في مركز الدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل " منارات " .. أخلاقيات المهن الطبية في تاريخ الفكر الاجتماعي ..الحلقـــة الثانية

2009-02-26 04:24:32


أخبار اليوم / خاص

لامست محاضرة المركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل " منارات " الجرح الذي ينزف على الواقع ويأن منه حيث وأخلاقيات المهنة الطبية شبه غائبة في الوسط الطبي وأتت المحاضرة التي قدمها أستاذ علم الاجتماع في كلية الآداب - جامعة صنعاء الدكتور عبدا لله معمر تحت عنوان " أخلاقيات المهن الطبية في تاريخ الفكر الاجتماعي " لتعرض اساسيات واخلاقيات هذه المهنة الكبيرة والتي يمكن القول عنها أنها مقدسة.

3- أوقاف الطب والأدوية:

أما الأدوية فيذكر ابن أبي أصيبعة أنها كانت تصرف للمرضى مجاناً. في عهد الدولة الإسلامية ويؤيد هذا الرأي ما جاء في وثيقة الوقف للبيمارستان المنصوري. . . إذ تشير الوقفية إلى أن البيمارستان. . . لمداواة مرضى المسلمين الرجال والنساء من الأغنياء المثرين، والفقراء المحتاجين بالقاهرة وضواحيها، من المقيمين بها، والواردين إليها من البلاد والأعمال، على اختلاف أجناسهم وأوصافهم، وتباين أمراضهم، وأوصابهم من أمراض الأجسام، قلت أو كثرت، اتفقت أو اختلفت، وأمراض الحواس، خفيت أو ظهرت واختلال العقول التي حفظها أعظم المقاصد والأغراض وأول ما يجب الإقبال عليه دون الانحراف عنه والإعراض وغير ذلك مما تدعو حاجة الإنسان إلى إصلاحه، وإصلاحه بالأدوية والعقاقير المتعارفة عند أهل صناعة الطب يدخلونه جموعاً ووحداناً، شيوخاً وشباناً، وبلغاً وصبياناً، وحرماً وولداناً، يقيم به المرضى الفقراء من الرجال والنساء لمداواتهم إلى حين بروءهم وشفائهم، ويصرف ما هو معد فيه للمداواة، ويفرق للبعيد والقريب. . . والغني والفقير. . . الخ. من غير اشتراط لعوض من الأعواض، ولا تعريض بإنكار على ذلك، ولا اعتراض، بل لمحض فضل الله العظيم.

وفي هذا إشارة واضحة لتحديد الملامح الأخلاقية بالمارستان المنصوري وهذه الملامح لأهميتها سجلت في وقفية البيمارستان حتى تكون ملزمة العمل بها بما لا يجعل المهنة عرضة للانحدار الأخلاقي والقيمي والرغبة الذاتية لممارسة المهنة.

سابعاً

توريث المهنة

إن مهنة الطبابة اكتسبت قيم وأخلاقيات منذ البداية الأولى لنشأة الطب بهدف الحفاظ على أخلاقيات الممارسة المهنية. وحتى لا يلجأ القائمين عليها لاتباع أساليب تؤدي إلى ضرر الإنسان بدلاً من الإفادة منه وكون الطب مهنة رفيعة داخل المجتمع يتمتع صاحبها بمكانة اجتماعية عالية تجعله من الفئات العليا. وأصحاب الحظوة توارثها الأبناء عن الآباء فالمصريون القدماء اتبعوا التلقين الشفوي من الأب إلى الإبن، أو من الأستاذ إلى التلميذ، حرصاً على سريته، ومن تقاليد المهنة الطبية منذ نشأتها بل ولعله قائم حتى الآن، توارث هذه المهنة أباً عن جد مثلها مثل كثير من المهن والصناعات، ولقد استمر هذا التقليد خلال عصور الطب العربي المختلفة، حيث امتازت بعض الأسر بتوارث الطب، ولعل أشهرها أسرة "بختيشوع" التي مارست الطب في الدولة الإسلامية أجيالاً متعاقبة أثناء الخلافة العباسية.

ثامناً

المكانة الاجتماعية الرفيعة لذوي المهنة

إن مهنة الطب والعلاج مهنة أخلاقية بدرجة أولى لذا كان ارتباطها الشديد بفئة اجتماعية معينة من الممارسين عبر العصور كونها تسمو أخلاقياً ومهنياً عن بقية المهن إذ ارتبطت بأصحاب الحكمة والفلاسفة "الحكماء". ومع وجود الأديان ما قبل السماوية كان الكهان وسدنة المعابد هم ممثلوا الرب، أو الوسطاء بين الإنسان صاحب المرض والإله صاحب الشفاء، لذا ظلت حكراً على مجموعة معينة من الأفراد حفاظاً على أخلاقياتها، ولم تكن الأديان السماوية بعيدةً عن الإعجاز الرباني والبرهان الإلهي على صدق الأنبياء والرسل، إلا دليلاً آخر على سمو مهنة الطبابة ليس عند أصحاب المرض وممارسي العلاج، وإنما عند صاحب المرض والشفاء "الله سبحانه وتعالى" لذلك كانت أحد معجزات الأنبياء القدرة على شفاء أصعب الأمراض.

وهي من المهن التي رفعت شأن الأطباء وأعطتهم مكانة اجتماعية عالية داخل المجتمع واحتل الممارسين للمهنة لمراكز عالية في الدولة. ومنهم الكهنة والعرافون، ومقدموا القرابين، والأطباء. الجميع يقومون بعلاج المرضى. إلا أن الأطباء سيما أطباء الملك يشكلون قمة الهرم الاجتماعي التقليدي، والأطباء الأكفاء أكثر تشريفاً ويدفع لهم بسخاء، حيث يتم تبادلهم بين الحكام من مدينة لأخرى كنوع من المجاملة.

وشكل الأطباء جزءاً من النخبة في مجتمع اتسمت فيه الطبقات المختلفة بالتحديد الشديد، حيث يجاورون الكهنة، والقادة العسكريين، أو مسئولي المناجم والزراعة ومخازن الغلال العامة.

وفي عصر الدولة الأموية والعباسية وقرب العديد منهم من الخلفاء والحكام، واستعانوا بهم في التطبيب بعيداً عن الانتماء الديني والسلالي للطبيب. فقد تمتع العديد من الأطباء اليهود والمسيحيين بمكانة عالية داخل الدولة الإسلامية وفي مختلف العصور، ووصل ممارسوا الطب إلى أعلى مراتب الحكم في الدولة "وزراء، رؤساء دواوين، أطباء خصوصيون للملك". وكان للتشجيع الذي لقيه الأطباء من الخلفاء والأمراء أثر بالغ في بروزهم.

تاسعاً شروط ممارسة الطب

1- شخصية الطبيب وسلوكه:

لم تترك المهنة بعد أن فتح أبقراط تعليمها على الشكل بل ووضع أسس لذلك، كان أولها القسم الطبي الذي يحمي المريض من ممارسات الطبيب، كما وضعت شروط من الضروري توفرها في الطبيب هي: أن يكون المنتظم للطب، في جنسه حراً، وفي طبعه جيداً، حديث السن معتدل القامة، متناسب الأعضاء، جيد الفهم، حسن الحديث، صحيح الرأي عند المشورة، عفيفاً شجاعاً، غير محب للفضة، مالكاً لنفسه عند الغضب، ولا يكون تاركاً له في الغاية، ولا يكون بليداً، وأن يكون مشاركاً للعليل مشفقاً عليه، حافظاً للأسرار، محتملاً للشتيمة، فبعض المرضى يتصرفون خارج عن طبيعتهم، وأن يكون حلق رأسه معتدلاً مستوياً، وثيابه بيضاء نقية لينة، ولا يكون في مشيه مستعجلاً، لأن ذلك دليل على الطيش، ولا متباطئاً لأنه يدل على فتور النفس. وإذا دعى إلى المريض فليقعد متربعاً ويختبر منه حاله بسكون وتأنى.

كما وضع شروط لطالب العلم، أو لمن أراد تعلم صناعة الطب أن يكون ذا طبيعة جيدة مواتية، وحرص شديد، ورغبة تامة، وأفضل ذلك كله الطبيعة لأنها إذا كانت مواتية فينبغي أن يقبل على التعلم ولا يضجر لينطبع في فكره ويثمر ثماراً حسنة، فمتى قدمت العناية في صناعة الطب بما ذكرنا، ثم صاروا إلى المدن لم يكونوا أطباء بالإسم بل بالفعل. والعلم بالطب كنز وذخرة فاخرة لمن علمه، مملوء سروراً، سراً وجهراً، والجهل به لمن انتحله صناعة سوء، وذخيرة ردية، عديم السرور، دائم الجزع والتهور. والجزع دليل على الضعف، والتهور دليل على قلة الخبرة بالصنعة.

وأولى منهجيات الطبيب منذ الأزل "إجراء مقابلة طويلة مع المريض، وأن ينظر، ويلمس ويحس جسد المريض وبعدها فقط يمكنه صياغة التشخيص، والتنبؤ بالمستقبل، ثم يصف العلاج الملائم لنوعية المرض".

وقد كان كثير من الأطباء يرون في الفلسفة تهذيباً للطب وإرساء لقيم أخلاقية تزيد من قوته وسمو أخلاقه فأبقراط يؤمن بالفضيلة ويجعلها في مرتبة أحب إليه من المال، لذلك رد المال وسعى لعلاج الفقراء مجاناً وعزف من المكوث لدى الأغنياء فترات أطول مقابل المال.

وتعفف عن الزنا بالرغم من أنه "أحب الزنا" ولكني أملك نفسي". سعياً وراء الفضيلة، وصوناً لمنازل يدخلها لعلاج ساكنيها. وإرساء لقيمة أخلاقية لمهنة الطب. وقسمه الطبي الذي صاغه كله يحافظ على الفضيلة ويلزم الممارس بها منذ بداية طلبه للعلم.

2- الفلاسفة الأطباء والأطباء الفلاسفة:

ورأى ابن سيناء أن في الفلسفة تهذيب لأخلاق الأطباء وتمنحه الحكمة في عمله، وتنظر إليه الفلاسفة على أنه طبيب، ونظر إليه الأطباء كفيلسوف، وأياً كان الأمر فابن سيناء جمع بين كل من الفلسفة والطب، وغيره كثيرون فالأطباء كان فيهم الأطباء الفلاسفة والفلاسفة الأطباء، فالفريق الأول كان همهم التشخيص والعلاج، والتفريق بين الأمراض المتشابهة، وحسن تدبير المرض، وتجنب الأخطاء، ويتلمسون في ذلك عن طريق التفكير المنظم، بينما الفلاسفة الأطباء يسعون لتنسيق الحقائق واستقامة المنطق، وربط الأسباب بالمسببات، وصدق التقسيم والتبويب، ووضوح ذلك كله، يؤكدون أمور قد لا يغني بها الطبيب في عمله حين يرون ذلك ضرورياً للعرض المنطقي.

أ - 3- شروط مزاولة المهنة والرقابة عليها:

في 684ه (1283) افتتح البيمارستان المنصوري في القاهرة فأصدر السلطان المنصوري قلاوون مرسوماً بتقليد مهذب الدين أبو سعيد محمد أبي حليقة رئيساً للأطباء في البيمارستان وقلد أخيه علم الدين إبراهيم، وكذا أخيه الثاني موفق الدين أحمد صفة مستشارين في أمور تدريس الطب بالبيمارستان لما اتصفا به من الخلق، والعلم، والكياسة.

وتعزيزاً لدور الرقابة في الإسلام على الممارسة الطبية، وحفاظاً على الأخلاقيات الخاصة بالمهنة، فقد وضع "أبو الحسن بن رضوان سبعة شروط أو خصال كما سماها) رأى من الضروري توفرها بالطبيب أثناء توليه رئاسة المستشفى المنصوري بمصر هي:

أ/ أن يكون تام الخلق صحيح الأعضاء، حسن الذكاء، جيد الرواية، عاقلاً ذكوراً، خير الطبع.

ب/ أن يكون حسن الملابس، طيب الرائحة، نظيف اليدين والثوب.

ج/ أن يكون كتوماً لأسرار المرضى لا يبوح بشيء من أمراضهم.

د/ أن تكون رغبته في إبراء المرض أكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة، ورغبة في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغنياء.

و/ أن يكون حريصاً على التعليم، والمبالغة في نفع الناس.

ه/ أن يكون سليم القلب عفيف النظر، صادق اللهجة، لا يخطر بباله من أمور النساء والأموال التي شاهدها في منازل الأغنياء فضلاً عن أن يتعرض إلى شيء منها.

ز/ أن يكون مأموناً وثقة على الأرواح، لايصف دواء قتالاً ولا يعلمه ولا دواء يسقط الأجنة، ويعالج عدوه بنية صادقة كما يعالج حبيبه.

وكان قد كتب عساف الطبري في القرن السادس الميلادي يحدد أخلاقيات الأطباء "لا تقم بتحضير السم لرجل أو امرأة يريد أن يقتل جاره، ولا تعط تركيبة أو تستأمن عليه أحداً، ولا تقل عنه أي شيء".

وكتب اسحاق ذكر ابن سليمان في القرن (10م ) في دليل للأطباء "لا تتوان عن زيارة وعلاج الفقراء إذ لا شيء أكثر نبلاً من ذلك. هدئ من روع المريض وأعطه أملاً في الشفاء، حتى وإن كنت لا تعتقد بذلك؛ صدور هذا التأكيد منك يمكنه مساعدة الطبيعة.

ويرى علي بن زيد الطبري، أن الطبيب الجيد "يختار من كل شيء الأفضل والأكثر ملائمة، ألا يكون عنيداً، أو مهذاراً، أو طائشاً، متكبراً، وألا يكون مغتاباً، وألا يكون مهملاً في مظهره، ولا كثير العطر، أو سوقياً، أو متكلفاً في رأيه، وألا يغتر بنفسه إذا ما وضع في منزلة أعلى من الآخرين، وألا يجب الخوض في أخطاء العاملين في مهنته، لكن عليه أن يحجب أخطاءهم على وجه السرعة.

أما يوحينا بن ما ساويه فقد ذكر في القرن التاسع الميلادي مجموعة من الأسس الطبية ترتكز على قيم ومبادئ أخلاقية غاية في الأهمية هي:

أ/ الحقيقة في الطب غاية لا يمكن الوصول إليها: والأدوية الموصوفة في الكتب ضارة جداً إذا لم يوص بها طبيب حاذق.

ب/ يجب أن تشك في الذي لا يهتم بأساسيات الطب، وعلوم الفلسفة، وقانون المنطق، وأسس علم الحساب، ويستسلم للمتع الدنيوية خاصة في مجال الطب.

ج/ على الطبيب ألا يغفل عن سؤال المريض عن كل شيء. داخلياً وخارجياً، من أين يمكن للمرض أن ينشأ، ثم يرجح أيهما أكثر قوة.

د/ على الطبيب أن يكون معتدلاً: لا يتحول تماماً نحو حياة الدنيا ولا يتجه تماماً نحو حياة الآخرة، لكن عليه أن يجمع بين رغبة الأولى وخشية الآخرة.

ويشير الرازي إلى ضرورة امتحان الطبيب عن "التشريح ومنافع الأعضاء، وهل عنده علم بالقياس، وحسن فهم ودراية في معرفة كتب القدماء فإن لم يكن عنده فليس بك حاجة إلى امتحانه في المرضى).

ومن الشروط الهامة التي يجب توفرها في الطبيب أن يكون فطناً وذو بديهة حاضرة لديه القدرة على الاستنباط وحسن التعامل مع المرض والمريض، غير شغوفاً في استخدام الأدوية، بل قادراً على تجنبها قدر الإمكان، فالرازي يشير إلى أن على الطبيب تجنب الدواء قدر الإمكان "مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج بالأدوية، ومهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب" (102).

4- أهمية دوام الإطلاع مع المشاهدة:

ومن الضروري أيضاً أن يعيش الطبيب حالة مرضاه ويعايشها معايشة دقيقة فذاك يجعل من الطبيب أكثر حرصاً في البحث عن شفاء مريضه والبحث عن أفضل وأسرع وسيلة للعلاج.

كما يضيف الرازي إلى أن من الصفات الحسنة للطبيب أن يعد نفسه إعداداً حسناً في الإطلاع على كتب الطب أولاً "إن قليل المشاهدة المطلع على الكتب خير ممن لم يعرف الكتب على ألا يكون عديم المشاهدة" و "من قرأ كتب أبقراط ولم يخدم خير ممن خدم ولم يقرأ كتب أبقراط".

ويذكر أن من محاسن الإطلاع بالنسبة للطبيب بقوله: "إنما أدرك من هذه الصناعة إلى هذه الغاية في ألوف من السنين من الرجال. فإذا اقتدى المقتدي أثرهم صار كمن أدركهم كلهم في زمان قصير. وصار كمن قد عمر تلك السنين".

وفي هذا إشارة إلى أن أولي أخلاقيات مهنة الطب أن يكون مطلعاً على تراث السابقين والاستفادة من خبراتهم قبل بدء الممارسة في العمل، كون الإطلاع يمكن الشخص من إتقان العمل ومصداقية التشخيص، الأمر الذي يقوم عليه نظام دراسة الطب في عصرنا الحاضر.

عاشراً :عقوبات الخطأ الطبي

1- في المجتمعات القديمة:

اعتبرت العقوبات التي سنتها المجتمعات القديمة بمثابة الرقيب الذي يحمي الأخلاق الطبية ويحافظ عليها وعلى استقرار الكيان الاجتماعي حفاظاً على بقاء الممارسة المهنية الإيجابية.

ففي مصر القديمة كان يمنع على الطبيب ممارسة العلاج إلا ما تعلمه الطبيب عن الأولين من الأطباء ذائعي الصيت، ولا حرج عليهم إن لم يوفقوا في القضاء على العلة، وعلى العكس من ذلك فإن إهمالهم في تطبيق تلك التعاليم كان يعرضهم إلى المحاكمة وكانت عقوبتها أحياناً الإعدام.

ويتحمل الطبيب الخطأ الناجم عن تجربة الدواء الذي يجربه على المريض لأول مرة وينتج عنه خطأ طبي الأمر الذي أخاف الأطباء في تعاملهم مع أي اكتشافات طبية جديدة، وتطوير الأساليب العلاجية والإكلينيكية.

ويروي هيرو دوت أن "دارا" ملك الفرس، أصيب بالتواء في رسغه حين سقط من ظهر جواده، وكان محاطاً بأطباء من المصريين، فعندما فشل هؤلاء في علاجه، توجه إلى طبيب إغريقي شفاه، فأغدق له العطاء، وحكم على الطبيب المصري ب "الخازوق" وكان سينفذ الحكم لولا توسط الطبيب الإغريقي.

أما المجتمع البابلي والآشوري فقد سن حمورابي ضمن قانون عقوبات لمن يخطئ في الطب والعلاج، إذ أشار بأن على الطبيب الذي يخطئ في إجراء عملية جراحية قطع يده، ومن يخطئ في تشخيص المرض أو دواء أضر بالمريض فعقوبته كانت بدفع مبلغاً من المال حدده القانون كغرامة على الطبيب، وخوفاً من استعمال الأطباء لبعض العقاقير من قبيل الاختبار في المرض وضعت الحكومة قانوناً جازماً يجازي كل من يسيء استعمال هذه العقاقير، وكل إنسان يموت ضحية لهذه التجارب يعتبر موته في نظر القانون جناية عظيمة يستحق فاعلها العقاب عليها أما إذا وصف الطبيب بموجب الأصول الطبية المقررة ولم ينجح فحينئذ يسوغ له الإتيان بما يراه نافعاً من التجارب لشفاء المريض. والمضاد عندهم أن الطبيب كان يراعي في أوامره ما كان يستعمله السلف من طرف العلاج وما كانوا يختارون من العقاقير النافعة.

عقوبات حمورابي (1728-1686ق. م) أشار إلى ما ينظم مهنة الطب، حيث حدد الأجر الذي يتقاضاه الطبيب أو الجراح مقابل العلاج الذي يقدمه بناء على الوضع الاجتماعي للمريض (أحد النبلاء- تاجر- أو عبد). كما حددت العقوبة التي توقع على الطبيب إذا فشل في أداء مهمته: "إذا قام الطبيب بإجراء عملية جراحية كبيرة لأحد النبلاء منقذاً حياته، فإنه يحصل على عشرة من الشكلات الفنية، أما إذا توفي هذا النبيل فتقطع يدا الجراح، أما إذا تسبب الطبيب في وفاة أحد العبيد، فإنه يقوم بتعويض صاحبة بعبد آخر".

2- في المجتمع العربي الإسلامي :

ومن العقوبات على الخطأ الطبي كان النفي، فقائد جيوش المعتصم في آسيا الصغرى وموقعة عمورية "الأفشين" وجه عدة رسل إلى الصيادلة يطلب منهم أدوية مسماة فما كان من بعضهم إلا أن أنكرها. وبعضهم أدعى معرفتها وأخذ الدراهم من الرسل ودفع إليهم شيئاً من حانوته. فأمر "الأفشين" بإحضار جميع الصيادلة فلما حضروا كتب لمن أنكر معرفة تلك الأسماء منشورات إذن لهم فيها المقام في عسكره ونفى الباقين عن المعسكر ولم يأذن لأحد منهم في المقام ونادى المنادي بنفيهم وبإباحة دم من وجد منهم في معسكره وكتب إلى المعتصم يسأله البعثة إليه بصيادلة لهم أديان ومذهب جميع ومتطبين كذلك. فاستحسن المعتصم منه ذلك ووجه إليه بما سأل.

ويعد حديث الرسول عليه الصلاة والسلام بمثابة مبدأ عام في تحديد المسئولية الطبية والجنائية التي تقع على الطبيب جرى عمله "من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن" أي أنه مسئول عن عمله ومحاسب عليه ويتحمل الخطأ الذي يقع فيه. وبهذا فإن المسئولية الأولى تتحدد على الطبيب وفق هذا الحديث، والذي يمثل المرحلة الأولى من تنظيم الرقابة في الإسلام على ممارسة الطب والعلاج.

أما المرحلة الثانية فتأتي في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله والذي سن نظم الرقابة الطبيعية في الدولة الإسلامية، وأولى هذه النظم أن يؤدي الامتحان كل من يرغب في ممارسة الطب، كما أمر بأن يكشف عن ممارسة الطب جميع الأطباء إلا من يمتحنه سنان بن ثابت.

فمن أجيز عاد إلى الممارسة، وفي عهد الخليفة المستنجد بالله فوضه رئاسة الطب ببغداد إلى أمين الدولة بن التلميذ امتحان المتطببين.

وكذا بالنسبة للصيادلة فقد وجد في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي أشخاص تعلموا موثوقون في كفايتهم لقبوا بالصيادلة حصلوا على تراخيص توليهم حق مزاولة المهنة. فقد سنت القوانين التي تفرض الرقابة الحكومية الدقيقة عليها فعين في كل مدينة كبيرة موظف "مفتش" يعتبر كبيراً للصيادلة فيها أو عميداً لهم للإشراف على تنفيذ هذه القوانين ومراقبة تحضير الأدوية في الصيدليات ونقاوة العقاقير المستعملة. كما كانت هذه القوانين تعرض من يتعاطي صناعة الصيدلة أن يحصل على ترخيص من الحكومة بذلك بعد أداء امتحانات خاصة في معرفة العقاقير وطرق تجهيزها. ثم يقيد اسمه في سجل الجدول الخاص بذلك وأول امتحان أجري لذلك في بغداد عام 221ه في عهد الخليفة المعتصم.

3- ربط العقوبة والرقابة الطبية بالمحتسب:

أما المرحلة الثالثة من تنظيم المهنة فقد أسندت مهمة الرقابة الطبية إلى مايعرف بالمحتسب، والمحتسب هو من يبحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم التي لا يتم التحدث دونها من حيث إجراؤها على قانون العدل بحيث يتم التراضي بين المتعاملين، وعن سياسة العباد بنهي عن المنكر وأمر المعروف، ومبادئه بعضها فقهي وبعضها أمور إستحسانية ناشئة عن رأي ولي الأمر.

وهذا التعريف يظهر ارتباط نظام الحسبة بالتمدن الذي يعد الطب من أهم المهن التي هي بحاجة لرقابة، فيما لو أنسها تسير طبقاً للمبادئ الإسلامية والشرعية، فكان على ولي الأمر أن يعين لذلك محتسباً يراه أهلاً للقيام بهذه الوظيفة، وعلى المحتسب أن يتخذ الأعوان لمراقبة ما يجري من المنكرات وتعزير الناس، وتأديتهم وحملهم على التمسك بأهداب الشريعة وتجنب كل ما من شأنه أن يضر بمصلحة الأفراد.

ونظمت عملية الحسبة على الأطباء والصيادلة بما يضمن "أن يراقبوا الله في ذلك، وينبغي للمحتسب أن يخوفهم ويفطنهم بالعقوبة والتعزير ويعتبر عليهم عقاقيرهم كل أسبوع.

وعليه أن يتأكد من امتلاك الطبيب لجميع آلات الطب وما يحتاج إليه في صناعته وأن يمتحن الأطباء بما جاء في كتب الطب. وكان من مهام المحتسب أخذ العهد على الأطباء قبل ممارسة المهنة، ومن ثم يكون من حق المحتسب، محاسبة الطبيب على أخطاءه في المهنة، إذ يمثل العهد الذي يقطعه الطبيب على نفسه عند تخرجه ليبدأ العمل.

وكان هذا يجعل الطبيب فيما بعد مسئولاً من الناحية القانونية، عند مخالفة أي شرط من شروط أداء المهنة.

وفي هذا تكريس لمبدأ الرقابة الذاتية على الممارسة فاليمين يعتمد على جعل الرقيب الداخلي للإنسان مسئولاً عن قيامه بعمله وفق المعيار الأخلاقي للمهنة. كل بحسب تخصصه وما يرغب في مزاولته من تخصص.

وهذا الإجراء الذي يقوم به المحتسب نحو مختلف فئات الأطباء تدل على حرص الدولة على مراقبة حسن العمل، والتدقيق مع كل من يعمل بهذه المهنة، فيكون الطبيب المرخص مالكاً لإذن رسمي، يتيح له ممارسة المهنة بحرية وفق الشروط المتفق عليها، وإذا ما انحرف عنها، أو تجاوزها فإن ذلك يضعه في موقف المساءلة القانونية أمام المحتسب، الذي يمثل الدولة في هذه الحالة. ??

??

 

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد