تعز..الموت بقذيفة حوثي أو عطشاً

2016-03-10 13:46:37 تقرير/ آفاق الحاج

صباح ذات يوم كانت "ذكرى" تشكو لعمتها القاطنة في ريف شرعب بمرارة، بينما تحدثها عبر الهاتف، عن أوضاعها المأساوية تحت حصار مليشيا الحوثي وصالح لمدينة تعز.. لم تتمالك الفتاة نفسها.. كادت الغصة تخنقها، فانفجرت باكية في أذن عمتها:" أني شاموت عطش ياعمة، لي يومين بلا ماء"..
"ذكرى" واحدة من حكايات الوجع التعزي التي أكتوت بنار مليشيا مارست مختلف أصناف الجرائم بحق المواطنين هناك، وصولاً إلى حرمانهم من شربة ماء.. فالبحث عن الماء النظيف والطعام كفاح يومي لكل الأسر في ‫‏تعز‬، أما العثور عليه فهو التحدي الذي يواجهه سكان المدينة‬.

لم تكتف ميليشيات الحوثي وصالح بقتل أبناء تعز بقذائف الموت التي يطلقونها على الأحياء السكنية، بل فرضت على المدينة حصاراً مشدداً وشاملاً وصل إلى حرمان مئات الآلاف من سكان المدينة من شربة ماء..
في الوقت الذي تعاني فيه تعز من شحة المياه أصلاً منذ زمن طويل، فالمدينة تعتمد على المياه التي تصل إليها من مناطق بعيدة خارج إطارها الجغرافي.
وأصبحت المدينة تعاني من أزمة حادة في مياه الشرب والاستعمال التي أصبح الحصول عليها شاقا وعسيراً، وهو ما أدى إلى ظهور أسواق سوداء في بيع الماء في سابقة خطيرة من نوعها وانتهاكا جسيما في قوانين حقوق الإنسان.

جرائم التعطيش
هو الموت البطئ الذي تفرضه الميليشيات على تعز عبر سياسات التجويع والتعطيش إلى جانب القصف التواصل الذي يحصد يوميا أرواح الأبرياء من المدنيين..
وبهذا تتعدد صور الموت في مدينة تعز فمن لم يمت بقذائف ورصاص الميليشيات سيموت جوعا وعطشا بسبب حصار بلغ حد منع عبوة ماء صغيرة من الدخول إلى المدينة ومصادرتها.
بعد أن عجز الانقلابيون عن تركيع تعز وكسر شوكة مقاومتها لجأوا إلى خنقها بالحصار بعد أن منعوا عنها جميع مقاومات الحياة بما في ذلك المياه.

ما اضطر الكثيرين من سكان تعز إلى شرب المياه المالحة من الآبار الآسنة وكذلك مياه الأمطار بعد أن صار الناس يحلمون بالحصول على مياه نظيفة صالحة للشرب وبات العطش يفتك بهم وهو ما يمثل عقاب جماعي و جريمة لم يسبق لها مثيل فاقت كل الأوصاف.
فيما يرى الكثير من المراقبين والحقوقيين أن المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بصمتهم وتغاضيهم يشاركون أيضا في معاناة تعز.

هي إذا الميليشيات تسرق الخبز من أفواه الجوعى والماء من أكف العطشى وهو ما يجعل حياة مئات الآلاف من البشر داخل مدينة محاصرة مهددون بالموت الجماعي.

صعوبات ومخاطر
بعد أن توقفت المؤسسة المحلية للمياه عن ضخ الماء إلى المنازل والذي كان يصل كل شهرين تقريبا ويستمر لوقت محدود قبيل الحرب، بسبب نقص الوقود واستمرار المواجهات المسلحة، أصبح سكان المدينة يعتمدون بشكل كلي على "وايتات" المياه التي يتم توزيعها على الأحياء والحارات داخل مدينة تعز عبر جمعيات وفاعلي خير والتي يتم تعبئتها من آبار موجودة داخل مربع المقاومة أو يتم استجلابها من قرى جبل صبر ومناطق خارج المدينة رغم المشاق الكبيرة والمخاطر المحدقة وكذلك استهداف القناصة المستمر لها.
 طوابير طويلة اعتدنا رؤيتها عند محطات تعبئة الوقود، لكن الأمر الصادم وغير المعتاد أن نرى تلك الطوابير اليوم تصطف لتعبئة مياه الشرب..

يأتي الناس من أحياء بعيدة للتجمع أمام صهريج مياه والانتظار لساعات طويلة ثم ينفد الماء قبل أن يشرب غالبية من في الطابور ليعودوا محملين بالألم والظمأ والخوف من القادم المجهول، مشهد يومي تعيشه مدينة يحيط بها شبح الموت والعطش في آن.
وصار الناس يعتمدون بشكل كلي على تلك المياه التي يتم توزيعها مجانا على الأحياء السكنية، لكن الملاحظ اليوم أنها انقطعت عن الكثير من الأحياء التي كانوا يعتمدون عليها بشكل كلي..
يأتي ذلك في ظل ارتفاع أسعار المياه أضعافا مضاعفة، الأمر الذي يفوق قدرة المواطن الذي يعيش ظروفا مادية صعبة، وهو ما ينذر بكارثة حقيقية رغم الجهود المبذولة للتخفيف من المعاناة المتفاقمة.

انحطاط أخلاقي
لم يستوعب "عمر الفقي" وهو يشاهد مسلح حوثي يصعد فوق شاحنة المياه عند أحد المنافذ الأمنية ويقوم بفتح وايت الماء والتبول بداخله قبل السماح له بالعبور من النقطة الأمنية نحو المدينة المحاصرة.. كاد أن يجن- حد تعبيره- لكنه تمالك نفسه من الاندفاع تفادياً لمكروه قد يحدث له في حال أبدى ردة فعل استنكارية على تصرف المسلح الذي تكرر مراراً أمام مرأى مواطنين..
في تعز لم يتوقف الأمر حد منع الماء فقط بل وصل الحال إلى التبول داخل صهاريج الماء قبل السماح بدخولها إلى أهالي تعز كما يؤكد شهود عيان.. وأحيانا كثيرة يأمرون بإفراغ صهاريج المياه على الأرض أمام أعين أصحابها عند مداخل المدينة..

وتعدّ المياه أكثر ما يحتاج إليه سكان المدينة اليوم، بعد تدمير شبكة المياه المحلية وتوقف الشاحنات عند نقاط التفتيش عند مداخل المدينة.
ولم تكتف مليشيا الحوثي بحرمان السكان من المياه وقطع إمداداتهم بها ومنع دخول الوايتات التي تمر من النقاط الأمنية التي يسيطرون عليها إلى المدينة، بل عمدت إلى ممارسات تلويث المياه المارة من نقاطهم كطريقة استفزازية منهم..
وبحسب شهود عيان وسكان محليين فإن مسلحين حوثيين كانوا يمنعون دخول المياه إلى المناطق المحاصرة، وفي أحايين كثيرة يعمدون إلى التبول في وايتات الماء التي تمر من نقاطهم الأمنية والمنافذ التي يسيطرون عليها مقابل السماح لها بالعبور والدخول إلى المدينة، كعقاب لسكان المدينة، حد توليفاتهم.

طوابير تحت القصف
بقذيفة أطلقتها مليشيا الحوثي على إحدى تجمعات الحصول على الماء بجانب شاحنة قُتل خمسة أطفال وأُصيب عشرين آخرين بينهم الطفلة عصماء التي أصابتها شظية وتسبب بكسر في الجمجمة ، على إثرها توفت لاحقاً..
ولم تستثني رصاصات قناصي الحوثي وقذائفهم طوابير المواطنين عند وايتات الماء الإغاثية من الاستهداف.. فقد سقط أكثر من شخص وهم يرابطون في طوابير البحث عن المياه، أغلبهم أطفال..
وفيما العطش يفتك بسكان المدينة.. وفي أسوأ الأحوال تستهدف رصاصات قناصاتهم سائقي تلك الصهاريج أو ما تسمى "وايتات" المياه، وهو سلوك وصفه الكثيرون بالعدواني والبربري الذي لم يحصل في أخلاقيات الحروب التي عرفها التاريخ.

 أقدمت ولأكثر من مرة ميليشيات الحوثي والمخلوع على قصف تجمعات للمواطنين حول صهاريج الماء في أكثر من منطقة داخل المدينة راح ضحيته أطفال أحالت تلك القذائف أجسادهم إلى أشلاء متناثرة واختلطت دمائهم بالماء الذي لم تعطهم الميليشيات فرصة الحصول عليه.

في واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبتها مليشيا الحوثي استهدفت قذيفة تجمعاً لأطفال ونساء كانوا في طابور للحصول على مياه الشرب..
أصيبت الطفلة عصماء بشظية أثناء وقوفها في طابور للحصول على المياه من إحدى الحاويات. وأصيب 19 طفل آخرون في الهجوم نفسه، في حين قُتل خمسة من بين الأطفال الذين وقفوا للحصول على المياه.

تسبب القصف في كسر في جمجمة عصماء بحجم راحة اليد. ورغم خطورة الجروح، بذل جراحو الطواريء في مستشفى الثورة، وهو أكبر مستشفيات المدينة الحكومية، جهودا حثيثة لإنقاذها.
نجح الجراحون في إنقاذ الطفلة، وظلت ممدة على سرير، لكن خلو المستشفى من أسطوانات الأكسجين، جعل الأطباء يؤكدون حينها أنه لن يتعافى مخ الطفلة المصابة.

وقال الطبيب الذي كان يشرف على حالة عصماء: "نعمل جاهدين من أجل الحفاظ على حياتها، لكن جهودنا قد تذهب سُدى بسبب نقص الأكسجين النقي".
وفي الخامس والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول الماضي توفيت عصماء متأثرة بإصاباتها البالغة بعد وصولها إلى مدينة عدن لتلقي العلاج.

رسل الإغاثة
ظل عبد الباقي يتحسر بينما يشاهد نساء وأطفال تعز يتوافدون على المساجد بحثاً عن المياه في ظل حصار المليشيا المطبق على المدينة.. لم يكن أمامه من حيلة للتخفيف من المأساة التي صدمته وآلمته كثيراً، وأنه لابد من دور يقوم به لإنقاذ أناس يموتون عطشاً.. فكان لفكرته صداها، تحولت من مجرد منشورات على الفيس بوك إلى مبادرة حققت نجاحاً في أكثر من أربعين مديرية أغاثها بالماء..

دفع الحصار الخانق على تعز، والذي تسبب بأزمة إنسانية متفاقمة، دفع الكثير من الشباب والجمعيات الخيرية إلى تبنى مبادرات تعمل على تزويد الأحياء السكنية بالمدينة بـ"وايتات" الماء..
إذ يتم استجلابها من مناطق خارج المدينة كقرى جبل صبر- الطريق الوحيدة التي يتم من خلالها إدخالها إلى المدينة وتوزيعها على الحارات والأحياء مجانا عبر فاعلي الخير- ومع كل الجهود المبذولة إلا أنها تظل محدودة ولا تفي بالاحتياجات العاجلة لسكان تعز. 

عبد الباقي البهرمي- مهندس مدني في الصندوق الاجتماعي- صاحب إحدى المبادرات التي تقوم بتوزيع الماء إلى عدد من أحياء تعز بدعم من فاعلي الخير يتحدث عن تجربته في العمل الإغاثي الذي بدأه في شهر أكتوبر من العام الماضي.

يقول البهرمي: بدأنا بالعمل الإغاثي المتمثل بتوزيع الماء على الأحياء الأكثر تضرراً والأكثر ازدحاما، حيث بدأ الحصار يمتد ليصل تأثيره إلى كل الساكنين في مدينة تعز وكنا نشاهد النساء والأطفال والشيوخ يخرجون بعد صلاة الفجر للبحث عن الماء وجلبها من المساجد ومن مكان تواجد المياه.
 كان المهندس المدني يرقب المشهد ويدون بعض الحالات، وكان شيئاً ما يحز في نفسه.. لم يهدأ بال البهرمي وهو يرى أطفال ونساء مدينته المحاصرة يجوبون المساجد بحثاً عن الماء..
فكر عبد الباقي ملياً ولم يكن أمامه من حيلة، للتخفيف من المأساة التي صدمته وآلمته كثيراً، سوى اللجوء لإحداث ردة فعل لرأي عام عبر صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك..
"حينها قمت بتصوير عدد من الحالات المأساوية ونشرها في صفحتي الفيسبوكية": قال البهرمي، مؤكداً أنه كان يؤمن كثيراً بتفاعل كبير ستحظى به منشوراته بينما كان يقوم بنشر الصور، فالمهندس المدني القادم من ريف شرعب يحمل في كينونته إنسانية عظيمة طالما عرفه بها كثيرون، كما هي علاقاته بكثير من الجهات والشخصيات التي يثق أنها لن تخذله..

يضيف عبد الباقي:" لقد تفاعل مع منشوراتي العديد من الأصدقاء المغتربين وفاعلي خير في دول عربية وأجنبية لا أعرفهم وأرسلوا بمبالغ مالية لإغاثة أبناء تعز"..

كان لمنشورات المهندس البهرمي صداها، وما أن بدأت التبرعات تتوافد رأى أن الوقت قد حان لتقديم دور إنساني لمدينته المحاصرة، وفوق ذلك إغاثة أولئك الأطفال والنساء الذين كان يشاهدها بحثاً عن المياه..
"باشرنا العمل في أكثر من 40 حي في مديرية القاهرة ومديرية المظفر والأحياء التابعة لمديرية صالة الواقعة داخل نطاق المقاومة": قال البهرمي، مشيراً إلى أن العمل جاري حتى اليوم، وأضاف" التبرع مستمر وقد تم تنفيذ ما يزيد عن 40 حملة إغاثة بالماء في عدد من أحياء المدينة".

صار اليوم للمهندس البهرمي حكايات عاشها في كل حارة من حارات وأحياء المدينة.. كما صار الكثير من نساء وأطفال تعز ينتظرون المهندس القادم إليهم بوايتات المياه..

وربما لايعرف كثيرون من هؤلاء أو يجهلون أن عبد الباقي من كبار المهندسين المدنيين في الصندوق الاجتماعي للتنمية ممن حققوا نجاحات في مشاريع تنموية، أشرف عليها وهندسها في أكثر مناطق ومديريات تعز.. كل ما يعرفونه عنه أنه رسول الماء إليهم ومنقذ تعز من الظمأ..

أمراض تتفاقم
في مدينة تعز المحاصرة، تزداد الأمراض المنقولة من المياه، ولا سيّما حالات الإسهال وداء الأميبا "تتسبب به دودة أميبا" والإصابة بدودة الجيارديا لامبليا. وذلك بسبب محاولة الأسر المحاصرة استخدام المياه ذاتها أكثر من مرّة، للتوفير.
كما انتشرت أمراض حمى الضنك والإسهال والكوليرا، بمعدلات مثيرة للقلق في مركز المدينة والمناطق الريفية التي تعاني من محدودية الوصول إلى المياه النظيفة.

المدينة التي تشهد حرباً طاحنة منذ نيسان/أبريل الماضي وحصاراً خانقاً تفرضه مليشيات الحوثي وصالح على المدينة تسببت في انتشار الأمراض الوبائية هناك، ما دفع الحكومة اليمنية إلى إعلان مدينة تعز مدينة منكوبة، والاكتفاء بجهودها عند حدود هذا الإعلان..
وتفيد إحصائيات الأمم المتحدة أن سوء التغذية والأمراض الناجمة عن نقص المياه تؤدي إلى وفاة 14 ألف طفل يمني، دون سن الخامسة، كل عام.

وفاقمت الحرب في المدينة معاناة أكثر سكان المناطق الريفية أيضاً، ولا سيّما الأطفال الذين يصابون بأمراض مختلفة قد تفضي إلى الموت بسبب المياه غير الصالحة للشرب وللنظافة الشخصية.
وتُقابل هذه المشكلة بعجز الجهات الحكومية والمنظمات الدولية، عن تقديم أدنى خدمة صحية أو بيئية تساعدهم على تجاوز هذه المخاطر.

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد