كانت تتلفت حولها بقلق ظاهر، وكأنها تخشى أن يراها أحد في هذا المكان.
وقفت أمام ركن مهمل بجوار أحد محالّ بيع الخضراوات والفواكه. عيناها تدوران في كل اتجاه، وكأنها تحمل العالم على كتفيها. بين خوف من أعين الناس وخجل من حالها، اقتربت أكثر من صندوق مهمل مليء بالبقايا التي لم تعد صالحة للبيع. فتحت كيسًا صغيرًا بيدين مرتجفتين، وبدأت تجمع ما يمكن إنقاذه: قطعة طماطم هنا، ورأس خس نصف متعفن هناك، وبعض الفواكه المرمية التي تشبهها في قسوة الظروف، ظاهرة لكنها منسية.
كان هذا المشهد جزءًا من حياتها اليومية، وجزءًا من حياة آلاف الأسر اليمنية التي أُجبرت على أن تبحث بين المخلفات لتبقى على قيد الحياة. كانت تفكر في أطفالها الذين تركتهم جائعين في المنزل. زوجها، الجندي في الجيش الوطني، يرقد في زاوية الغرفة نفسها، مصابًا بجروح من معركة خاضها قبل أشهر. إصابته لم تُبعده فقط عن ميدان القتال، لكنها أيضًا جعلت معركة أسرته مع الفقر والجوع أكثر ضراوة.
"راتبه المتواضع الذي بالكاد كان يكفي القليل، انقطع منذ شهور"، قالت الأم لنفسها وهي تلتقط قطعة أخرى من الصندوق. "قالوا إن الحكومة ستصرف مستحقات علاجية، لكنهم كذبوا. تصريحاتهم كتصرفاتهم، كلها وعود في الهواء."
بينما كانت تنقب في صندوق آخر، خالية الوفاض هذه المرة، كان أحد المسؤولين في الحكومة الشرعية يجلس في شقته الفاخرة خارج البلاد. شقته تطل على بحر هادئ، وكأنها تنتمي إلى عالم آخر. هذا المسؤول، الذي كان ذات يوم من أذرع ميليشيات الحوثي، قرر فجأة قبل ثلاث سنوات أن ينضم إلى الحكومة الشرعية. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف عن جمع الامتيازات والرواتب الضخمة بالعملة الصعبة. يظهر أمام الكاميرات متحدثًا عن الوطنية والقضية اليمنية، بينما في الواقع لا يقدم شيئًا للوطن سوى أحاديث تُضاف إلى قائمة الأكاذيب الطويلة.
في المنزل الصغير، عادت الأم حاملة الكيس بما استطاعت جمعه. وجدت ابنتيها تنتظرانها بفارغ الصبر. البنت الكبرى، بعينيها الواسعتين، أخذت الكيس لتساعد والدتها. "هل يكفي هذا يا أمي؟" سألت بصوت صغير. أما ابنها الأكبر، الذي أصبح أكثر صمتًا منذ إصابة والده، كان يجلس بجانبه يحاول أن يبدو قويًا، لكنه كان يعلم أن والده الجريح أكثر قوة منه رغم ألمه.
على الجانب الآخر، كان المسؤول يجلس مع أسرته حول طاولة عشاء فاخرة. أصوات الضحك والحديث عن عطلتهم القادمة في باريس غطت على أي صوت آخر. بقايا الطعام التي لن تُؤكل ستحملها الخادمة بعد قليل لترميها. لم يشعر أحدهم بأي شيء سوى الامتلاء، لا بالجوع ولا بالخجل.
ختامًا:
في تلك الليلة، جلست الأم بجانب زوجها الجريح الذي كان ينظر إليها بعينين تحملان ألمًا وأملًا معًا. قال بصوت هادئ رغم تعبه:
"زوجتي الغالية، ثقي أن ما قدمته أنا وزملائي من دمائنا لن يذهب هدرًا. نحن نحارب ميليشيات دمرت بيوتنا وشرّدتنا، لكننا نحارب أيضًا نظامًا مليئًا بالانتهازيين الذين باعوا الوطن. تعاهدنا على المضي حتى النهاية، الشهداء الذين سبقونا والصامدون الذين ما زالوا في الخنادق. هؤلاء لن يخذلونا."
نظرت إليه بابتسامة حاولت أن تخفي دموعها، وقالت:
"كم أنت عظيم يا زوجي الغالي. سنصبر، ونجاهد من أجل البقاء، ليس فقط من أجلك، بل من أجل هذا الوطن العظيم. لن يكسرونا بحصار الفقر والعوز، ولن يهزمونا رغم الألم."
وفي تلك اللحظة، كان في الشقة الفاخرة حديث آخر. المسؤول كان يقول بابتسامة ساخرة:
"الوطن؟ إنه مجرد كلمة نرددها في المؤتمرات، المهم أن نبقى حيث نحن، بعيدين عن هذا الجحيم."
النهاية:
عندما أغلقت الأم عينيها تلك الليلة، لم تر سوى صورة أطفالها الذين يأكلون الحساء البسيط وهي تشكر الله على قوت يومهم. أما المسؤول، فقد أطفأ الأضواء ليحلم برحلة جديدة، تاركًا وطنًا ينهار تحت قدميه، لكنه لا يشعر بشيء من المسؤولية فمن باع الوطن للمليشيات لن يتردد عن بيعه للأصحاب السعادة.