رسائل الإمام الشهيد حسن البنا (الحادي والخمسون)

2012-09-22 02:14:53 أخبار اليوم/ خاص


و ـ الوفاء بالعهود والمواثيق والشروط:
فإذا كانت هدنة وموثق وعهد وصلح وشرط فالإسلام يشدد في ملاحظة ذلك والمحافظة على صورته ومعناه أدق المحافظة ويتوعد الخالفين من أبنائه إن غدروا ولم يفوا بأشد الوعيد , والآيات والأحاديث في ذلك واضحة محكمة لا تدع مجالا لإباحة نقض العهد بالخيانة فيه وقت القوة وعده قصاصة ورق عند إمكان الخروج عليه بالحيلة ، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ , وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (النحل:91-92) , (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4) , (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء:34) .
وأخرج أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم رضي الله عنهم أن رسول الله "عليه الصلاة والسلام" قال: (من ظلم معاهَدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة).
(قال أهل سمرقند لعاملهم سليمان بن أبي السري : إن قتيبة غدر بنا وظلمنا وأخذ بلادنا , وقد أظهر الله العدل والإنصاف فأذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين ـ وهو يومئذ عمر بن عبد العزيز ـ يشكون ظلامتنا فإن كان لنا حق أعطيناه , فإن بنا إلى ذلك حاجة ، فأذن لهم فوجهوا منهم قوما إلى عمر ، فلما علم عمر ظلامتهم كتب إلى سليمان يقول له: "إن أهل سمرقند قد شكوا إلي ظلما أصابهم ، وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم ، فإذا أتاك كتابي هذا فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم ، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى لمعسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن يظهر عليهم قتيبة" , فاجلس لهم سليمان "جميع بن حاضر" القاضي ، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء فيكون صلحا جديدا أو ظفرا عنوة . فقال أهل السند: بل نرضى بما كان ولا نجدد حربا ، لأن أهل الرأي منهم قالوا: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم وأمنونا وأمناهم فإن عدنا إلى الحرب لا ندرى لمن يكون الظفر ، وإن لم يكن لنا نكون قد اجتنبنا عداوة في المنازعة ، فتركوا الأمر على ما كان عليه ورضوا ولم ينازعوا) .. وهذا منتهى المبالغة في تقصى العدل والوفاء بالعهد.
ز ـ الجزية:
ولسنا نحب أن تمر هذه الكلمات عن موقف الإسلام من الحرب قبل أن نتناول أمر الجزية بكلمة توضح معناها والمقصود منها وتكشف عن حكمتها وكيف أنها أبلغ معاني الإنصاف والمرحمة التي جاء بها الإسلام فنقول:
الجزية ضريبة كالخراج تجبى على الأشخاص لا على الأرض والكلمة عربية مشتقة من الجزاء لأنها تدفع نظير شيء هو الحماية والمنعة ، أو الإعفاء من ضريبة الدم والجندية ، وذهب بعض العلماء إلى أنها فارسية معربة وأصلها "كزيت" ومعناها الخراج الذي يستعان به على الحرب . وقال إن كسرى هو أول من وضع الجزية وعلى هذا فهي نظام في الضريبة نقله الإسلام عن الفارسية ولم يبتكره.
ولقد قرر الإسلام ضريبة الجزية على غير المسلمين في البلاد التي يفتحها نظير قيام الجند الإسلامي بحمايتهم وحراسة أوطانهم والدفاع عنها في الوقت الذي قرر فيه إعفاءهم من الجندية , فهي "بدل نقدي" لضريبة الدم ، وإنما سلك الإسلام هذه السبيل ولجأ إليها مع غير المسلمين من باب التخفيف عليهم والرحمة بهم وعدم الإحراج لهم حتى لا يلزمهم أن يقاتلوا في صفوف المسلمين فيتهم بأنه إنما يريد لهم الموت والاستئصال والفناء والتعريض لمخاطر الحرب والقتال ، فهي في الحقيقة "امتياز في صورة ضريبة" وفى الوقت نفسه احتياط لتنقية صفوف المجاهدين من غير ذوى العقيدة الصحيحة والحماسة المؤمنة البصيرة ومقتضى هذا أن غير المسلمين من أبناء البلاد التي تدخل تحت حكم الإسلام إذا دخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع أسقط الإمام عنهم الجزية , وقد جرى العمل على هذا فعلا في كثير من البلاد التي فتحها خلفاء الإسلام ، وسجل ذلك قواد الجيوش الإسلامية في كتب ومعاهدات لا زالت مقروءة في كتب التاريخ الإسلامي ومنها:
1 - كتاب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حين دخل الفرات وأوغل فيه وهذا نصه: (هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه , إني عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة وما منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا) كتب سنة اثنتي عشرة في صفر.
2 - وفى حمص رد الأمراء بأمر أبي عبيدة ما كانوا أخذوه من الجزية من أهلها وما إليها حين جلوا عنها ليتجمعوا لقتال الروم وقالوا لأهل البلاد إنما: (رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك الآن وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم) ، فكان جواب أهل هذه البلاد: (ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلوا كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء ، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم) ، وكذلك فعل أبو عبيدة نفسه مع دمشق حين كان يتجهز لليرموك.
3 - كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر رضي الله عنهما لرزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان ونصه: (هذا كتاب سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان أن لكم الذمة وعلينا المنعة على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حال ومن استعنا به منكم فله جزاؤه "أي جزيته" في معونته عوضا عن جزائه ، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم ولا يغير شيء من ذلك) شهد سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس وكتب في سنة 18هـ - الطبري.
4 - كتاب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب وهذا نصه: (هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشعارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا جزية على قدر طاقتهم ، ومن حشر منهم في سنة "أي جند منهم في سنة" وضع عنه جزاء تلك السنة ومن أقام فله مثل من أقام من ذلك) ـ الطبري.
5 - العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر وبين شهر براز وقد كتب به سراقة إلى عمر فأجازه واستحسنه وهذا نصه: (هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهر براز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان , أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاروا ولا ينقضوا ، وعلى أرمينية والأبواب الطراء منهم "أي الغرباء" والقناء "أى المقيمون" ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحا على أن يوضع الجزاء "أي الجزية" عمن أجاب إلى ذلك ، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء فإن حشروا "أى جندوا" وضع ذلك عنهم) شهد عبد الرحمن بن ربيعة وسلمان بن ربيعة وبكير بن عبد الله وكتب مرضي بن مقرن وشهد ـ الطبري.
6 - أخيرا أمر الجراجمة فيما ذكره البلاذري فقال: (حدثني مشايخ من أهل إنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل لكام عند معدن الزاج فيما بين بياس وبوقا يقال لها الجرجومة ، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وإنطاكية إلى بطريرك إنطاكية وواليها ، فلما قدم أبو عبيدة إلى إنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم كم وهموا باللحاق بالروم إذ خافوا علي أنفسهم فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم ، ثم إن أهل إنطاكية نقضوا وغدروا فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلمة الفهري فغزى الجرجومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح فصالحوه على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وعيونا ومسالح في جبل لكام وألا يؤخذوا بالجزية , ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح... ولم يؤخذ الجراجمة بالجزية قط حتى أن بعض العمال في عهد الواثق العباس ألزمهم جزية رؤوسهم فرفعوا ذلك إليه فأمر بإسقاطها عنهم).
وبهذا البيان يندفع كل ما يوجه إلى "ضريبة الجزية" من نقد أو اتهام ,وتظهر حكمة الإسلام ورحمة الله بعباده في تشريعاته واضحة لا غموض فيها ولا إبهام.
ح ـ الحث على دوام الاستعداد وكمال الشجاعة إذا تحتم الجهاد:
فإذا كان ولا بد من الحرب لغرض من الأغراض الإنسانية المشروعة التي سبقت الإشارة إليها ، فإن الإسلام يصرح بأن الجهاد والقتال فريضة على كل مسلم (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).
وهو حينئذ أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى والموت في ساحاته "شهادة" توجب الإكبار في الدنيا والجنة في الآخرة ولا يعفى منه إلا العاجزون عنه وعليهم أن يجهزوا غيرهم إن كانوا قادرين على ذلك وأن يخلفوهم في أهليهم بخير (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
وأحاديث النبي محمد "عليه الصلاة والسلام" في ذلك أكثر من أن تحصر وقد باشر هو بنفسه في أكثر من خمس وعشرين معركة كان فيها مثال الشجاعة والنجدة والبأس حتى قال فارس أصحابه علي كرم الله وجهه: (كنا إذا اشتد البأس وحمي الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله "عليه الصلاة والسلام" فيكون أدنانا إلى العدو) وكذلك كان أصحابه رضوان الله عليهم يفعلون , ولا يستطيع أحد أن يرى في هذه الأحكام والأخلاق لمثل ما شرعت له من مقاصد وأغراض إلا أكرم معاني الفضيلة الإنسانية , والجود بالنفس أقصى غاية الجود , وأجمل ما يكون الحق إذا استعان بالقوة , وأفضل ما تكون القوة إذا استُخدمت للحق بالحق.
هل انتشرت دعوة الإسلام بالسيف؟
أولع خصوم الإسلام في كل عصر وبخاصة في هذا العصر بتوجيه هذه التهمة إلى الإسلام ، والإسلام منها براء , فهو لم يكره الناس على الإيمان بالسيف ولم يضعه على رقابهم ليشهدوا بشهادته أو يدينوا بعقيدته فهذه التهمة باطلة من وجوه عدة:
1 - باطلة بشهادة التاريخ:الذي يحدثنا بأن النبي محمداً "عليه الصلاة والسلام" مكث بمكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى دينه كان فيها مضطهدا أشد الاضطهاد حتى من أهله وعشيرته وأقرب الناس إليه ومع ذلك فقد احتمل وصبر وصابر وكان يمر على النفر من أصحابه والأسرة من المؤمنين به يعذبون أشد العذاب فلا يزيد على أن يقول لهم: (صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة) , ومع هذا فقد آمن بالإسلام السابقون الأولون الثابتون من أبنائه وأبرهم به في عهد النبي "عليه الصلاة والسلام" وبعد وفاته أعمق الإيمان وآمن الأنصار وهم أهل المدينة بالنبي "عليه الصلاة والسلام" بمجرد أن تحدث معهم في الموسم وتوافدوا إليه يبايعونه في كل عام حتى كانت بيعة العقبة وعلى أثرها كانت الهجرة وكل ذلك ورسول الله "عليه الصلاة والسلام" لا يقابل أهل العدوان بسيف ولا عصا ولكن يصبر ويحتسب ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وما جاء الإذن بالقتال إلا في السنة الثانية من الهجرة بعد أن كثر خصوم الإسلام من المشركين واليهود وتألبوا عليه وأخذوا يتحرشون به ويكيدون له فأنزل الله هذه الآيات المحكمة وفيها أروع صور الإذن بالقتال لأنبل المقاصد والأغراض (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ , الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:39-40) .
والتاريخ يحدثنا عن أصحاب رسول الله "عليه الصلاة والسلام" أنهم فتحوا البلاد بأخلاقهم وحسن معاملتهم قبل أن يفتحوها بسيوفهم وعدتهم وعددهم ، فلا يتصور أن عددا قليلا من هؤلاء العرب يدك عرش كسرى ويدك ملك قيصر ويرث هذه الإمبراطوريات الضخمة في هذا العدد من السنين بمجرد القوة ، ولا يعقل أن ثمانية آلاف جندي يفتحون إقليما شاسعا كمصر وينشرون فيها دينهم ولغتهم و آدابهم وثقافتهم وعقيدتهم بالإكراه والجبروت ، ولكن بحسن الأحدوثة وجميل العمل ، وها نحن قد رأينا فيما تقدم كيف أن كثيرا من أهل هذه البلاد كانوا يتمنون عودة العرب إليهم بعد جلائهم فكيف يقال بعد هذا إن الإسلام قام على السيف وانتشر بالسيف.
2 - وباطلة بآيات القرآن الكريم:التي تقرر حرية العقيدة وتقول في وضوح وصراحة: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة:256) , كما تقول: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:29) كما تقول: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6) , فهو يلزم المؤمنين إن استجار بهم أحد المشركين أن يبلغوه الدعوة ويوضحوا له مقاصد الإسلام ثم يحرسوه حتى يصل إلى مأمنه ويتركوه ليسلم عن رغبة واقتناع لا عن خوف ورهبة وإكراه..
3 - وباطلة لأن قواعد الإسلام وما جرى عليه العمل به منها تأباها كل الإباء:فأساس الإيمان في الإسلام الفكر والنظر والاطمئنان القلبي (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات:14) ، وأساس المؤاخذة في الإسلام بلوغ -الدعوة على وجه يدعو إلى النظر ، والتقليد في الإيمان ليس أساسا صحيحا له فضلا عن الإكراه عليه حتى قال بعض العلماء المتأخرين في منظومة فنية:
إذ كل من قلد في التوحيد     إيمانه لم يخل من ترديد
وقول المكره في الإسلام مردود عليه ولا يؤاخذ على عمله ، فالدين الذي يعتبر العقل والحرية أساسا للاعتقاد والمسئولية لا يمكن أن يقال فيه إنه يقوم على السيف وينتشر به ، وإن كان قد شرع الحرب والقتال لما تقدم من الأغراض التي لا يعترض عليها إلا واهم أو مكابر , وعلامة الإيمان الحق الاطمئنان إليه ، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ , الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد:28-29) .
هل الإسلام وحده هو الذي أوصى بالسيف لحماية الحق؟
وليس الإسلام وحده هو الذي أشار إلى القتال والحرب والجهاد كوسيلة لحماية الحق ، بل إن الشرائع
السابقة واللاحقة كلها جاءت بذلك..
فأسفار التوراة التي يتداولها اليهود اليوم طافحة بأنباء القتال والجهاد والحرب والتخريب والتدمير والهلاك والسبي ، وهى تقرر شريعة القتال والحرب ولكن في أبشع صورها فقد جاء في سفر التثنية في الإصحاح العشرين منه عدد 10 وما بعده ما يأتي بنصه: (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير ويستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فتغنمها لنفسك ، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك ، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا والتي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا ، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تبقي منها نسمة ما , بل تحرمها تحريما ـ الحيثيين والأموريين والكنعانيين والفيرزيين والحويين واليوسيين كما أمرك الرب إلهك).
وفى إنجيل متى المتداول بأيدي المسيحيين في الإصحاح العاشر عدد25 وما بعده يقول: (لا تظنوا أني جئت لألقى سلاما على الأرض بل سيفا , فإنني جئت لأفرق الإنسان ضد ابنه والابن ضد أبيه والكنة ضد حماتها .. وأعداء الإنسان أهل بيته ، من أحب أبا أو أما اكثر مني فلا يستحقني ، ومن أحب ابنا أو ابنة اكثر مني فلا يستحقني ، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني ، من وجد حياته يضيعها ، ومن أضاع حياته من أجلى يجدها).
والقانون الدولي العصري قد اعترف بالظروف والأحوال التي تشرع فيها الحرب ووضع لها قواعدها ونظمها.
وما جاء به الإسلام في هذا الباب أفضل وأدق وأرحم وأبر بالسلام من كل هذا ، فلماذا تتوجه إليه الشبهات وليس غيره سبيلا إلى السلام؟ (اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:16) .

خطوات الإسلام وما وضع من ضمانات لإقرار السلام
وفى وسعنا بعد هذه النظرات أن نقول: إن الإسلام كان أول وأكمل تشريع خطا في سبل إقرار السلام العالمي أوسع الخطوات ، ورسم لاستقراره أوفى الضمانات التي لو أخذت الأمم بها ، وسلك الحكام والزعماء والساسة نهج سبيلها لأراحوا واستراحوا ومن ذلك:
1 - تقديس معنى الإخاء بين الناس والقضاء على روح التعصب وقد تقدم موقف الإسلام من ذلك في الفصل السابق.
2 - الإشارة بفضل السلام وطبع النفوس بروح التسامح الكريم وقد تقدم في أول هذا الفصل موقف الإسلام في ذلك مع افتراض الوفاء وتحريم الغدر ونقض العهود والمواثيق.
3 - حصر فكرة الحروب في أضيق الحدود ، وتحريم العدوان بكل صوره وإشاعة العدل والرحمة واحترام النظام والقانون حتى في الحرب نفسها ، وللإسلام في ذلك القدح المعلى ويقول القرآن الكريم تأكيدا لهذا المعنى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8) .
4 - التأمين المسلح وقد سبق الإسلام كل الخطوات العصرية إليه في قول القرآن الكريم (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9) ، ولقد ذكر رسول الله "عليه الصلاة والسلام" ما كان في الجاهلية من هذا المعنى وهو حلف الفضول بكل خير وقال "عليه الصلاة والسلام" عنه: (لقد شهدت في بيت عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم) ثم قال: (ولو سئلت به في الإسلام لأجبت).
أين خطوات زعماء هذا العصر من هذه الخطوات؟
وبعد : فأين خطوات زعماء هذا العصر وساسته وعلمائه ومشرعيه وفلاسفته من هذه النظرات وماذا صنعوا لإقرار السلام على الأرض وقد شهدت الدنيا في ربع قرن حربين عالميتين طاحنتين أكلتا الأخضر واليابس وقامت بعد الحرب الأولى "عصبة الأمم" لإقرار السلام فكتب لها أن تموت قبل أن تولد ، ووأدها الذين شهدوا مولدها ، بالأهواء السياسية والأطماع الاستعمارية فلم تستطع أن تعالج قضية واحدة من قضايا الخلاف بين الأمم التي اشتركت فيها ووقعت ميثاقها ، ولم تلبث إلا ريثما تهيأت الأم والشعوب للحرب من جديد ، وقيل إن سبب فشلها خلو ميثاقها من النص على العقوبة العسكرية للمخالفين.
وعقب الحرب العالمية الثانية قامت هيئة الأمم المتحدة وأنشئ مجلس الأمن واستكمل النقص التشريعي في بناء عصبة الأمم الموءودة ومضى على ذلك وقت طويل ، ولا زال الخلاف يشتد أثره ويقوى مظهره , ولم تنجح الهيئة ولا المجلس إلى الآن في علاج قضية أو تسوية خلاف , وليس وراء ذلك إلا الحرب الثالثة.
وليس معنى الحرب الثالثة شيئا إلا فناء الأرض ومن عليها فنحن في عصر القنبلة الذرية.
فهل تفيء الإنسانية الحيرى إلى الله؟ ..وتتلقى دروس السلام قلبيا ونظريا وعمليا عن الإسلام؟.. دين المرحمة ودين السلام...
قُلِ الْحَمْدُ للهِ .... وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى
ءآللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟؟
حسـن البنـّـاء


الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد