"كل نفس ذائقة الموت".. ليس بوسع أحد أن يرد خطوات القدر، فالخلود غاية لم تكن لبشر، ولن تقدم الأماني في عمرك لليلة أو تطوى صحفك عن نهار ناقص.. يسير الغني والفقير إلى المصير نفسه، وكلا يحشر في اللحد وحده، و لا يشفع لك غير عملك الصالح، والدعاء، والصدقة، ومن أراد أن ينظر له الله بعين الرحمة، وينال كرم الدنيا، وشرف الآخرة.. يفرج كربة أخيه، ويمد له يد العون في محنته و عسره!.
حين كانوا يتصارعون على الوطن، ويتناحرون لإحكام قبضتهم على سلطته، وتبحث أطماعهم عن موطئ قدم في مستقبله (مات) الصحفي، ونائب شعبة الرياضة العسكرية الخضر الحسني في إحدى مستشفيات دولة (الهند) بعد أن خسر معركته مع مرضه.
مات الخضر الحسني - اللهم لا اعترض - تحجرت قلوبهم، وتبلدت مشاعرهم، وفقدوا في زحمة الدنيا ضمائرهم، وتركوا جسده المغترب مسجي على سرير الموت حتى كتب المرض آخر سطر في عمره!.
مات الخضر الحسني.. لفض أنفاسه الأخيرة، ومازالت في قلبه غصة، وتسكن أجفانه نظرات الحسرة، وفي وجدانه أنين لم يبح به، وعلى شفتيه كلمات مرتعشة لم يفصح عنها بعد!.
مات الخضر الحسني.. فارقت الحياة جسده العليل بعد صراع مرير مع الألم والإهمال!.. عاد إلى وطنه في تابوت خشبي جثة هامدة، ووري جثمانه الثرى في مشهد حزين يتكرر كثيرا.
مات الخضر الحسني.. توقفت نبضات قلبه الطيب، وفاضت روحه إلى بارئها بسلام.. مرت أسرته بتجربة قاسية، وظروف صعبة، وحاولت التشبث ببصيص الأمل، ولكن ما باليد حيلة، فالأبواب التي طرقوها كانت تقف خلفها زمرة منافقة!.
مات الخضر الحسني.. كان أول من ينتظر بيان نعيه.. مات بعد أيام قليلة من جفاف حبر استغاثته!.. تجاهلوه في ذروة الربيع، وصخب التغيير، والحديث عن المواطنة المتساوية، والبحث عن الدولة المدنية الحديثة!.. إن الأوطان التي تفرط بأبنائها بهذه الصورة المؤسفة و المخجلة ستظل تزحف إلى يوم تبعث!.
مات الخضر الحسني.. بعد أن صموا آذانهم عن معاناته، فافترس المرض لحمه، ونخر الألم احشائه.. في الوقت الذي كان (الحسني) يعاني سكرات الموت، وينزف ذويه وجع معاناته، وأرهقتهم تكاليف علاجه على نفقتهم الخاصة، كان البعض يقف متبرجا أمام المرآة يمعن النظر في (كرشه) المنتفخة، ويدهن وجهه بمساحيق التجميل، ويغسل بشرته بلبن العصفور ليخفي تجاعيده!.. وفي ساعة احتضاره كان كثير من الذين عاثوا في الوطن فسادا يهدرون المال العام، ويستمتع بذخهم بإنفاقه على نزواتهم، ويحجزون أجنحة في الفنادق الفاخرة، ويتجولون في الشوارع المدن الكبيرة، وتتسوق نساؤهم من متاجر عواصم الموضة.. وفي اللحظة التي غفت عيناه إلى الأبد كانوا يفتحون أجفانهم على المناظر الخلابة!.
مات الخضر الحسني.. ليس من السهل عليهم أن يلملموا ما تبعثر من نخوتهم، فالمسئول الذي تخونه مروته في الحظات الحرجة لا يتوقع أن نلمع صورته، والوطن الذي لا يبر بأهله، ويأتيه الباطل من بين يديه، ومن خلفه، ويسوق مبدعيه وشرفاءه إلى حتفهم بدم بارد، ويعظم أشباه الرجال، ويمنح الحصانة للقتلة يصبح الانتماء له مثار جدل!!.
مات الخضر الحسني.. ترجل قلم آخر عن صهوة السلطة الرابعة، ولم تشفع له إقامته الطويلة في بلاط صاحبة الجلالة!.. مات (العميد) نائب شعبة الرياضة العسكرية في غرقة مستشفى متواضعة، وحين حالوا أن يتذكروه كان الأوان قد فات، ففي هذا الوطن لا تأت المواقف بحكم العادة، وإن حضرت تحضر متأخرة!.
مات الخضر الحسني.. اكتفوا باستقبال نعشه، وجرجرت أقدامهم خلف جنازته، وذرف الدموع على قبره.. لا مجال للمزايدة في الموت، ونعلم أن هناك من كان عند حسن الظن، وأن هناك من شاركوه مشوار حياته، عاصروا مسيرته، ويحزنهم على فراقه أكثر من أي شخص آخر ، ولكن كل ما نتمناه ألا يكون حضور بعضهم مراسيم عزائه آخر عهدهم به، ونعتقد بأن لأسرته وأبنائه حقوق على الجميع الوفاء بها دون قيد أو شرط، ودون أن تمس كبرباء ذويه أو تجرح مشاعرهم مرة أخرى!.
مات الخضر الحسني.. ومازال كثيرون يقفون في طابور التجاهل والإهمال وينتظرون دورهم ليكونوا الضحية القادمة!.
رحم الله الفقيد الخضر الحسني، وأسكنه فسيح جناته.. نعزي أهله ومحبيه، وننعي أنفسنا برحيله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.