رسائل الإمام الشهيد حسن البنا (الحلقة التاسعة)

2012-07-31 00:39:44 أخبار اليوم/ خاص


منهج الإخوان وميزانهم
أنت إذا رجعت تاريخ النهضات في الأمم المختلفة شرقية وغربية قديما وحديثا , رأيت أن القائمين بكل نهضة موفقة نجحت وأثمرت كان لهم منهاج محدود عليه يعملون وهدف محدود إليه يقصدون .. وضعه الداعون إلى النهوض وعملوا على تحقيقه ما امتد بهم الأجل وأمكنهم العمل , حتى إذا حيل بينهم وبينه وانتهت بهم تلك الفترة القصيرة فتره الحياة في هذه الدنيا , خلفهم من قومهم غيرهم يعملون على منهاجهم ، ويبدءون من حيث انتهى أولئك ، لا يقطعون ما وصل ، ولا يهدمون ما بنو ، ولا ينقضون ما أسسوا وشادوا ، ولا يخربون ما عمروا . فإما زادوا عمل أسلافهم تحسينا ، أو مكنوا نتائجه تمكيناً ، وإما تبعوهم على آثارهم فزادوا البناء طبقة وساروا بالأمة شوطاً إلى الغاية حيث يصلون بها إلى ما تبتغي ، أو ينصرفون راشدين ويخلفهم غيرهم . وهكذا دواليك حتى تحقق الآمال وتصدق الأحلام ويتم النهوض ويثمر الجهاد وتصل الأمة إلى ما إليه قصدت وله عملت , (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) .
راجع تاريخ الهيئات والشعوب تر هذا القول واضحا بينا ، وأن أساس النجاح في كل نهضاتها منهج محدود وقوم يعملون في حدود هذا المنهج ، لا يملون ولا يفترون ولايسأمون ولا يمتنون ، ذلك واضح جلي في الخطوات التي سلكتها دعوة الإسلام الأولى ، فقد وضع الله لها منهاجاً محدوداً يسير بالمسلمين الأولين رضوان الله عليهم إليه ..دعوة في السر .. ثم إعلان بهذه الدعوة ونضال في سبيلها لا يمل .. ثم هجرة إلى حيث القلوب الخصبة والنفوس المستعدة .. فإخاء بين هذه النفوس وتمكين عرى الإيمان في قلوبها ..ثم نضال جدي وانتصاف من الباطل للحق . وهذا أبو بكر يريد أن يخرج من مكة إلى المدينة فيأمره النبي صلى الله عليه وسلم  أن ينتظر حتى يأتيه هو إذن الله بذلك . حتى إذا تمت الخطوات في القسم الأول من منهاج الدعوة ، وهى التي أنيطت بالرسول صلى الله عليه وسلم  تشريعاً وتطبيقاً ، أنزل الله قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) (المائدة:3).
ثم جاء   بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين من نقلوا هذا النموذج الكامل من جزيرة العرب إلى غيرها من بلدان العالم لتكون كلمة الله هي العليا , وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وأنت إذا رجعت بذاكرتك إلى تاريخ الفرق الإسلامية ، وإلي الأدوار التي سبقت ، وقارنت قيام الدولة العباسية في الشرق ، ثم إلى نهضة الدول الحديثة الأوربية من فرنسا وايطاليا وروسيا وتركيا ـ سواء في الدور الأول وهو دور تكوين الوحدات وتأسيس الحكومات أو في هذا الدور وهو دور تكوين المبادىء ومناصرة النظريات ـ لرأيت ذلك يخضع إلى مناهج معروفة الخطوات تؤدى إلى النتيجة الحتمية التي تعمل لها الأمة .
 أعتقد يا عزيزي أن كل انقلاب تاريخى وكل نهضة في أمة تسير طبق هذا القانون .. حتى النهضات الدينية التي يرأسها الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم ، إلا أن هذه النهضات يرسم منهاجها الحق تبارك وتعالى ويهدى الرسول ومن ورائه قومه ويرشدهم إلى خطوات المنهج خطوة خطوة ، كل خطوة في وقتها المناسب ، ويؤيدهم في كل ذلك بنصره .. فتكون النهضة موفقه لا محالة , (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21) , ومن أين يأتي الخطأ إذا كان واضع المنهج العليم الخبير ومنفذه معصوم من الزلل محفوظ من الخطأ مؤيد بالتوفيق والنصرـ ومن هنا كانت النبوات رحمةً للعالمين ـ ؟
هذا كلام أعتقد أن القراء فيه قسمان : قسم درس تاريخ الأمم وأطوار نهوضها فهو مؤمن به معتقد له ، وقسم لم تتح له هذه الفرصة فإن شاء ليعلم أني لم أقل إلا الحق وإن شاء وثق فما أريد إلا الإصلاح ما استطعت .  
 كان ذلك في النهضات الموفقة ، فهل سارت نهضتنا وفق هذا القانون الكوني والسنة الاجتماعية ..؟
ذلك ما أشك فيه كثيراً ، فإني ألاحظ أن خلق التسرع المركوز في طباعنا ، وسرعة التأثر وهياج العواطف الذي يبدو فينا واضحاً ، وغيرهما من أسباب اجتماعية وغير اجتماعيه .. جعلت نهضتنا فورات عاطفية تشتد وتقوى بقوة المؤثر الوقتي وشدته ثم تخمد وتزول كأن لم يكن شىء . ولئن كانت الغاية التي نعمل لها جميعاً واضحة معروفة للكثيرين فأنا واثق من أمرين يلازمان هذه المعرفة :
الأمر الأول : أن الوسائل غير معروفة ولا محدودة ، وقد تكون متعاكسة يخبط بعضها بعضاً ونحن لا نشعر .
والأمر الثاني : أن الصلة منقطعة تماماً بين السابق اللاحق .. يصل السابق إلى نصف الطريق فإذا جاء اللاحق لم يتبعه لإنقطاع الصلة بينهم ، فيبدأ طريقاً جيداً قد يصل فيه إلى مقدار ما وصل سابقه وقد يقصر عنه وقد يسبق قليلاً ، ولكنه على كل حال لا يصل بالأمانة إلى النهاية لأن أعمار الأفراد قصيرة بالنسبة لأعمار النهضات والشعوب .
ونحن نتصور أن الواحد يستطيع أن يحقق للأمة كل ما تبتغي ، وهى فكرة خيالية وخدعة نفسية عاطفية يجب أن تزول من نفس كل عامل حتى ينتفع بها عمل سلفه .
هذا استطراد لابد منه وبعده أقول لك إن للإخوان المسلمين منهاجاً محدوداً يتابعون السير عليه ويزنون أنفسهم بميزانه ويعرفون بين الفينة والفينة أين هم منه . فإذا سألتهم عن أصول هذا المنهاج النظرية ما هي؟ .. فإني أجيبك في صراحة تامة : هو الأصول و القواعد التي جاء بها القرآن . فإذا قلت وما وسائلهم و خطواتهم العملية أقول لك في صراحة كذلك : هي الوسائل والخطوات التي أثرت عن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وأما بعد ، فبهذه الكلمة تنتهي تلك السلسلة المجملة من الحديث عن الإخوان المسلمين العمليين . وأرجو أن يكون لها أثرها المنشود في نفس قرائنا الكرام ، فيؤازروا أولئك القوم الذين وقفوا كل شيء في سبيل الله والدعوة ، وينضموا إليهم ليساهموا معهم في هذه النهضة الموفقة ، التي يكسب العامل فيها كل يوم نصراً جديداً ، إن لم يؤده إلى الفتح فسيؤدي إليه من بعده بفضل مجهوده إن شاء الله :
 (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة:105) .

بين الأمس واليوم
1 ـ رسـالة النبـي الأمـين
 
منذ ألف و ثلاثمائة سنة و سبعين عاما نادى محمد بن عبد الله النبي الأمي في بطن مكة و على راس الصفا :
 (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف:158) .
فكانت تلك الدعوة الجامعة حدا فاصلا في الكون كله , بين ماض مظلم , و مستقبل باهر مشرق , و حاضر زاخر سعيد , و إعلانا واضحا مبينا لنظام جديد شارعه الله العليم الخبير و مبلغه محمد البشير النذير , و كتابه القرآن الواضح المنير , و جنده السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار , و الذين اتبعوهم بإحسان , و ليس من وضع الناس , و لكنه صبغة الله , و من أحسن من الله صبغة :
 (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ , صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ) (الشورى:52-53) .
 
 
2 ـ منهاج القرآن الكريم في الإصلاح الاجتماعي
 
و القرآن هو الجامع لأصول هذا الإصلاح الاجتماعي الشامل , و قد أخذ يتنزل على النبي صلى الله عليه و سلم , ويعلن به المؤمنين بين الآن و الآن بحسب الوقائع و الظروف و المناسبات 
 (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا , وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) (الفرقان:32-33) .
حتى اكتمل به الوحي و حفظ في الصدور و السطور في مدى اثنتين و عشرين سنة و نيفا , و قد جمع الله فيه لهذه الأمة تبيان كل شيء , و أصول الإصلاح الاجتماعي الكامل الذي جاء به تكاد تنحصر في هذه الأصول :
 
أ ـ الربانية .
ب ـ التسامي بالنفس الإنسانية .
ج ـ تقرير عقيدة الجزاء .
 د ـ إعلان الأخوة بين الناس .
هـ ـ النهوض بالرجل و المرأة جميعا , و إعلان التكافل و المساواة بينهما , و تحديد مهمة كل منهم تحديدا دقيقا .
و ـ تأمين المجتمع بتقرير حق الحياة و الملك و العمل و الصحة و الحرية و العلم و الأمن لكل فرد و تحديد موارد الكسب .
ز ـ ضبط الغريزتين : غريزة حفظ النفس , و حفظ النوع , و تنظيم مطالب الفم و الفرج
ح ـ الشدة في محاربة الجرائم الأصلية .
ط ـ تأكيد وحدة الأمة و القضاء على كل مظاهر الفرقة و أسبابها .
ي ـ إلزام الأمة الجهاد في سبيل مبادئ الحق التي جاء بها النظام .
ك ـ اعتبار الدولة ممثلة للفكرة و قائمة على حمايتها , و مسؤولة عن تحقيق أهدافها في المجتمع الخاص , و إبلاغها للناس جميعا .
 
 
3 ـ الشـعائر العـملية لهذا النظـام
 
و قد خالف النظام القرآني غيره من النظم الوضعية و الفلسفات النظرية فلم يترك مبادئه و تعاليمه نظريات في النفوس , و لا أراء في الكتب , و لا كلمات على الأفواه و الشفاه , و لكنه وضع لتركيزها و تثبيتها و الانتفاع بآثارها و نتائجها مظاهر عملية , و ألزم الأمة التي تؤمن به و تدين له بالحرص على هذه الأعمال و جعلها فرائض عليها لا تقبل في تضييعها هوادة , بل يثيب العاملين و يعاقب المقصرين عقوبة قد تخرج بالواحد منهم من حدود هذا المجتمع الإسلامي و تطوح به إلى مكان سحيق .
و أهم هذه الفرائض التي جعلها هذا النظام سياجا لتركيز مبادئه هي :    
 
أ ـ الصلاة و الذكر و التوبة و الاستغفار...الخ .
ب ـ الصيام و العفة و التحذير من الترف .
ج ـ الزكاة و الصدقة و الإنفاق في سبيل الله .
 د ـ الحج و السياحة و الرحلة و الكف و النظر في ملكوت الله .
هـ ـ الكسب و العمل و تحريم السؤال .
و ـ الجهاد و القتال و تجهيز المقاتلين , و رعاية أهليهم و مصالحهم من بعدهم .
ز ـ الأمر بالمعروف و بذل النصيحة .
ح ـ النهي عن المنكر ومقاطعة مواطنه و فاعليه .
ط ـ التزود بالعلم و المعرفة لكل مسلم و مسلمة في فنون الحياة المختلفة كل فيما يليق به .
ي ـ حسن المعاملة و كمال التخلق بالأخلاق الفاضلة .
ك ـ الحرص على سلامة البدن و المحافظة على الحواس .
ل ـ التضامن الاجتماعي بين الحاكم و المحكوم بالرعاية و الطاعة معا .
 
فالمسلم مطالب بأداء هذه الوجبات , و النهوض بها كما فصلها النظام القرآني , و عليه ألا يقصر في شيء منها , و قد ورد ذكرها جميعا في القرآن , و بينتها بيانا شافيا أعمال النبي و أصحابه و الذين اتبعوهم بإحسان في بساطة و وضوح , كل عمل فيها أو عدة أعمال تقوي و تركز أو عدة مبادئ من النظريات السابقة التي جاء هذا النظام لتحقيقها و إفادة الناس بنتائجها و آثارها .
 
 
4- الـدولـة الإسـلامـية الأولــى
 
على قواعد هذا النظام الاجتماعي القرآني الفاضل قامت الدولة الإسلامية الأولى تؤمن به إيمانا عميقا و تطبقه تطبيقا دقيقا و تنشره في العالمين , حتى كان الخليفة الأول رضي الله عنه يقول : ( لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله ) و حتى أنه ليقاتل مانعي الزكاة و يعتبرهم مرتدين بهدمهم هذا الركن من أركان النظام و يقول : ( والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم ما استمسك السيف بيدي ) .
و كانت الوحدة بكل معانيها و مظاهرها شمل هذه الأمة الناشئة , فالوحدة الاجتماعية شاملة بتعميم نظام القرآن و لغة القرآن , و الوحدة السياسية شاملة في ظل أمير المؤمنين و تحت لواء الخلافة في العاصمة , و لم يحل دونها أن كانت الفكرة الإسلامية فكرة لا مركزية في الجيوش , و في بيوت المال , و في تصرفات الولاة , إذ أن الجميع يعملون بعقيدة واحدة و بتوجيه عام متحد .
و لقد طردت هذه المبادئ القرآنية الوثنية المخرفة في جزيرة العرب و في بلاد الفرس فقضت عليها , و طاردت اليهودية الماكرة فحصرتها في نطاق ضيق و قضت على سلطانها الديني و السياسي قضاء تاما , وصارعت المسيحية حتى انحصر ظلها في قارتي آسيا و أفريقيا و انحازت إلى أوربا في ظل الدولة الرومانية الشرقية بالقسطنطينية , و تركز بذلك السلطان الروحي والسياسي بالدولة الإسلامية في القارتين العظيمتين , و ألحت بالغزو على القارة الثالثة تهاجم القسطنطينية من الشرق وتحاصرها حتى يجهدها الحصار , و تأتيها من الغرب فتقتحم الأندلس وتصل جنودها المظفرة إلى قلب فرنسا و إلى شمال و جنوب إيطاليا , و تقيم في غرب أوربا دولة شامخة البنيان مشرقة بالعلم و العرفان , و يتم لها بعد ذلك فتح القسطنطينية نفسها وحصر المسيحية و حصر المسيحية في هذا الجزء المحدود من قلب أوربا , وتمخر الأساطيل الإسلامية عباب البحرين الأبيض و الأحمر فيصير كل منهما بحيرة إسلامية , وتقبض قوات الدولة الإسلامية بذلك على مفاتيح البحار في الشرق والغرب وتتم لها السيادة البرية و البحرية .            
 
وقد اتصلت بغيرها من الأمم ، ونقلت كثيراً من الحضارات ، ولكنها تغلبت بقوة إيمانها ومتانة نظامها عليها جميعاً ، فعربتها أو كادت ، واستطاعت أن تصبغها وأن تحملها على لغتها ودينها بما فيهما من روعة وحيوية وجمال ، ولم يمنعها أن تأخذ النافع من هذه الحضارات جميعاً ، من غير أن يؤثر ذلك في وحدتها الاجتماعية أو السياسية .
 
 
5 ـ عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية
 ومع هذه القوة البالغة والسلطان الواسع فإن عوامل التحلل فإن عوامل التحلل قد أخذت تتسلل إلى كيان هذه الأمة القرآنية , وتعظم و تنتشر و تقوى شيئا فشيئا حتى مزقت هذا الكيان وقضت على الدولة الإسلامية المركزية في القرن السادس الهجري بأيدي التتار , وفي القرن الرابع عشر الهجري مرة ثانية , وتركت وراءها في كلتا المرتين أمما مبعثرة و دويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة و تتوثب للنهوض .
 
و كان أهم هذه العوامل : 
 
أ ـ الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه , مع التحذير الشديد الذي جاء به الإسلام في ذلك و التزهيد في الإمارة و لفت النظر إلى هذه الناحية التي هي سوس الأمم و محطمة الشعوب و الدول : (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46) , و مع هذه الوصية البالغة بالإخلاص لله وحده في القول و العمل و التنفير من حب الشهرة و المحمدة .

ب ـ الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة , وإهمال كتاب الله و سنة الرسول صلى الله عليه وسلم , و الجمود و التعصب للآراء و الأقوال , والولع بالجدل والمناظرات و المراء , وكل ذلك مما حذر منه الإسلام ونهى عنه أشد النهي , حتى قال الرسول : (ما ضل قوم بعدي على هدى إلا أوتوا الجدل) .

ج ـ الانغماس في ألوان الترف والنعيم , والإقبال على المتعة والشهوات , حتى أثر عن حكام المسلمين في كثير من العصور ما لم يؤثر عن غيرهم , مع أنهم يقرءون قول الله تبارك وتعالى :
 (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16) .

د ـ انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب، من الفرس تارة، والديلم تارة أخرى، والمماليك والأتراك وغيرهم ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراكهم لمعانيه , مع أنهم يقرءون قول الله تبارك و تعالى :
 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118).

هـ ـ إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة , مع أن الإسلام يحثهم على النظر في الكون واكتناه أسرار الخلق والسير في الأرض , ويأمرهم أن يتفكروا في ملكوت الله : (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (يونس:101) .

و ـ غرور الحكام بسلطانهم، والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم ، حتى سبقتهم في الاستعداد والأهبة، وأخذتهم على غرة , وقد أمرهم القرآن باليقظة و حذرهم من مغبة الغفلة و اعتبر الغافلين كالأنعام بل هم أضل : 
 (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179).

ز ـ الانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم ، والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم ، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع , مع النهي الشديد عن التشبه بهم و الأمر الصريح بمخالفتهم و المحافظة على مقومات الأمة الإسلامية والتحذير من مغبة هذا التقليد حتى قال القرآن الكريم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100) .
و قال في آية أخرى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) (آل عمران:149) .
 
 
6 ـ صــراع سيـاسـي
 
( أ ) محاولات القضاء على الأمة الإسلامية : أخذت هذه العوامل تعمل في كيان الدولة الإسلامية و الأمة الإسلامية عملها , و ظنت الأمم الموتورة أن قد سنحت الفرصة لتأخذ بثأرها و تقضي على هذه الدولة الإسلامية التي فتحت بلادها من قبل , و غيرت معالم أوضاعها في كل شؤون الحياة , فانحدر التتار كالسيل الدافق على الدولة الإسلامية , و أخذوا يقطعون أشلاءها جزءا جزءا حتى وصلوا إلى بغداد قلب الخلافة العباسية , و وطئوها بنعالهم في شخص الخليفة المستعصم , و بذلك تبدد شمل الدولة و انتثر عقد الخلافة لأول مرة و تفرقت الأمم إلى دويلات صغيرة , فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين و منبر , و تنبهت المسيحية في أوربا و جمعت جموعها و قذفت الشرق المسلم في آسيا و أفريقيا بكتائبها في تسع حملات صليبية اشتملت على خير ما فيها من فرسان و ملوك و عتاد , و تمكنت هذه القوات الزاحفة من إقامة دولة صليبية في بيت المقدس و تهديد أمم الإسلام في الشرق و الغرب و مهاجمة مصر أقوى هذه الدول إذ ذاك .
 
( ب ) انتصارات متتالية : و لكن الله تبارك و تعالى لم يأذن بعد بانتصار الباطل على الحق , فاستطاعت مصر أن تجمع حولها فلول بعض هذه الدويلات و تقذف بهم في نحر الصليبيين بقيادة صلاح الدين , فتستعيد منهم بيت المقدس و تريهم كيف تكون الهزيمة في حطين , ثم تقف في وجه التتار بقيادة الظاهر بيبرس و تردهم على أعقابهم خاسئين في عين جالوت , ثم تعيد رسم الخلافة من جديد , و يريد الله بعد ذلك أن تقوم للإسلام دولة وارفة الظلال قوية البأس شديدة المراس , تجمع كلمة أهله و تضم تحت لوائها معظم أممه و شعوبه , و يأبى لها علو الهمة إلا أن تغزو المسيحية في عقر دارها , فتفتح القسطنطينية و يمتد سلطانها في قلب أوربا حتى يصل إلى فيينا , تلك هي دولة الأتراك العثمانية .
 
( ج ) بواكير النهضة في أوربا : اطمأنت الدولة الإسلامية تحت لواء العثمانيين إلى سلطانها و استنامت إليه , و غفلت عن كل ما يدور حولها , و لكن أوربا التي اتصلت بأضواء الإسلام غربا بالأندلس و شرقا بالحملات الصليبية , لم تضع الفرصة و لم تغفل عن الاستفادة بهذه الدروس , فأخذت تتقوى و تتجمع تحت لواء الفرنجة في بلاد الغال , واستطاعت بعد ذلك أن تصد تيار الغزو الإسلامي الغربي , و أن تبث الدسائس بين صفوف مسلمي الأندلس , و أن تضرب بعضهم ببعض إلى أن قذفت بهم أخيرا إلى ما وراء البحر أو إلى العدوة الأفريقية , فقامت مقامهم الدولة الإسبانيولية الفتية , و ما زالت أوربا تتقوى و تتجمع و تفكر و تتعلم , و تجوب البلاد و تكشف الأقطار , حتى كان كشف أمريكا عملا من أعمال أسبانيا و كشف طريق الهند عملا من أعمال البرتغال , و توالت فيها صيحات الإصلاح و نبغ بها كثير من المصلحين و أقبلت على العلم الكوني و المعرفة المنتجة المثمرة , و انتهت بها هذه الثورات الإصلاحية إلى تكوين القوميات و تكوين دولة قوية جعلت هدفها جميعا أن تمزق هذه الدول الإسلامية التي قاسمتها أوربا استأثرت دونها بأفريقيا و آسيا , و تحالفت هذه الدول الفتية على ذلك أحلافا رقت بها إلى درجة القداسة في كثير الأحيان .
 
( د ) هجوم جديد : و امتدت الأيدي الأوربية بحكم الكشف و الضرب في الأرض و الرحلة إلى أقصى آفاقها البعيدة , إلى كثير من بلدان الإسلام كالهند و بعض الولايات الإسلامية المجاورة لها , و أخذت تعمل في جد للوصول إلى تمزيق دولة الإسلام القوية الواسعة و أخذت تضع لذلك المشروعات الكثيرة تعبر عنها أحيانا بالمسألة الشرقية , و أخرى باقتسام تركة الرجل المريض , و اخذت كل دولة تنتهز الفرصة السانحة و تنتحل الأسباب الواهية , و تهاجم الدولة الوادعة اللاهية فتنقص بعض أطرافها أو تهد جانبا من كيانها , و استمرت هذه المهاجمة أمدا طويلا انسلخ فيه عن الدولة العثمانية كثير من الأقطار الإسلامية , و وقعت تحت السلطان الأوربي كالمغرب الأقصى و شمال أوربا و استقل فيه كثير من البلاد غير الإسلامية التي كانت تحت سلطان العثمانيين كاليونان و دول البلقان , و كان الدور الختامي في هذا الصراع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 – 1918م الذي انتهى بهزيمة تركيا و حلفائها و بذلك سنحت الرصة كاملة لأقوى شعوب أوربا ( إنجلترا و فرنسا ) و إلى جوارهما ( إيطاليا ) فوضعت يدها على هذا الميراث الضخم من أمم الإسلام و شعوبه , و بسطت سلطانها عليها بأسماء مختلفة من احتلال و استعمار و وصاية و انتداب و تقاسمته على هذا النحو :
 
1 - أفريقيا الشمالية ( مراكش و الجزائر و تونس ) مستعمرات فرنسية , تتخللها منطقة نفوذ دولية في طنجة , و مستعمرات أسبانية في الريف .
 
2 - طرابلس و برقة مستعمرة إيطالية لم تشأ إيطاليا أن تبقي على شيء من آثار الإسلام فيها , ففرضت عليها التجنس بالجنسية الإيطالية و أسمتها إيطاليا الجنوبية , و قذفتها بالآلاف من جياع الأسر و ذئاب البشر .
 
 
3 - مصر و السودان تحت الحماية الإنجليزية لا تملك إحداهما لنفسها من أمرها شيئا .
 
4 - فلسطين مستعمرة إنجليزية أباحت إنجلترا لنفسها أن تبيعها لليهود لينشئوا فيها الوطن القومي الصهيوني .
 
5 - سوريا مستعمرة فرنسية .
 
6 - العراق مستعمرة إنجليزية .
 
7 - الحجاز حكومة ضعيفة متداعية تنتظر الصدقات و تتشبث بالعهود الزائفة و المواثيق الباطلة .
 
8 - اليمن حكومة منزوية و شعب فقير مهدد بالغزو في كل مكان في أي وقت من الأوقات .
 
9 - بقية أقسام الجزيرة العربية إمارات صغيرة يعيش أمراؤها في كنف القناصل الإنجليزية و يقاتلون بفتات موائدهم و تشتعل صدورهم بنيران التحاقد و التباغض , هذا مع الوعود المؤكدة و المواثيق المغلظة التي قطعها الحلفاء لعاهل الجزيرة الملك حسين أن يساعدوه على استقلال العرب و تدعيم سلطان الخلافة العربية .
 
10 - إيران و الأفغان حكومات مضطربة تتوزعها الأطماع من كل مكان فهي تحت كنف هذه الأمة تارة و إلى جانب تلك تارة أخرى .
 
11 - الهند مستعمرة إنجليزية .
 
12 - تركستان و ما جاورها مستعمرات روسية يذيقها البلاشفة مر العذاب .
 
و فيما عدا ذلك فهناك الأقليات الإسلامية المنثورة في كثير من البلدان لا تعرف دولة تلجأ إلى حمايتها , أو حكومة مسلحة تحتمي بجنسيتها كالمسلمين في الحبشة و الصين و البلقان و بلاد أفريقية الوسطى و الجنوبية و الشرقية و الغربية .
وبهذا الوضع انتصرت أوربا في هذا الصراع السياسي , و تم لها ما أرادت من تمزيق الإمبراطورية الإسلامية و الذهاب بدولة الإسلام , و حذفها سياسيا من دائرة الدول الحية العظيمة .
 
( هـ ) إلى القوة من جديد :و لكن هذا العدوان الصارخ و الاستهتار بالعهود و المواثيق أحرج الصدور و أثار النفوس , فهبت هذه الأمم تطالب باستقلالها و تجاهد لاسترداد حريتها و مجدها , و اشتعلت فيها الثورات لهذا المعنى , فثارت تركيا و ثارت مصر و ثارت العراق و سوريا و تكررت الثورات في فلسطين و الريف في بلاد المغرب , و عمت اليقظة في النفوس كل مكان , و وصلت شعوب الإسلام بذلك إلى بعض الحقوق , فاستقلت تركيا في حدودها الجديدة , و اعتبرت مصر و العراق دولتين مستقلتين , و قامت في الحجاز و نجد دولة السعوديين , و حافظت اليمن و إيران و أفغانستان على وضعياتها , المستقلة , و قاربت سوريا أن تسلب الاعتراف باستقلالها , و لفتت فلسطين أنظار العالم إليها بكفاحها , و خطا المسلمون و لا شك خطوات طيبة و أن كانت قليلة و بطيئة نحو الأهداف الكريمة التي قصدوها من استعادة حريتهم و استرداد مجدهم و بناء دولتهم , و لئن اتجهت هذه الخطوات إلى المعنى القومي الخاص و طالبت كل أمة بحقها في الحرية كأمة مستقلة , و تعمد كثير من العاملين لهذه النهضة أن يغفل فكرة الوحدة فإن مصير هذه الخطوات سيكون و لا شك التجمع و عودة الأمة الإسلامية كدولة متحدة تضم شتات شعوب العالم الإسلامي و ترفع راية الإسلام و تحمل دعوته , فليس في الدنيا أمة يجمعها ما يجمع المسلمون من وحدة اللغة و الاشتراك في المصالح المادية و الروحية و التشابه في الآلام و الآمال .
 
( و ) حرب جديدة:و لقد خرجت الدول الأوربية من الحرب العالمية و بذور الحقد و البغضاء متأثرة في صدور الكثير منها , و جاء مؤتمر الصلح و معاهداته لطمات قاسية لبعضها و خيبة أمل مؤلمة لكثير منها , هذا إلى ظهور كثير من الفكر الجديدة , المبادئ المتعصبة شديدة التعصب , و لابد أن تنتهي هذه الحال بهذه الأمم إلى خلاف جديد و حرب طاحنة ضروس تبدد شملهم و تمزق وحدتهم و تعيدهم إلى رشدهم و تردهم عن ظلمهم , و تهب لأمم الإسلام فرصة أخرى تسوي فيها صفوفها و تجمع شملها و تستكمل حريتها و استقلالها و تسترد دولتها و وحدتها تحت لواء أمير المؤمنين :

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد