18 مارس..انتصار الكرامة على البارود

2016-03-19 13:39:41 ملف خاص/ صلاح الجندي- وليد عبد الواسع


قبل خمسة أعوام من نفس هذا اليوم، كانت ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء، مسرحاً مرعباً لمذبحة حية يستعصي نسيانها لمن شهدوا ويلاتها لأكثر من عشر ساعات، بدأ توقيت الدم فيها قبل مغادرة المصلين لأماكنهم في الساحة التي اكتظت يومها بمئات الآلاف من شباب الثورة ومن شارك الصلاة في تلك الجمعة غير المسبوقة.
اعتلى خطيب جمعة الكرامة (الإنذار) منبر النصب التذكاري الكائن أمام بوابة جامعة صنعاء، وكانت الساحة تكتظ بمئات الآلاف من المصلين الذين لم يخطر ببال أحد منهم أن يومه سيكون مأساة بكل المقاييس ومجزرة غير مسبوقة في تاريخ اليمن الحديث.. فكانت قطرة الدم التي أسقطت عرش مستبد...

تطل الذكرى الخامسة لجمعة الكرامة اليوم التاريخي لتعود و تتزاحم فيه التساؤلات عن ما حدث في ذلك اليوم، ويبقى التساؤل الأهم متى ستأتي لحظة الحقيقة والعدالة لإنصاف لـ 46 شهيد وكذلك ما يزيد عن 180 جريح.
مثل ذلك اليوم لحظة فارقة في تأريخ الثورة وربما في تاريخ اليمن المعاصر، لحظة تجسد فيها جنون القتل وعظمة التضحية، لحظة فارقة غيرت المشهد تماما وولدت مشهدا جديدا أصبح فيه ما قبل الثامن عشر من مارس مختلفا عن ما بعد. ليظل مشهد الثامن عشر من مارس مشهدا ناقصا يحتاج إكماله إلى عدالة تنصف ضحاياه وتعاقب مرتكبيه.

بعد خمس سنوات من ذكرى الكرامة لازالت قضيتهم عالقة حتى اليوم لا منقذ لها أو منتصر غير ملفات مكدسة تمزق أوراقها الأسئلة، تكالب الجميع على قضايا أسر الشهداء نظام رحل مع جريمته ونظام اتى ولم يحقق شيء وشعب تائه بين هذا وهذا حتى القضاء لم يحقق عدالته رغم وضوح الجريمة، تبقى محامون يناضلون بحثا عن عدالة منصفة لدماء شهداء موكليهم رغم الطرق التي سدت في طريقهم.

تحل الذكرى الخامسة لجريمة جمعة الكرامة على مشهد سياسي مختلف وعلى وقع جبهات عسكرية مفتوحة في طول البلاد وعرضها لاسترداد الدولة المخطوفة من جماعة الحوثي وحليفهم صالح المتهم الأول بالجريمة، ليطرح التساؤل هل تاهت دماء جمعة الكرامة مع شلال الدماء التي سفكت بعدها بالحروب التي أشعلها صالح والحوثيين أم أنها كانت شرارة التضحيات لمعركة اليمن الكبرى للخلاص من صالح ونظامه؟!.

خطوة عاثرة باتجاه العدالة
أكثر من 50 شهيدا ومئات من الجرحى والمصابين من شباب ثورة الكرامة سقطوا في مجزرة يصعق لها كل من عاش تفاصيلها الدامية كلما تذكر أهوال ذلك اليوم العصيب الذي هزم صمود وشجاعة وبسالة شباب الثورة فيه وحشية القاتل المذعور في ملحمة أسطورية الصمود بصدور عارية.

محامو شهداء جمعة الكرامة سبق أن كشفوا أن لديهم معلومات وحقائق خطيرة لن يتم الكشف عنها إلا في وجود قضاء محلي نزيه.. ويشير رئيس اللجنة القانونية بساحة التغيير- المحامي باسم الشرجبي إلى أنه ظهر في التحقيقات أن الأجهزة الأمنية على دراية بالجريمة.
وأكد الشرجبي على ملاحقة مجرمي جمعة الكرامة في الداخل والخارج، واللجوء إلى المحاكمة الدولية، وما حدث في مصر خير دليل.

عدد من أولياء دم شهداء وجرحى مجزرة الكرامة سبق أن طالبوا بإحالة رأس النظام السابق ونجله ورموز نظامه لقفص الاتهام، وأنهم يحتفظون بحقهم القانوني لمقاضاة رموز النظام والجناة حتى إنشاء قضاء محلي نزيه وعبر القضاء الدولي، كما طالبوا من المحامين الاستمرار على ماهم عليه في الدفاع عن دماء أبنائهم.

في وقت سابق، نشرت صحيفة "صوت الثورة" الصادرة عن الشباب المعتصمين في ساحة التغيير بصنعاء بأن اللجان الأمنية التابعة للمعتصمين ألقت القبض على 19 شخص بعد ارتكاب الجريمة مباشرة، وبعد التحقيق معهم، أتضح بأنهم جنود في الحرس الخاص (اللواء الأول) والأمن المركزي، بالإضافة إلى وجود البعض تم استئجارهم كمرتزقة لتنفيذ عملية قتل المعتصمين سلمياً في مجزرة جمعة الكرامة.
وأشارت إلى وجود وثائق وبطائق تثبت انتماءهم للحرس الخاص الذي يقوده نجل الرئيس صالح، والأمن المركزي الذي يقوده أيضاً ابن شقيق صالح.

وذكرت صحيفة "صوت الثورة"، أن المعلومات التي أدلى بها الجناة كشفت عن جوانب غاية في الخطورة، تدين صالح شخصياً وتفضح عدداً من المؤامرات الإجرامية، حسبما قالت الصحيفة.
وقالت الصحيفة إن المقبوض عليهم اعترفوا بالمبالغ التي يستلمها البلطجية وأسماء عدد من الشخصيات التي تشرف على هذه العمليات من المسؤولين في المديريات والحارات ومسؤولين غير مباشرين في الأمن القومي والحزب الحاكم، ولكن الصحيفة لم تنشر هذه الأسماء.

وكانت النيابة العامة قامت بتوجيه الاتهام إلى 79 شخصاً، وأبلغ النائب العام منظمة العفو الدولية في يونيو 2012 أن 14 من 79 مشتبهاً به كانوا موقوفين آنذاك وقد أفرج عن البعض بكفالة بينما لا يزال آخرون فارين من وجه العدالة، وهم اليوم يحاكمون في إحدى محاكم أمانة العاصمة.

وكشفت تحقيقات النيابة أن وزير الداخلية وقيادات الأجهزة الأمنية في العاصمة والبحث الجنائي رفضوا تنفيذ توجيهات النائب العام السابق عبدالله العلفي بالقيام بإلقاء القبض على المتهمين الذين وجهت النيابة بإلقاء القبض عليهم رغم معرفة الأجهزة الأمنية بأماكن تواجدهم.

وبحسب قانونيون يعد هذا الرفض من قبل وزير الداخلية والأجهزة الأمنية تأكيداً لإثبات العلاقة الوطيدة بين أولئك المتهمين ونظام صالح في تشكيل تلك العصابات المسلحة وأنه وجه أجهزته الأمنية بعدم القيام بإلقاء القبض عليهم حتى يتستر على الجريمة و يستفيد من العصابات في ارتكاب جرائم أخرى.

وجع الذاكرة
تمام الساعة الثانية من نهار الثامن عشر من مارس 2011م كان الزميل غمدان اليوسفي يتحدث لقناة الجزيرة عن مجزرة بشعة بلغة غضب لم أعهد لها مثيل من شخص عايشته لسنين، بينما الغصة ونبرة الوجع تطغو على حديثه..

يقول اليوسفي:" في مثل هذه اللحظات قبل خمسة أعوام، كنت في المستشفى الميداني أنقل على الهواء لقناة الجزيرة جريمة جمعة الكرامة، كنت أتحدث للحبيب الغريبي والجثث تتوالى إلى الجامع/ المستشفى"..
بعد خمس سنوات من الحادثة وفي ذات التوقيت يتذكر غمدان تلك اللحظات القاسية والمؤلمة التي تكاد تخنقه، مستحضراً مشاهد يبدو وقعها أشد إيلاماً على نفسه.. وماتزال صور كثيرة موجعة عن ذلك اليوم ترتسم بقوة ولايمكن أن تمحوها عوامل السنين من الذاكرة بالنسبة لصحفي شهد الحادثة..

يضيف اليوسفي، في منشور على صفحته بالفيس بوك:" مازالت صورة هذا الشاب الذي يتحدت بالهاتف في زاوية الصورة توجع الذاكرة.. كان جالسا على جثة أخيه، وكان يتحدث ربما لأحد معارفه بحروف لم تعد حروف.. كانت دموع وحسب.. إنه يوم من أيام سقوط الأقنعة الزائفة لرئيس اتضح انه مستعد للتضحية بوطن كامل من أجل ذاته".

جمعة الكرامة.. مذبحة تأبى النسيان وجريمة لاتسقط بالتقادم
بينما كانت ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء تهتز على وقع دوي هتافات "الشعب يريد إسقاط النظام"، كانت الجهة الجنوبية منها تشهد لعلعات الرشاشات والقناصات بغزارة.. لم تكد توقف هتافات الحشود الشعبية المهيبة لدقائق معدودة، لتعود هتافاتهم وبحماس منقطع النظير غير أبهين بآلة القتل، ولم يكونوا يتصورون أن مجزرة قادمة ستحدث وأن عداد الدم قد بدأ توقيته..

عشر دقائق فقط، بعد أن أنهى شباب الثورة صلاة جمعتهم كانوا يرددون شعاراتهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، وعند الانتهاء من ترديد هذا الشعار وغيره، بدأ الثوار بملحمة صمودهم الأسطوري في وجه القتلة بعدما أيقن الجميع بأنها الفاصلة المؤلمة والمتوقعة من نظام دموي مدجج بأدوات القتل رافض للرحيل الطوعي من السلطة في حق شعب خرج في ثورة سلمية ينشد الحرية والكرامة من فعل ثوري سلمي مستمر استعصى على القمع والقتل والحرب حتى اللحظة.

يوم الـ 18 من مارس العام 2011م.. اليوم الدامي الذي ارتكب فيه نظام صالح مذبحة بشعة، حين قام بسحب قوات الأمن المركزي التي كانت تقوم بحماية الساحة حسب زعمه ومن ثم قام قناصة ـ تقول منظمة "هود" الحقوقية إنهم ينتمون لوحدات في الحرس الجمهوري والأمن المركزي- قاموا بقنص المعتصمين عقب الانتهاء من صلاة الجمعة واستمرت عملية القنص والقتل لساعات راح ضحيتها أكثر من خمسين من شباب الثورة السلمية و 278 جريحاً بالرصاص الحي وأكثر من 600 مصاب بالغازات.

في الذكرى الخامسة لمجزرة جمعة الكرامة تستعيد أسر شهداء الكرامة تفاصيل أحباب وأعزاء قضوا في سبيل الكرامة والدولة المدنية المنشودة، كما هو حال شباب ثورة الحادي عشر من فبراير السلمية، وكلهم أمل في تحقيق الهدف الذي خرج من أجله أطياف الشعب اليمني إلى ساحات وميادين التغيير والحرية.
بالعودة إلى تفاصيل البدايات الأولى للمجزرة، فمنذ ساعات الصباح الأولى بدأت جموع المصلين أفراداً وجماعات تتوافد على ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء والتي لم يتعد حجمها (الساحة) نصف كيلو متر ـ قبيل أن تتمدد إلى ما يزيد عن أربعة كيلو مترات شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ـ وليس لهؤلاء الجموع من المصلين سوى هدف واحد هو إسقاط النظام ومحاكمة رموزه.

من واقع ملف تحقيقات النيابة العامة تشير الشهادات أن "علي أحمد محسن البيضاني" قام بإطلاق النار مباشرة على المعتصمين وتبعه في تلك اللحظة مرافقيه من داخل منزله ثم أفراد العصابة من داخل المنازل والشارع..
"سقط أول شهيد والمعتصمون ما زالوا جالسين يرددون شعاراتهم، وهذا يفضح تدليس وكذب وزير الداخلية السابق مطهر المصري، عندما أرجع سبب إطلاق القتلة النار على الثوار، إلى إقدام المعتصمين على هدم الجدار": قالت إحدى الشهادات.

"وبعد سقوط أول شهيد، قام المعتصمون وشاهدوا أن إطلاق النار يأتي عليهم من منزل محافظ محافظة المحويت والمنازل المجاورة والمطلة على ساحتهم فحاول البعض منهم الاتجاه نحو الجدار لإيجاد فتحة منه للخروج للإمساك بمن يطلق النار فكان كلما اقترب الشباب من الجدار تساقطوا شهداء من كثرة إطلاق النار عليهم وقنصهم في الرأس والرقبة": أضاف الشاهد.

ومع ذلك استطاع بعض الشباب هدم جزء من السور للخروج منه، واتجهوا إلى الشارع، لكن الشباب الذين يخرجون من السور يسقطون شهداء، حتى استطاع بقية الشباب هدم كامل السور والاتجاه نحو من يطلق النار للإمساك به وكانت قوات الأمن المركزي التي حضرت تقوم بالاعتداء على المعتصمين ورشهم من خلال عربات الرش وإلقاء قنابل غازية سامة ومواد حارقة وإطلاق نار من الضباط والجنود الذين كانوا حاضرين بعضهم بلباس مدني وبعضهم بلباس رسمي.

وكشفت تحقيقات النيابة أن وزير الداخلية وقيادات الأجهزة الأمنية في العاصمة والبحث الجنائي رفضوا تنفيذ توجيهات النائب العام السابق عبدالله العلفي بالقيام بإلقاء القبض على المتهمين الذين وجهت النيابة بإلقاء القبض عليهم رغم معرفة الأجهزة الأمنية بأماكن تواجدهم.

وبحسب قانونيون يعد هذا الرفض من قبل وزير الداخلية والأجهزة الأمنية تأكيداً لإثبات العلاقة الوطيدة بين أولئك المتهمين ونظام صالح في تشكيل تلك العصابات المسلحة وأنه وجه أجهزته الأمنية بعدم القيام بإلقاء القبض عليهم حتى يتستر على الجريمة و يستفيد من العصابات في ارتكاب جرائم أخرى.

الكاتب والصحفي/ محمد الشرعبي، يصف مشهد جمعة الكرامة- كونه أحد شباب الثورة المتواجدين في مسرح الجريمة- يصفها بقوله: يعجز الحرف عن وصف المؤلم والمشهود في لوحات الفداء التي سطرها الشباب وفي مقدمتهم الشهداء الذين انطلقوا كالأسود بصدورهم العارية غير مكترثين بالرصاص وكأن أرواحهم كانت على موعداً مسبقاً بالصعود إلى الفردوس الأعلى بمشيئة الله .

ويقول الشرعبي في منشور على صفحته في الفيس بوك:" جموع تموج ورصاص تهطل لأكثر من ساعة، بعدها شرع الثوار بهدم الجدار البلطجي وآخرين يجلبون الماء من كل اتجاه لإطفاء عشرات من الإطارات التي جلبت إلى المكان بهدف إحراقها للتمويه على مصادر إطلاق الرصاص الحي، وعدم وضوح الرؤية لكاميرات التصوير، وفي أقل من نصف ساعة، سقط الجدار، واندفع طوفان من الثوار نحو القتلة المتمركزين على أسطح المنازل المنتشرين في الشوارع والمداخل ومن خلفهم عربات ومصفحات وأطقم الأمن المركزي".

ويضيف" كان منزل محافظ المحويت السابق "على أحمد الأحول" الوكر الإجرامي الذي سقط بيد الثوار بعد تمكن الشهيد الطفل "أنور الماعطي" من التسلق على البوابة وفتحها قبل أن تصيبه رصاصات قاتلة، تلاها اندفاع جماعي للثوار في ملحمة بطولية شارك مئات في اقتحامه وتمكن شباب الثورة من إلقاء القبض على بعض القتلة، وعند التحقيق معهم اتضح أن من بينهم جنودا وضباط أمن، فقد ضبط الثوار أحد أفراد الأمن قريبا من الجدار وذلك حينما كان يبلغ الجهة التي يعمل لديها بما يجري، واتضح لاحقا أنه كان مدسوسا ويعمل كمخبر أمني في الساحة منذ نصب أول خيمة، وورد في كلامه اعترافات بتواجد ضباط ومسؤولين أمنيين في مسرح الجريمة، فتم استدعاؤهم للتحقيق".

عقب جريمة جمعة الكرامة تسارعت الأحداث غير المتوقعة.. توالت الانضمامات إلى صف ثورة الشباب وأعلن الكثير دعمهم وتأييدهم لها، مسئولين وقادة وضباط وأفراد جيش ورجال أعمال.. وعلى الطرف الأخر كان التصعيد الشعبي يزداد تأججاً في وجه نظام سقط بسقوط أول شهيد في درب ثورة فبراير..

المقاومة امتداد للكرامة
في مثل هذا اليوم كانت ساحة التغيير بصنعاء وبعد عشر ساعات من حصاد الأرواح تعلن عن عداد الدم الذي لم يتوقف 54 شهيدا سفحت دمهم آلة القتل لنظام الثلاثة والثلاثين سنة على إسفلت أول كيلو متر حرية.
ولأن قطرات الدم هي التي تلهب ثورة كامنة في الداخل، استحضار مشاهد الدماء التي نرفضها هي إيقاظ للمشاعر المحتضرة..

شهداء جمعة الكرامة كانوا قطرة الدم التي أذنت لانتصارات اليوم.. والتي يحققها المقاومون بتضحيات جسام في مختلف جيهات القتال وهم ماضون في درب الكرامة لاستعادة وطن منهوب من قبل مليشيا الحوثي وصالح.. وهو ما يؤكد على أن انتصارات وتضحيات اليوم هي امتداد لتضحيات الكرامة- حد تعبير كثير متابعين.
الصحفي عمار علي أحمد يرى أن الـ 18 من مارس يوما مفصلي في تاريخ اليمن الحديث وأن ما بعد ذاك اليوم اختلف عن ما قبله واحدث تغييرا في المشهد السياسي في اليمن.

ويشرح عمار، وهو أحد الشباب الناشطين في ثورة 11 فبراير وشاهد حي على المجزرة نهار ذلك اليوم، بالقول: كان مشهد عظيم للتضحية من قبل الثوار الشباب، تساقط الواحد تلو الأخر لتحطيم الجدار الذي صنعه بلاطجة نظام صالح لتطويق الثورة وسجنها كما سجن صالح اليمن لـ 33 سنة وأوغل في الشعب قتلا وفساد.
وبلغة المقارنة يقول عمار: لم تكن تضحيات ذلك اليوم لتحطيم الجدار فقط بل لتحطيم الجدار الذي صنعه صالح حول نظامه لتحصنه من السقوط وتحصن الكرسي ليورثه لنجله، لكنه تحطم ذلك اليوم وسقط الجدار وسقط صالح.

عمار يربط بين ذاك اليوم وبين ما نعيشه اليوم من حرب وانقلاب هو انتقام خطط له صالح لخسارة الكرسي وتحطيم الثوار لحلم التوريث، و ثمن يُدفع للحصانة التي منحت لصالح والعفو عن جرائمه وعلى رأسها جمعة الكرامة.
ويضيف:" أنا أرى أن مقاومة الانقلاب التي نراها اليوم في كل محافظات اليمن هو امتداد لما صنعه الثوار يوم 18 من مارس حين حطموا جدار صالح بأجسادهم، واليوم المقاومة تستكمل تحطيم صالح وتفكيك أحجار عصابته لتمضي اليمن في طريقها".

ثوار غسلوا أيديهم بدماء الكرامة
في واحدة من أقسى لحظات العمر التي عاش تفاصيلها شاب كان يرنو لوطن الحرية والكرامة، وكاد يتلمسه بين أنامله المغتسلة بدماء شهداء الكرامة، تبدو طموحات عمر الباقري اليوم مؤسفة بينما ينظر إلى وطن مسروق متذكراً معها تضحيات رفاقه الشهداء الذين لم يقتص لهم ويتحسر..
الثائر عمر الباقري الذي اغتسلت يده بدماء ثوار الكرامة يقول: لن أنسى ذلك اليوم ويدي تتعطر بتلك الدماء من هول الموقف، لقد سالت الدماء من اجل كرامتنا وكرامة شعب خرج من أجل أن يبحث عن وطن يعم بالأمن والسلام.

ويسرد عمر قصته مع الكرامة:" كنت حينها أقول لنفسي سقط النظام وسقط الفساد ولم ادري أنها ستمر خمس سنوات ولم نقتص لتلك الدماء، لم أكن أتوقع أن رفاقنا في الساحات سيتحالفون مع عفاش بثورة مضادة، وسرقوا الوطن وقوت الشعب، ولكن نقول لكم أحياء وباقون وللحلم بقية مهما تكالبتم الدماء لن تذهب هدرا، وخذلانكم لم يكن سوى دافع لنا لنستمر في ثورتنا حتى تنتصر".
يضيف الباقري:" عما قريب سنرى شمس النصر تشرق، سنرى قيادات تنتصر.. لن نموت وسنحيا حتى لو مزقت سياطهم أجسادنا وحتى لو أشعلوا فينا النار.. وسنحيا لنقتلع الموت من وطننا وسنكمل ما بدأناه في يوم الكرامة لينتهي شقاء هذا الوطن"..

ريما.. الكرامة بين جدار ونصر
بالنسبة لشابة عاشت تفاصيل ثورة وشاركت في أحداثها وفعالياتها كانت الدموع والبكاء، بينما تشاهد مجزرة بشعة وهي لاتملك ماتفعله، الوسيلة التي عبرت بها ريما العبسي عن حزنها ووجعها لهول يوم كانت ترقبه من نافذة منزلها المطل على ساحة التغيير بصنعاء..

الثائرة ريما العبسي تروي قصتها مع الكرامة بقولها: " 18 مارس هو يوم لن أنساه بحياتي فبعد ما انتهينا من صلاة الظهر سمعنا صوت الرصاص بكثافة.. سألتني يومها أمي ما لذي يحصل وأين سمع هذه الرصاص؟.. نهضت مسرعة إلى النافذة كي أسمع ماذا يقولون الناس في الخارج.. ورأيت الثوار يهرعون بسرعة وهم يقولون يقتلون الثوار في الساحة.. أغرقت عيناي بالدموع وبدأت بالبكاء من هول الموقف".

وبلغة الوصف تسرد ريما قصتها مع جدار الكرامة:" يوم 18مارس هو يوم بنا فيه أنصار المخلوع جدار أثناء صلاة الجمعة أراد فيه أن يحصر حرية شعب خوفا من انتشار مفهوم الحرية، وخوفا من أن يستيقظ الناس من سباتهم.. وعندما بدأ شباب الثورة بهدم جدار الظلم باغتتهم رصاص الحقد والكراهية، إنها رصاص الذل التي تستهدف الكرامة.. وراح ضحيتها خيرة الشباب"..

ورغم الوجع الذي يعصف بالثائرة الشابة، لكن ما يحدث اليوم من انتصارات للمقاومة في مختلف الجبهات تبدو كفيلة لأن تعيد لها بصيصاً من الأمل بأن ثورة الكرامة والحرية تواصل مسيرتها.. يحدوها الأمل كثيراً ومعه تستنفر حماستها لتصرخ:" ماتعبناش ماتعبناش، والحرية مش ببلاش".. إنه الهتاف الذي كانت تهوى ريما ترديده في مسيرات مواكب التغيير العام 2011م.

تقول ريما: " كان الجميل في ذلك اليوم أن جدار المخلوع انهدم ولم يصمد أمام كرامتنا.. وها هم اليوم شباب المقاومة يثأرون لدماء الشهداء وسنظل نهتف بذلك الشعار الذي لن ننساه "ما تعبناش ماتعبناش والحرية مش ببلاش"وسننتصر جميعا.

شقيق آخر شهداء الكرامة..
قلب ووطن مثخنان بالألم
وأنت تتحدث مع اسر شهداء الكرامة تعجز لسانك عن النطق وتقف أمامهم كمتهم لا يقوى عن الحديث كوننا لم نقدم لهم شيئا غير التذكير بهم في كل ذكرى ونسيانهم في ما عداها.
يتحدث ربيع اليوسفي، شقيق الشهيد المهندس/ حامد عبدالله علي شائف اليوسفي- أحد شهداء جمعة الكرامة- عن معاني هذا اليوم كونه شقيقاً لأحد من سقوا بدمائهم يوم الثامن عشر من مارس..

لخص ربيع لنا المشهد بعبارة مؤلمة " وطن قتيل يبحث عن قاتليه". وقال: قدم الشهداء أرواحهم من أجل الوطن الغالي على قلوبنا جميعاً وخاصة شهداء جمعة الكرامة التي تعد الشرارة الأولى التي هزت عرش النظام وعجلت بسقوطه وبعدهم سقط الكثير والكثير وعاهدنا الله نحن وكل من كان في الساحة أن نحذو حذوهم.
حدثنا ربيع عن كفاحهم في البحث عن العدالة الغائبة: شكلت لجنة محامين ولكن لا يجدون من يدعم مواقفهم فكل الكتل السياسية باتت بعيدة عن فكرة الشهداء، وجاءت الحرب لتزيد أوجاعنا بدماء جديدة ووطن جريح.
يضيف ربيع: حتى فكرة رواتب الشهداء التي صدر بشأنها قرار من الرئيس عبده ربه منصور هادي التي استجاب بعد مظاهرات لأسر الشهداء في الأعوام السابقة لم تنفذ ولم تلمس أسر الشهداء أي تحرك تجاه هذا الجانب، وحتى صندوق رعاية الشهداء لم يقدم أي جديد يذكر.

أما عن مصير القتلة يقول ربيع: فإنهم يسرحون ويمرحون مع أبنائهم في حين أطفال وأسر الشهداء حرموهم من أبائهم لقد اخذوا أرواحهم بالقوة أمام مرأى ومسمع من العالم والدولة تعلم وتعرف المستوى المعيشي لأسر الشهداء الذين صعدت على أكتافهم واستغلت هذا الموقف كون أسر الشهداء غير قادرة على توفير الدعم المالي والدعم الإعلامي لقضيتهم أمام النيابة، ومرت الذكرى تلو الذكرى والشهداء ما زالوا في ذمة أصحاب القرار.
ربيع ختم كلامه بتوجيه رسالة مؤثرة:" رسالتي إلى أصحاب القرار وحكومتنا الشرعية إذا كنتم نسيتم من في القبور من الشهداء فارفقوا بالجرحى الذين ما زالت جراحهم تضخ دماً وتعصر في الفؤاد ألماً.. وطن قتيل يبحث عن قاتليه هذا هو شعار ذكرى جمعة الكرامة"..

يتوقف شقيق آخر شهداء جمعة الكرامة عن الحديث، وبلكنته التعزية البسيطة يضيف:" أزيد؟ القلب مليان ألم، والله لو ظليت اكتب بقية حياتي لم أوف حق الشهداء".. وعلى وقع حديثه المؤلم تركناه بعد أن ألجم حسرة الموقف وعجزنا عن الرد عن هذا الحديث القاسي.

الشهيد الفاتح
"يا أبي.. لو أنك منعتني، وكل أب منع ابنه من الذهاب إلى ساحة التغيير فمن سيبقى في الساحة للتغيير؟!"..
عبارات ألجمت والد الشهيد أنور وهو يسمعها من ابنة لآخر مره في حياته بعد أن حاول منعه من الخروج من المنزل في ذلك اليوم فلم يقوى على مجادلته فسمح له بالذهاب إلى الاعتصام.
بكل حماس ذهب الشبل لساحة التغيير مشمرا عن ساعديه ليلحق بركب إخوانه الثوار الطامعين بالتغيير والعدالة غير آبه بما قد يحدث له فقد تمنى الشهادة قبلها وسمى نفسه بالشهيد القادم أثناء تواجده في الساحة مع رفاق دربه من الثوار.

الشبل أنور عبد الواحد الماعطي الأخ الأكبر لسبعة أشقاء، وهو أصغر أولئك الشهداء الذين سقطوا في مجزرة جمعة الكرامة (جمعة الإنذار)، بل وأبرز الشهداء.
سطر أنور ملحمة بطولية في ذلك اليوم فأثناء الرصاص الذي كان يحصد رؤوس الشهداء من إخوانه كان يقبع قاتل في الدور الثاني لمنزل محافظ المحويت السابق لاحظه بعض الثوار وأرادوا أن يصعدوا إليه ليفتحوا الباب ومن ثم يقبضون عليه..
لكن القاتل كان يصر على أن يطلق رصاصاته القاتلة تجاه كل من يصعد وحصد أكثر من خمسة شهداء.. أنور وهو يشاهد ما يحدث بعينيه ويرى إخوانه الشهداء يقتلوا أمامه لم ينهزم..

صعد الماعطي الشبل وصعد حتى وصل إلى ذلك الباب وفتحه رغم بعض الرصاص التي انهالت عليه من قبل ذلك القاتل، ومع ذلك استطاع فتح الباب وبعدها رحلت روحه الطاهرة إلى ربها وسمي بالشهيد الفاتح كونه من فتح الباب عن القاتل ليتمكن الثوار من الإمساك به بعد ذلك
عُرف أنور بالفتى النبيل ذو الأخلاق الحسنة بين أصدقائه وقرينة وأيضا بذكائه في المدرسة فقد كان يتصدر المرتبة الأولى من التفوق لشغفه وحبه للعلم حسب شهادة أحد مدرسية.
لم يكن أنور يحضر ساحة الاعتصام بشكل دائم كان يحضر لساعات إلى خيمته في ساحة التغيير، وكان له دور فعال في الخيمة بالنقاشات والمشورة وبإقناعهم بالرأي الذي يراه مناسب، بعد بناء الجدار الحاجز من قبل بلاطجة النظام من أبناء الحارات لمنع الثوار من التمدد في ساحتهم كان أنور يطلق على ذلك الجدار بجدار برلين ويهتف الجدار الجدار سنقتحمه وسأكون الشهيد القادم.

شجاعة أنور رغم صغر سنة أدهشت الجميع فقد كان بعض أصدقائه في يوم الخميس الذي يسبق الجمعة أثناء تصميمهم للشعارات واللافتات يشاركوه في النقاش، فقال أحدهم سأحمل راية النصر أو الشهادة وقال الأخر سأحمل لا فتة اعتصام حتى يسقط النظام، أما أنور فقال سأربط على رأسي (أنا الشهيد القادم ) لينال الشهادة في ذلك الجمعة مع 45 شهيدا من إخوانه الثوار.
شهد له الجميع بنظافته وحرصه على الطهارة والتطيب حتى يوم جمعة الكرامة كان كذلك إلى أن اغتالته يد الحقد والكراهية، واغتالت براءته وتركت وراءه أماً ثكلى، تتلوى حزناً وألماً على فراق بكرها، وفلذة كبدها الشهيد الشبل أنور.

ولأن الجاني يملك القدرة على التصرف في ثروات البلاد ظنّ في نفسه أنه يملك القدرة في التصرف بأفكار ومعتقدات الناس فقد عرض على والد الشهيد أنور العديد من التعويضات إحداها خمسة ملايين مقابل أن لا يدفن أبنة مع شهداء المجزرة في صنعاء وكذاك عرض من محافظ صنعاء حينها نعمان دويد بمقابلة الرئيس المخلوع وترقية وضعه المعيشي والوظيفي لكن إيمانه بدم ابنة وبثورته جعلته يقول لهم "والله لو أعطيتموني خمسين مليون مقابل جزمة أنور لن أقبل".

الكثير من العروض تلقاها والد الشهيد الفاتح أنور إلا أن كرامته جعلته يرفض كل شيء ومطلبه الوحيد أن يتم القصاص لولده ولكل الشهداء الذين هدرت دمائهم وهم ينشدون الحرية والعزة لهذا الوطن.
خمس سنوات لذكرى الكرامة ومازالت قضية شهدائها إلى اليوم عبارة عن ملفات منتظرة لعدالة الأرض أو عدالة السماء ، فقتلتهم في شوارع المدن وفي بيوتهم ينعمون، وأسر شهدائهم تتكبد الأوجاع قهرا على رحيلهم ومعاناة مستمرة لتخاذل الجميع لهم ولقضية شهدائهم.

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد