علية القوم يستعرضون والمواطنون يتفرجون..

"فخامة الشعب" يحتفل بالعيد الوطني الـ "21" لذكرى الوحدة اليمنية

2011-05-31 15:57:41 تقرير / محمد الجماعي


احتفل اليمنيون، رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً، بذكرى وحدة الشعب، في واحد من أكبر شوارع وساحات العاصمة التاريخية لليمن الموحد. لأول مرة منذ عقدين من الزمن لا تستخدم خزينة الدولة، ولا يشاهد الناس منصة رسمية تعج بذات الصور التي يشاهدونها في كل مناسبة: كروش كبيرة وبدلات فخمة. لأول مرة يكون الشعب هو سيد المكان والزمان، لا فرد في شارع الستين تدبج المدائح لأجله، ولا صورة شخص تملأ أرجاء المكان، باستثناء صور الشهداء، بل ولأول مرة في التاريخ اليمني على الأقل، تمر الكتائب الشبابية والعسكرية دون أن تدير وجهها لتحيي صنماً يفترش أريكة ذهبية على بعد متر تقريباً من الكرسيين اللذين بجواره، لا شيء يوم الأحد الماضي يشبه مظاهر الحفلات الرسمية، باستثناء الأعلام، والنشيد الوطني، وألوان أزياء الكتائب العسكرية، خلا المكان من الرتابة والجمود والرموز ورعود المداحين والشعراء، وحدها لوحة اليونيبول العملاقة التي تتوسط المكان، شمخت بعبارة "الوحدة هي إنجاز شعب، لا سلطة فرد"، يوم بهيج ذهلت فيه عيون لجان التنظيم الصارمة، تاركة الجموع تنظم ذاتها بنفسها، وتعبر عن فرحتها دونما إيعاز أو إملاء، غير آبهة حتى بموقع المنصة الرئيسية أو التدافع لرؤية الزعيم الأوحد.


"فخامة الشعب" إذن هو من احتفل بالأمس، ودشن عهداً جديداً من المواطنة ودستوراً للعلاقات بين الحاكم والمحكوم. عز مايو عليهم فهبوا من كل أنحاء العاصمة وفي كل المحافظات للاحتفال بعيدهم، وللمرة الأولى كذلك يحتفل شعب على غير ما جرت به العادة من نزول البسطاء من المواطنين للاستعراض فيما يبقى علية القوم على الكراسي يستمتعون بما يبدعه العامة.
الأحد الفائت كان المناضل محمد الفسيل 85 عاماً، والعلامة الدكتور/ صالح الوعيل 60 عاماً، والبروفسور/ نجيب غانم، والبروفسور/ حسني الجوشعي، والبروفيسور/ حمود الظفيري، وعشرات بل مئات من أمثال هؤلاء يستعرضون شارع الستين فيما الجماهير والمواطنون البسطاء يستمتعون بتلك الكتائب التي تمر من أمامهم، قالت إحدى النساء متوسطة العمر بينما كنا نصور العرض: "هذه هي الكتائب الحقيقية، مهندسون، أطباء، صيادلة، أكاديميون، طلاب وطالبات، عمال، عسكر، كل الأزياء والألوان اليوم هي لصالح الثورة".
معاناة مواطن أراد حضور الكرنفال
بدخول الثورة الشعبية السلمية في اليمن شهرها الرابع، مايو 2011، وجدت السلطة نفسها أمام تحد كبير، إزاء قدوم العيد الواحد والعشرين لتحقيق الوحدة اليمنية، ومثلها المعارضة والثوار، إذ صار من المعلوم أن من يحتفل أولاً هو من آلت إليه أسباب النجاح.
السلطة وكعادتها في التفريخ واستنساخ الأشباه والنظائر لكل منتج وطني، بغرض إفراغه من مضمونه، عجزت هذه المرة عن إعداد ما يمكن أن يحفظ لها ماء وجهها، فضلا عن إلحاق الهزيمة بمناوئيها الذين كبدوها خسائر فادحة في 13 جمعة منذ اندلعت ثورة الشعب السلمية. فبالإضافة إلى احتلالها المبكر لميداني التحرير والسبعين في صنعاء، فقد عانى المواطنون صبيحة عيد الوحدة من قطع للطرقات المؤدية إلى شارع الستين من جميع الجهات، وعلى مسافة بعيدة، باعتبار ذلك خطوة مهمة لتقليص الزحف نحو ساحة العروض الجديدة كما أطلق عليها الثوار.
"سامي عبدالرحمن" مواطن يسكن في "دار سلم" على بعد أكثر من 12 كم من شارع الستين، خرج من بيته غير ملتفت لأخبار المبادرة الخليجية ونتائجها، تحدث للمصدر عن معاناته في الوصول إلى مكان الاحتفال، فقد لقي مع عائلته الكثير من العنت والمعاناة والشتم، واضطروا أن يدفعوا للسائق ضعف ما يستحقه المشوار ـ حد قوله. مضيفاً: "جاءتني ابنتي الصغيرة، بينما كنت في البيت استعد للخروج مع الأهل لحضور الاحتفال، لتخبرني بالعاجل على قناة سهيل: بلاطجة صالح يقطعون كل الشوارع المؤدية لشارع الستين"، كان الخبر كما يقول سامي بمثابة رسالة سلبية ضد قناعته كشخص يتأهب للحضور منذ أعلن شباب الثورة نيتهم إقامة احتفال جماهيري بمناسبة عيد الوحدة. حينها كما قال سامي وهو مختص تسويق بدون عمل رسمي: "عزمت وتوكلت على الله مهما كانت العراقيل، بل قلت في نفسي: لو أن كل مواطن قرر عدم الذهاب اليوم بسبب التقطعات، لبقي المعتصمون في ساحة التغيير وحدهم، وكان هذا هو الحافز الرئيسي لعزمنا أنا والأهل، بالإضافة إلى كون حضور فعاليات الثوار هي أقل واجب نقوم به تجاه مطالبهم التي هي مطالبنا جميعاً.

من أمام بيته استقل سامي أول تاكسي دون أن "يشارطه" أو يحدد له وجهة السير، خشية وجود مخطط يتزامن وهذه التقطعات، وأخبر السائق بأنه يريد التوجه إلى شارع هائل سعيد. مع تجاوز السيارة شارع السبعين المغلق أصلا منذ أشهر، فوجئ سامي بأن الدخول من نفق الستين تقاطع شارع حدة كان ممنوعا، واضطرت السيارة وغيرها للانعطاف يمينا باتجاه شارع حدة. ومع علمه المسبق أن جولة المالية مغلق كما جاء في شريط "سهيل" الإخباري، فقد قرر النفاذ إلى شارع جيبوتي ومنه إلى الستين ثم جولة عصر، إلا أنه فوجئ أن الاتجاه إجباري باتجاه شارع الجزائر وليس أمامه إلا العودة أو المضي في نفس الاتجاه، اتخذ السائق من الشوارع الفرعية بحسب توجيه سامي له، كونه كان يمشي ببطء ويتظاهر بعدم معرفته للطريق، حتى وصل إلى شارع عمان ومنه إلى الزبيري "مربض البلاطجة" كما وصفه سامي. إذا به ينعطف من الزبيري باتجاه الدائري الغربي ليعود إلى جولة كنتاكي مرة أخرى من فتحة في الدائري مقابلة لشارع نواكشوط، وبوصوله سالما إلى كنتاكي وجد سامي عبدالرحمن وعائلته أمامهم سرباً من السيارات متوقفة أمامهم بسبب زحمة المركبات.
لم يخف سامي هاجسه الذي كان يراوده خلال مسيرته الطويلة من بيته حتى وصوله أمام مدرعات الأمن المركزي بجولة كنتاكي، وتوقعاته غير الإيجابية بطبيعة الحال، لكنه وبحسب تعبيره ما إن وصل إلى الخط الأخضر بعد كنتاكي، بدأ بالدردشة مع السائق "الغشيم":
- بالله عليك، يضعوا هذه الحواجز كلها ويقطعوا الشوارع، ما يتركوا الناس يطلبوا الله!!
- من هم؟ المعتصمين؟؟!
- المعتصمين!! المعتصمين قطعوا الشوارع من دار سلم إلى الدائري! الله يسامحك..
- والله مانا داري..
مرت حوالي عشر دقائق على هذا الحوار العقيم، قبل أن تتحرك السيارات، المتجهة بطبيعة الحال إلى ساحة العروض، حيث لا منفذ غير كنتاكي يمكن أن يقودك إلى الستين، عندها أصدر سامي توجيهاته للسائق بشجاعة: "أكمل المشوار إلى شارع الستين، الحفل قارب على البدء، هيا بسرعة"..
يقول سامي: "حتى ابنتي الصغري بدأت بترديد شعارات إسقاط النظام، بل ومحاكمة السفاح".
الوجوم والذهول والسخط كان سيد ذلك اليوم الذي أعقب مبيت اليمنيين بارتياح لتوقيع المعارضة على مبادرة الخليج الخامسة أو السادسة، ليفاجأوا بخطوات تصعيدية على الأرض، من قبل من يسمون أنفسهم أنصار ومؤيدي الرئيس والرافضين توقيعه المبادرة.
قال سامي: "كنت أسأل قطاع الطريق: ماذا تريدون؟ يقولون: نريد منع الرئيس من توقيع المبادرة!!، أقول لهم: وأنا ما دخلي خلونا نمشي طريقنا هداكم الله.. لكنهم يرفضون"..
ما فوجئ به صديقنا كما يقول هو اتصال أحد زملائه "عبد الخالق" يحثه على الإسراع، حتى يجد له موطئ قدم وسط تلك الجموع الزاحفة منذ الصباح الباكر. "بكيت من شدة الفرح، وأي سرور أكبر من أن يشاهد بأم عينه هذا التحدي، في يوم عجز فيه صالح ومليارات الشعب من حشد أي جمع يحفظ الكرامة لهم" قالها سامي بعينيين دامعتين.
33 عاماً هو عمر سامي، ومنذ ذلك التاريخ وهو يرى مشاهد متكررة في كثير من المناسبات وزعيم واحد هو علي صالح، لذا فقد ربط إصراره هذه المرة برغبته في أن يرى شيئا مغايرا للأنماط التي مل من سماعها ومشاهدتها. كما أنه ترك لعنانه الخيال حين سألته قبيل الاحتفال عن توقعاته وأمنياته في ذلك الصباح الجميل، فأخذ يكسر قواعد الملل في تصوارته للحفل الجماهيري الشعبي الحقيقي، وتحدث كما لو أنه هو من قام بإدارة وتخطيط وتنفيذ ذلك الكرنفال الرائع والبهيج.
عشرات الآلاف مثل سامي، أُقفلت في وجوههم الشوارع المؤدية إلى الستين، شارع المطار، التحرير، جولة المالية، جولة المصباحي، جولة عصر... إلخ. الجميع لقي مالقيه سامي عبد الرحمن، وكابدوا ما كابده ودفعوا مبالغ مضاعفة، بل إن بعضهم عندما سدت في وجهه المنافذ أوقف سيارته ومشى على الأقدام، حتى يجد وسيلة مواصلات توصله إلى مقصد عزمه مع الثوار، كما نقلت المصادر استشهاد شاب في شارع المطار وجرح آخرين بسبب هذه التقطعات..
الزميل/ محمد اليافعي، أوقف سيارته جوار بقالة في أحد الشوارع، بعد أن طاف شارع الروضة وشارع النصر ثم شارع المطار، وكلها مقطعة، عجز الزميل عن إيجاد منفذ، بالإضافة إلى نفاذ البنزين المعدوم أصلا، ترك سيارته في الشارع واتصل بأخيه ليعيد السيارة إلى البيت، لم تنته القصة إلى هنا، مشى اليافعي باتجاه المواصلات العامة (الباص)، انتهى به المطاف في شارع العدل، كان ذلك بعد صلاة الظهر، بل وقادته لحظات الانتظار في الباص إلى استماع مالا يرضيه من السب والشتم واللعن والقذف وكل أنواع الهجوم ليس أقلها إشهار المسدس في وجهه وهو في مؤخرة الباص (14) راكب، من قبل أحد البلاطجة الذين اشتاطوا غضبا من الكرنفال الشبابي الشعبي الكبير، فجعل يكيل الشتائم ويكرر سباب واتهامات رئيسه صالح. حين قاومه الزميل اليافعي وأراد إيقافه عند حده أشهر في وجهه المسدس، لولا تدخل البعض وبسالة الزميل ليغادر وقد أوسع الساحة وأهلها ذكوراً وإناثاً.

الإعلاميون حضور متميز
لا يجمعهم مكان ولا تضمهم كتيبة من تلك الكتائب الاستعراضية، إنهم زملاء المهنة أصحاب الصورة وأرباب الأقلام، فوق المنصة، وسط شارع الستين، بين الكتائب، على أسطح العمارات، مستشفى العلوم، جامعة اليمن، سكن أبو لحوم، فوق لوحات اليونيبول، أعمدة الإنارة، بين الجماهير.. بكاميراتهم وأقلامهم وأوراقهم ومسجلاتهم وأجهزتهم، في كل مكان تجدهم، لكل حدث يرصدون، ومع كل لقطة يتحركون. الثورة ثورتهم، والمهمة مهمتهم، بغيرهم لن يصل صوت الثورة وصورتها، وبدونهم لن يسمع العالم هدير الجماهير. من كل القنوات والصحف والإذاعات والمواقع الإليكترونية ووكالات الأنباء، وصفحات الفيس بوك والتويتر ومواقع الهواة والصفحات الشخصية، والنشرات المحلية للائتلافات والحركات الرجالية والنسوية وغيرها.
وخلاصة القول: إن جنود الثورة المجهولين أكثر من الظاهرين.
 

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد