بقلم: مراسلوا المجلة ترجمة/ أخبار اليوم
رقصة الجنابي هي من التقاليد اليمنية الأكثر خداعا. يستل الشركاء أسلحتهم ويندفع كلا منهما نحو الآخر بعدة قفزات، متظاهرين بالهجوم ثم يتراجعا. فقط عندما تتوقع أن يغرس أحدهما جنبيته في قلب الآخر، فجأة يعيدون جنابيهم إلى أغمادها ويبتسمون في انسجام تام، فقط لأخذ استراحة بعدها ينتصبون من جديد.
في أوقات كانت أكثر سعادة، ظهر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح واللواء علي محسن الأحمر أمام حشد من الكاميرات في أحد الاحتفالات العامة في العاصمة صنعاء. اليوم ومنذ قرابة شهر، جنابيهم هي المدفعية الثقيلة، وجمهورهم هي حركة الاحتجاج المُجهضة ورقصتهم تدك بلدا منبطح الذي يتوقف مستقبله على نتائج مبارزتهم.
تسعة أشهر في انتفاضة شعبية اجتاحت أنحاء البلاد، فإن الحقيقة التي يواجهها هذا البلد الفقير هي أكثر قتامه من أي وقت مضى. عندما احتفل الليبيون بوفاة معمر القذافي وتوجه التونسيون إلى صناديق الاقتراع، كان اليمنيون محصورين في خضم الصراع الدامي على السلطة بين صديقين تحولا إلى عدوين، وهي المواجهة القاتلة التي تغرق دعوات اليمنيين للديمقراطية وقد تجر البلاد إلى حرب أهلية وشيكة.
هناك سبب لذلك، قرار مجلس الأمن الدولي يوم الجمعة الماضي الذي يحث على انتقال سياسي للسلطة ألقى المسئولية على جانبي الانقسام السياسي في البلاد في تصاعد أعمال العنف في الآونة الأخيرة، عندما كان عشرات من المتظاهرين والمدنيين مستهدفين وسط رصاصات قناصة الحكومة وجنود الأحمر.
أحدث إستراتيجية للفرقة الأولى مدرع التي يقودها الأحمر الذي انشق في مارس، هي مرافقة المسيرات السلمية في طريقها من ساحة التغيير إلى مناطق إستراتيجية جديدة في العاصمة حتى يوسع نطاق نفوذه على المدينة المقسمة وجر أحياء بأكملها إلى اشتباكات عنيفة. في الواقع أصبح المتظاهرون دروعا بشرية.
كيف انهارت بشكل عنيف جدا الشراكة بين الرئيس واللواء، بعد أن كانا سوطا لحركات تمرد وانفصال لا تحصى وقعت في جميع أنحاء هذا البلد المضطرب؟ وهل يمكن إنهاء طموحاتهما في السيطرة على البلاد بطريقة ترحم اليمن من دمار شامل؟
تعود جذور الرجلين إلى نفس القبيلة ونفس الأسرة من قرية بيت الأحمر، وهي قرية فقيرة تقع خارج العاصمة تتشبث بالحياة على جبال قاحلة. كأصدقاء حميمين، تدرجا في صفوف الجيش اليمني سويا وتفاديا الانقلابات المتكررة حتى ساعد الأحمر صالح باغتنام الرئاسة في عام 1978. وردا للجميل، منح الرئيس الشاب نائبه مزايا اقتصادية كانت في ذلك الوقت تشمل الكثير من جوانب اقتصاد البلاد.
حرص اللواء على امتلاك الأراضي وصمه بلقب "المالك". يقول أولئك الذين يعرفون اللواء الأحمر إنه اجتماعي وودود. يقول أحد المسئولين اليمينيين المقرب من الأحمر: "هو رجل بمعنى الكلمة، جذاب جدا وحديثه لين... يحب جمع المسدسات والجنابي الفريدة ويفسد ضباطه بمنحهم الأراضي".
البيانات الدقيقة عن الأملاك التي جمعها لا تزال مجهولة وغير معروفة، لكن إقطاعياته وعقاراته القليلة في مختلف أنحاء البلاد تضم عشرات الآلاف من الدونمات، بالإضافة إلى عقارات في منطقة الخليج وودائع أجنبية كبيرة في البحرين والإمارات العربية المتحدة.
وما يعزز موقفه هي ملايين الدولارات التي يجنيها نجله محسن على محسن من النفط. نجله يملك إحدى أكبر الشركات النفطية في اليمن.
بعد مساعدة اليمن الشمالي في تحقيق انتصار حاسم في الحرب الأهلية عام 1994 ضد الجنوب المستقل سابقا، أنقض الأحمر على المتمردين في محافظة صعدة. هناك أثار من جديد الميليشيات القبلية والجهاديين المتشددين المسلحين نيابة عن الحكومة في حرب الست سنوات مع المتمردين الشيعة، وهناك كانت عملية الأرض المحروقة التي دمرت بشدة الكثير من أنحاء الشمال.
عندما تواصلت الحملة على الأرض مع استخدام الشيعة المحاصرين الألغام الأرضية ومعرفتهم بالتضاريس الجبلية للتوسع إلى مناطق جديدة، أصبح الأحمر على اقتناع بأن الرئيس تعمد إغراقه في حرب لا يمكن الظفر بها من أجل تدمير حياته السياسية.
وفي الوقت نفسه، كثرت الشائعات بأن صالح قد بدأ زفاف نجله الأكبر أحمد علي، وهو أيضا قائد عسكري في الجيش، لرئاسة الجمهورية، وهو المنصب الذي كان الأحمر طامع فيه لقاء ما قدمه للنظام من خدمات طيلة العقود الماضية.
وفقا لبرقيات دبلوماسية أمريكية مُسربة، فإن لحظة الانهيار جاءت في صيف عام 2009 عندما حاول الرئيس وفشل في قتل محسن. إحدى الوثائق التي نشرتها ويكيليكس تصف كيف أعطى قادة يمنيون نظرائهم السعوديين الذين انضموا إلى محاربة الفوضى في الشمال ضد المتمردين الحوثيين، تعليمات لقصف موقعا أتضح أنه قاعدة لمحسن الأحمر. اعترض السعوديون على ذلك، وبدأ اللواء الأحمر يحتضن حقدا قاتلا.
ثم جاء الربيع العربي والانتفاضة في اليمن. في رسالة قرأها الأحمر عبر قنوات تلفزيونية معارضة في 21 مارس الماضي، قال: "أعلن دعمنا ومساندتنا لثورة الشباب السلمية وسنقوم بواجباتنا في الحفاظ على الأمن والاستقرار".
كان الموت هو السبب. فبعد أيام من قيام قناصة موالون للحكومة بمهاجمة مظاهرة سلمية في العاصمة، قُتل فيها ما يقرب من 60 من المتظاهرين العزل، التزم اللواء الأحمر بقيام قواته المنهكة من الحرب بتطويق ساحة الاحتجاج في صنعاء واستخدام بريقها المثالي للعمل على سمعته المشوهة بشدة.
مشاهد الابتهاج استقبلت قوات محسن في عرض عسكري بساحة التغيير، ملوحين بعلامات النصر ورافعين القبعات الحمراء أمام الحشود المبتهجة على غرار تشي غيفارا. المتظاهرون قبلوا الجنود على جباههم.
في غضون أيام، أنجز محسن تحولا بارعا من أحد أمراء الحرب الذي يلحق به العار إلى منقذ للملايين من الثوار اليمنيين.
يقول مسئولون حكوميون إن انشقاق اللواء الأحمر كان محاولة انقلابية في الواقع، لكنها فشلت عندما رفض عدد من كبار القادة العسكريين، الذين كان يعول عليهم، الانضمام إلى صفوفه في اللحظة الأخيرة، ملتصقين بالنظام وتركوا الأحمر عرضة للخطر الشديد.
يقول المسئولون إذا نجح الأحمر فإنه قد أصبح القائد الفعلي للبلاد، ومن المرجح أنه يترأس مجلسا عسكريا مثل ذلك الذي أفسد المرحلة الانتقالية في مصر.
يقول محلل سياسي مقيم في صنعاء: "تفكيرهم كان قريب جدا من النموذج المصري. مع ذهاب صالح، سيلعب محسن دور صانع الملوك، وفي النهاية يدخل في الحكومة الجديدة التي تتفق مع مصالحه الشخصية".
مهما كانت نواياه، فإن تزايد ظهور مقاتلي الأحمر المتمردين في صفوف المتظاهرين يؤدي إلى عسكرة الانتفاضة المدنية تدريجيا الذين كان شعارهم الرئيسي المدهش في بلد يعج بالأسلحة، "سلمية، سلمية".
في نهاية طوابير طويلة من الخيام المتداعية في الساحة، يتسابق جنود الأحمر في سيارات مكشوفة مزودة بأسلحة رشاشة. عند ارتفاع صوت المؤذن للصلاة، يضع الجنود، بعضهم من الأطفال الذين يسبحون فقط في بزاتهم العسكرية المنتفخة، أسلحتهم على الأرض ويؤدون الصلاة إلى جانب المتظاهرين.
وجد حشود من المتظاهرين أنفسهم يفرون من الرصاص من كلا الاتجاهين في الوقت الذي يبقى جنود اللواء الأحمر في المؤخرة يردون على إطلاق النار على القوات الحكومية ببنادق كلاشنيكوف وقذائف صاروخية صدئة محمولة على الكتف.
القوات الموالية لصالح ألقت قذائف طائشة نحو قاعدة الفرقة الأولى والواقعة على مسافة قصيرة من مخيم ساحة المتظاهرين، مما أرهب المتظاهرين ودفعهم إلى الفرار مرارا وتكرارا.
وفي حين تتواصل معاناة اليمن، يتلاشى الخط الفاصل بين المتظاهر والجندي المتمرد على نحو متزايد. بث التلفزيون الحكومي الأسبوع الماضي مقطعا يظهر أحد جنود اللواء الأحمر يندس بسهولة وسط بحر من المتظاهرين بعد تغيير زيه الكاكي بلباس مدني خلال تظاهرة حاشدة في العاصمة.
على الرغم من تزايد سفك الدماء، فإن الشعور السائد في أوساط الناشطين المؤيدين للديمقراطية في ساحة التغيير لا يزال هو نفسه: إن لم يكن مثاليا، فإن دخول الجنود هو الدرع اللازم ضد رصاصات القوات الحكومية وقناصتها المدنيين الذين يجوبون أسطح المنازل القريبة.
مع ذلك فالكثير منهم خائف جدا، بل تساورهم الشكوك في التحدث وذلك خوفا من اتهامهم بتعزيز الانقسام. يقول ناشط طالب في كلية الطب، 24 عاما، الذي تمنى عدم ذكر اسمه: "لم يكن لدينا أي رأي في هذا، هناك الكثير من التبرير لحملة علي محسن وجنوده. هو بحاجة إلينا أكثر مما نحن بحاجة إليه".
وما يثير الصدمة أن الأحمر وقواته لا يزالوا يتلقون رواتبهم الشهرية من الحكومة وتصل قيمتها إلى عدة مليارات من الريالات اليمنية، قد لا يكون إغراء خفي من صالح لإقناع اللواء الأحمر بالعودة إلى حظيرته. لكن وفقا للسياسات اليمنية: فلن يغادر أحد الرجلين من دون ضمانات أن الآخر سيحذو حذوه.
بعد وقت قصير من إعلان الأحمر الانشقاق، توفق مسئولون يمنيون كبار والسفير الأمريكي بصنعاء في إعداد مراهنة متوترة بين الرجلين في منزل نائب الرئيس.
كلا الرجلان وافقا على وجوب تجنب اندلاع حرب شاملة مهما كلف الأمر، وأن أي حل نهائي يجب أن يتضمن تركهم لمنصبيهما. في غضون خمس دقائق، غادر الرئيس صالح وهو غاضب. يصعب بالكاد الاقتناع بالنتائج. فاللواء الأحمر اتهم الرئيس صالح بمحاولة اغتياله في مارس خلال جهود وساطة من شيوخ القبائل مما خلف أربعة قتلى. والرئيس حمل اللواء مسئولية زرع قنابل قوية هزت قصره في يونيو تركته مشوها مما جعله يتلهف للانتقام.
إن العلاقة المعقدة بين صالح والأحمر هي سبب المشاكل الحالية ومفتاح لأي حل يمكن أن يدرأ موت الدولة في اليمن.
يقول أحد المسئولين اليمنيين: "ما يحدث ليست معركة بين رأس وجسم النظام، إنها معركة داخل وظائف مخ النظام".