه الحقيقة، لم يول اليمنيون اهتماماً كبيراً بترشيد المياه؛ إذ يتم إهدار الكثير من مياه الأمطار السنوية في البلاد البالغ قدرها 68 مليار متر مكعب؛ بسبب سوء الإدارة وعدم كفاية السدود.

وبحسب الباحث يكمن جزء من المشكلة في أن المزارعين الذين يعد الجهد البدني الذي يبذلونه في الزراعة مصدر فخر واعتزاز، مرتبطون بممارسات تساعد على إهدار المياه، مثل الري بالغمر (وهو التوزيع غير المنضبط للمياه على التربة).. إن الري بالتقطير -وهو ممارسة أكثر فعالية بنسبة 35 في المئة ومتاحة على نطاق واسع بتكلفة منخفضة- يمكن أن يزيد بسهولة من العائد على المياه, لكن عندما سألت أحد المزارعين عن الري بالتقطير قال لي: "إن الري بالغمر أكثر احتراماً، فكل ما يتطلبه (الري بالتنقيط) هو ضخ المياه لأعلى في خزان".

"ومما يزيد الطين بلة أن سدود البلاد المتحللة تعمل على تسريب المياه التي كان من الممكن استغلالها بشكل مثمر. وقد شهد شهر أيار/ مايو 2010 فيضانات عارمة كانت الأسوأ التي ضربت صنعاء منذ عقود، لكن لم يتم استبقاء سوى النذر اليسير من المياه لاستخدامه لاحقاً": يقول الباحث الدولي وإنه علاوة على ذلك، فإن نظام الآبار في البلاد يمثل كارثة، إذ ينص القانون على أن الحكومة وحدها هي التي يسمح لها بحفر الآبار وصيانتها، لكن وفقاً لبعض التفسيرات للشريعة الإسلامية التي ينص الدستور اليمني على أنها المصدر الرئيسي للتشريع، فإن البئر التي يتم حفرها على أرض ذات ملكية خاصة تصبح ملكية لصاحب الأرض، وليس الدولة؛ لذا تستمر أعمال الحفر, واليوم تقوم "المؤسسة العامة للمياه والصرف الصحي" في اليمن، المنوط بها إدارة المياه الحضرية، بإمداد المياه إلى 36 في المئة فقط من منازل صنعاء، أما الثلثان الآخران فيحصلان على إمداداتهم من الآبار الجوفية.

وإن تلك الآبار تمثل كابوساً للصحة العامة؛ إذ أن المياه الجوفية في البلاد أصبحت ملوثة بشكل متزايد جراء تسرب مياه الصرف الصحي, وخلافاً لذلك، تحول الآبار دون قيام "الهيئة العامة للموارد المائية" -المسؤولة عن إدارة الموارد المائية في البلاد بطريقة مستدامة- بتطبيق تدابير ترشيد استهلاك المياه، مثل تحسين فعالية الري.

يقول: يعلم هؤلاء المسؤولون بطبيعة الحال أن صنعاء تواجه مستقبلاً قاحلاً، فوفقاً لبعض التقديرات، إن نقل العاصمة -مثلما اقترح البعض- سوف يكلف أكثر من 40 مليار دولار. وسيكون من شبه المستحيل تأمين تلك الأموال؛ إذ أن ما يقرب من 75 في المئة من إيرادات الحكومة تأتي من احتياطات النفط الآخذة في النفاد بشكل سريع، ويتوقع "البنك الدولي" أن يتوقف الدخل الذي تحققه الحكومة اليمنية من النفط بحلول عام 2017, كما أن المعونات الأجنبية شحيحة هي الأخرى.

وحتى لو أمكن جمع الأموال، فإن نقل مدينة بأكملها يتجاوز تعداد سكانها مليوني نسمة سوف يؤدي بالتأكيد إلى صراع داخلي, إن مفهوم الجوار القبلي يمنع في كثير من الأحيان بيع الأراضي لأفراد القبائل الأخرى, ومن ثم فإن نقل ملكية الأراضي إلى سكان صنعاء النازحين البالغ عددهم مليوني نسمة قد يؤدي إلى فوضى.

ويضيف" والفكرة الأخرى، التي ناقشتها "وزارة الزراعة والموارد المائية" هي نقل المياه إلى صنعاء من مصادر أخرى. وللأسف فإن باقي المياه العذبة في اليمن مستخدمة في الوقت الحالي, وبالتالي، فإن نقل المياه إلى صنعاء سوف يتضمن بصفة أساسية سحبها من مناطق أخرى، مما يؤدي أيضاً إلى نزاعات.

كما راودت صناع السياسات فكرة تخفيف الضغط على حوض صنعاء من خلال خفض الزراعة في المنطقة, لكن من شأن ذلك أن يؤدي فقط إلى تأجيل المشكلة؛ لأنه حتى من دون الزراعة، وفي ضوء ممارسات المياه السيئة الأخرى المتبعة في اليمن، فإن نمو السكان سوف يؤدي في النهاية إلى تجفيف الحوض على أي حال, وبالإضافة إلى ذلك، فإن تناقص الزراعة سوف يرفع أسعار الغذاء أكثر مما هي عليه".

بدلاً مما سبق يشير آدم حافظ إلى أنه ينبغي للحكومة أن تفعل ثلاثة أشياء لتأمين مستقبلها المائي: إبعاد المزارعين والسكان عن القات، تحسين البنية التحتية الحالية للمياه في اليمن، وتوفير مياه شرب جديدة من خلال التحلية.

ويؤكد أنه ينبغي للحكومة أن تشجع المزارعين على التحول إلى المحاصيل الأقل استهلاكاً للمياه، مثل التين الشوكي, وفي الوقت الراهن تقوم الحكومة بدعم الديزل -الوقود الرئيسي المستخدم في استخلاص المياه الجوفية- الذي يمثل 80 في المئة من تكلفة زراعة القات.

انخفاض تكلفة استخلاص المياه الجوفية لا يعطي المزارعين محفزاً قوياً للتحول إلى محاصيل أخرى أو اتباع ممارسات زراعية مستدامة. وقد أدت محاولات رفع حصة من الدعم مرات عديدة بين عام 1995 والوقت الحالي إلى رفع سعر الديزل والمياه المستخلصة بما يقارب السعر الاقتصادي الفعلي, ولم تكن تلك التغييرات كافية لمنع إنتاج القات كليةً، لكنها أرغمت المزارعين -على الأقل- على التفكير بشأن أساليب ري أكثر فعالية، ولو اختارت الحكومة خفض الدعم مرة أخرى، فقد يواجه المزارعون مزيداً من الضغوط.

وعلى جانب العرض والإمداد من المعادلة، يطالب الحكومة أن تُطلق حملة عامة ضد استخدام القات, ورغم أن القات ليس قاتلاً، إلا أن المخاطر الصحية المرتبطة به متعددة -تشمل النشاط الزائد وزيادة ضغط الدم ومضاعفات الكبد والقرح والعجز الجنسي- والتكاليف الاجتماعية ليست أمراً ينبغي التغاضي عنه، ففي جميع أنحاء البلاد يُستخدم نحو 30 في المئة في المتوسط من دخل العائلات في شراء القات، رغم حقيقة أن 45 في المئة من اليمنيين يعيشون دون خط الفقر، كما أن القات مرتبط بتراجع الإنتاجية في العمل.

وفي حملة الحكومة اليمنية ضد استخدام القات، يلفت إلى أن هناك نموذج جيد عليها اتباعه: حملة الحفاظ على المياه التي قادتها من عام 2007، حيث قامت بإيجاد شخصية رويان (التي تعني "إطفاء نار العطش"). وقد بدا وجه رويان على أغطية الإطارات وعلى واجهات المحلات في جميع أنحاء صنعاء، وتمكنت الحملة من إقناع بعض اليمنيين على الأقل بأن ندرة المياه تمثل مشكلة, وتدشين حملة مماثلة ضد القات يمكنها تدريجياً إبعاد بعض مستخدمي القات عن هذه العادة.

 ويقول إن الحكومة تحتاج إلى تشجيع أساليب الري المحسنة في جميع المناطق الزراعية تلك التي تقوم بزراعة المخدر إلى جانب محاصيل أخرى, كما عليها إلزام المزيد من المزارعين بالري باستخدام مياه الأمطار بدلاً من المياه الجوفية، وهو الأمر الذي لن يتعارض مع رغبتهم في فعل الأشياء بأيديهم. إن أكثر من مليون هيكتار من الأراضي الصالحة للزراعة التي كانت تروى بمياه الأمطار (منذ سبعينيات القرن الماضي) تُغمر الآن بالمياه المسحوبة من مصادر غير متجددة. ولا يوجد سبب لعدم إمكانية إعادة تلك الهيكتارات إلى طريقة الري السابقة.

كما تحتاج "الهيئة العامة للموارد المائية" أيضاً إلى التعاون مع القيادة المحلية اليمنية التي لها مصلحة رئيسية في الاستخدام غير الرشيد للمياه؛ لأنها تربح أموالاً من الآبار الخاصة ومصادر المياه الأخرى. ويمكن لـ"الهيئة العامة للموارد المائية" فعل ذلك من خلال استغلال التحول السياسي في اليمن الذي صاحب "الربيع العربي", فمن ناحية، قد يستطيع مؤتمر الحوار الوطني المستمر الذي يجمع 565 يمنياً من جميع شرائح المجتمع للتعاون حول تشكيل حكومة جديدة، تخفيف حالة عدم الثقة في مؤسسات الدولة. ومن شأن علاقة التعاون، وليس العداء، أن تساعد "الهيئة العامة للموارد المائية" على اكتساب الشرعية في أعين القيادة المحلية التي ستساعد في تنفيذ تدابير ترشيد المياه في أماكن واقعة خارج نطاق الحكومة.

ويشترط على الحكومة أيضاً الاهتمام بالأنابيب التي تسرب المياه في اليمن، والتي تهدر ما يصل إلى 60 في المئة من المياه التي تنقلها. وسوف يصعب كذلك توفير المال لهذا الغرض. لكن يمكن لليمن استجداء مزيد من الاستثمارات من دول مثل المملكة العربية السعودية التي لا تنفصل مصالحها الأمنية عن مصالح جارتها الجنوبية. وأخيراً يجب على الحكومة الحد من حفر الآبار لأغراض منزلية.

ويقول إن ترشيد استهلاك المياه التي لدى اليمن حالياً ما هو إلا جزء من الحل, فاستنفاد المياه الجوفية غير المتجددة قد لا يترك لليمن خياراً حقيقياً غير توفير المياه من خلال التحلية, كما أن ضخ المياه المحلاة من المحطات الواقعة بالقرب من البحر إلى صنعاء سيكون مكلفاً، لكن تكاليف بدء التشغيل الثابتة سوف توزع على مدار الوقت وستكون أقل كثيراً من نقل العاصمة.

 في البداية، سيتعين على الحكومة دعم المياه المحلاة مؤقتاً؛ بحيث تكون في متناول معظم المستهلكين, ويرجح أن تحتاج الحكومة إلى مساعدات أجنبية من أجل توفير هذا الدعم وتطوير البنية التحتية لتحلية المياه.

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد