تارة يرقص على رؤوس الثعابين وأخرى على جماجم الشهداء وكلا الأمرين هم الشعب.. إذاً ثمة ضحية قابلة للموت وغير قابلة للمهادنة، فالشعب مشروع شهادة يتخرج منه الكثير، هو من وجهة نظره مليء بالسم، إنه ثعابين..
كيف إذاً يتصالح مع الشعب من يرى إليه أنه كل هذا الخطر؟! وكيف يمنحه السكينة إن كان مجرد قلة لا يعتد بهم؟!..
هذا التعالي لا يمنح الهدنة ولا يؤجل الرحلة إلى الحرية لأن الضرورة مقتضياتها الخلاص من راقص على رؤوس شعب بأسره أراده فقط أن يكون مدوساً وهو دائس، أراده لعبة يصل بها ويلعب عليها الرقص أكان خطراً لكونه على ثعابين أو كان متعة لكونه تحدٍ لإرادة الجماهير.
من هكذا فلسفة تنبثق آلية حكم وتتعطل حرية ويصير للشعب حقه في أن يخرج إلى ساحات التغيير من أجل حلم يداعب الجفون ورغبة حياة لا بد أن يطالها، ويكون الراقص الماهر من يتقن تجويد الموت وإلحاقه بآخرين أبرياء ومن ثم محاولة التخلص من هذا الفعل المنتهك لشرائع الأرض والسماء، ومعاودة الندم ووضع طقوس للحزن وأخرى لما هو قابل للتنفيذ.. وبين الأمرين يستفحل الخطر، يصير معاشاً بين أمل وألم.. يسند الأول الثاني لأنهما يخرجان من مشكاة الحرية الضرورة "التغيير أساس الحرية".. ذلك الراقص لا يفهم الحرية الضرورة لأنه معني بالدخول في الرقص حد المتعة، لأن ساحة اللعب لديه الجماهير التي تطالب إسقاط النظام وبين اللعب والمطالبة يحدث أن يدخل الغرور منطقة السلطوي ويفتح بهذا الغرور نافذة تحد إضافية، يطلق من خلالها زغرودة "لن نهزم اليوم من قلة"..
هو الشعار إذاً القديم الجديد الذي تبناه الحاكم بصلف لا طاقة للأبرياء به هو ذاته الذي أحدث الانفجار في 94م وما قبلها وما بعدها من تداعيات، وبلا شك فإن هذا الشعار تاريخياً حافل بالهزائم المتوالية، هذا ما لم يفطن إليه الحاكم الشعبي العام الذي يراهن على الكثرة المؤقتة لسويعات والرهان على الرقص الإضافي فوق أجساد وأحلام وأماني الطيبين، من يرون إلى السبعين "الساحة" معنى مجسداً في الحاكم كأنه الوطن بامتياز وهو كل الجماهير، لذلك هو الحرية والقانون، وهو المانع والمانح، من غيره لا شيء يمكن أن يستقر على حال.. بدونه تحدث هزات أرضية وارتجاجات ونجوم تتساقط وقيامة يتعالى فيها صياح البشر: النجاة النجاة.. من غيره يسود الظلام تتشح الحياة بالسواد، هو الملاك المنقذ من الظلال والشعب فقط ثعابين وزواحف.
في السبعين يبدو الغرور قهراً لشهداء إنما نطعمهم لوجه الله، في السبعين يبدو الغرور قهراً لشهداء السبعين ذواتهم وهم يرون الكتل البشرية تذهب إلى حيث يرغب الحاكم مزيداً من التعب ومنحه حق التصرف للآدمية،.. يشبه إبان الحكم الكهنوتي حين كان ثمة صوت لشاعر تأكد صدقية قوله:
"والحق يبدأ في آهات مكتئب.. وينتهي بزئير ملئه نقم"
الحق هكذا يبدأ ويتدحرج مثل كرة ثلج حتى رسالة السماء بدأت بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده ثم نفر قليل وعمت فيما بعد الأرض..
الحق لا يقدر على فهمه من يرى الشعب ثعابين ينبغي الرقص عليها، وجرها إلى حالة التوهان المستمر أحياناً ضربها حتى الموت..
ما حدث في ساحة التغيير لم يكن سوى شاهد بسيط على المتوالي حين بدأ الاحتجاج على هذا الإسراف من القهرية كان قلة قليلة لبعض الشباب، اليوم ملايين لا يريد الحاكم أن ينظر إليها لأنه ما يزال على اعتقاد راسخ بأن الرقص ضروري على رؤوسهم، لم يدرك بعد أنهم بشر يحملون الحرية الضرورة ويتداعون لإنجازها ويستبسلون من أجلها.
الحرية التي يطلقها الجميع بمعنى إسقاط النظام.. السقوط إشفاق على وطن لا بد أن يستقر على حال وأن يتمتع بعبق النشيد الوطني هذا النشيد الذي لا يمكنه إلا أن يقاوم وينتصر، لا بد أن يحقق ما كان غياباً معلناً اثنان وثلاثين عاماً ويفتح أبواب الحرية تتسع لكل بني الوطن وتصير المواطنة ليست الأهل والأقارب فقط واعتبارهم مواطنين وما عداهم هباء أو ثعابين وبين المواطن الآسر للحرية الكابت للصوت، القاهر للحلم، القابض للسلطة والتسلط وطموح بشر أسوياء ليس كما ينظر إليهم.. ثمة ضرورة، لانبثاق صبح، وزغرودة فرح، وحياة أمل يأتيها الجميع خارج غرور الحاكم الذي يتمسك بشعار لن نهزم اليوم من قلة ويذهب إلى حيث لا يدرك ماذا يعني الوطن الحرية والحرية إرادة والإرادة فعل، نحن إذاً أمام إتقان ضروري لمعنى أن يكون الوطن خالياً من الإرهاق والإسراف في التسلط ونحن أمام لوحة انتماء تحقق المطلوب عملياً دونما البقاء في المراوغة والكيدية واعتبار ذلك من الذكاء ومن القدرة على الرقص..
نحن أمام ما لا بد أن يتحقق والذي لا يفهم هذا التحقق "الحاكم" من يظن الانتصار قمعاً للحرية وتبديداً للأحلام وضرباً بالهروات وقتلاً بالرصاص، هكذا هي ثقافة الاستبداد، ولوج في الموت بلا تردد ونزوع عدواني، ومزيد من الاحتقانات لمزيد من الأزمات، بحيث تبدو الحياة مريرة لا يقدر على كشف غمتها سواه، وإذاً فنحن أمام نصف إله..
ونعوذ بك يا ربي من هكذا شرك "أشهد ألا إله إلا أنت وما سواك يا الله بشر عاديون بمن فيهم الزعيم المؤتمن.
المحرر السياسي
الحرية الضرورة والمكابرة على الرقص 3305