تعطى الثورات العربية التي نشاهد مجريات احداثها على الهواء مباشرة دروسا وعبراً اكبر بكثير من سقوط الرؤساء لكن لاننا شعوب مسكونة بالهاجس السياسي الذي طغى على الاهتمامات الفكرية الثقافية وحراك المجتمع في الاتجاهات المختلفة ركزنا فقط على متابعة مصير الحكام.
من المشاهد التي ادهشتني وما تزال مشهد الطفل الليبي الذي لم يتجاوز السابعة من عمره والذي ظهر في اول ايام الثورة الليبية على قناة الجزيرة وهو يخطب بكلمات قوية وصادقة وبلهجة بدوية قحة «يا معمر أخطانا.. انت وعويلتك» وكلمة اخطانا عندما يقولها البدوي فهي تعني اكثر من كلمة «إرحل» او «اذهب» فهي كلمة تحمل الوعيد والتهديد وتعني «اذهب واخطى شرورنا فقد طفح كيلنا». المشهد الثاني الذي ما يزال عالقاً بذاكرتي واذا تذكرته انتفضت كما العصفور بلله القطر هو مشهد الفتاة الليبية التي لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها عندما تحدثت ?مراسل الجزيرة في الايام الاولى للثورة مخاطبة القذافي «ندبروك ونطلعوك بالسيف» وايضا كلمة «ندبروك» اي نتدبر امرك.. والتدبير لن يكون حوارا بل بالسيف ولم يخب النشامي في ليبيا ظنها فقد احكموا التدبير رأياً وسيفاً ورصانة فلله درها ودرهم. اثنان واربعون عاما من حكم العقيد المستهتر لم تسلب المجتمع اصالته وثباته وهيبته فها هو القاضي مصطفى عبد الجليل يعيد للاذهان ثبات عمر المختار ووقاره وذاك الطفل وتلك الطفلة تدعوان الباحثين وعلماء الاجتماع لمزيد من الدراسات حول خصائص المجتمعات وقدرتها على تمسكها باصالتها وقيمها ومن يرى اهل شمال افريقيا يستطيع ان يعلم البشرية خصائص المجتمعات واسرارها فاذا ظهر عمر المختار فارسا مثقفا يحاور الغرب كتفا بكتف ويدير امر شبابه الثائر بابوية وحنكة فان في تونس والمغرب الف ابن خلدون يتدارسون ويفكرون ويبحثون وفي الجزائر الف مالك بن نبي ذاك العالم الذي ما زلنا ننهل من مقالاته كل يوم ولا نرتوي لشدة ارتباط افكاره بحياتنا اليومية وقدرتها على قراءة المستقبل وكلما قرأت مقالاً لمالك بن نبي طاف بذهني بيت المتنبي الذي مدح به احدهم:
تجاوزت حد البلاغة والنُهى
الى قول قوم انت بالغيب عالم
اما في مصر فان الوضع كان مختلفاً - فامر الثورة المصرية كان اكبر بكثير من اي تنظيم سياسي او مؤسسات او جماعات بعينها فقد كان للشأن الثقافي الفكري الذي رفد المجتمع المصري بمختلف شرائحه بالوعي والادراك والفهم الذي تراكم نتيجة الافكار المتعلقة بالحقوق والكرامة بدءاً من المسرحيات التي تتناول الشأن السياسي والتي تم انتاجها منذ الستينيات حتى بلغت ذروتها في الثمانينيات حيث اصبحت السخرية من التناقضات في السياسات والفساد الاداري والاخلاقي واضحة كما في مسرحية على الرصيف التي سخرت من الانفتاح الاقتصادي وما تبعه من فساد وخلخلة في المجتمع المصري ومسرحية فارس بني خيبان وغيرها كثير هذا بجانب المسلسلات والافلام التي تناولت كثيرا من العلل الاجتماعية بالاضافة طبعا للكتب والمقالات التي تنشر في الصحف السيارة والمجلات المتخصصة. واذا كانت الثورة في مصر ثورة شباب فان الآباء الذين قاموا بتربية هذا الجيل في ظروف العمالة السياسية المزرية والفساد الاداري وتردي الخدمات يستحقون التحية ولا يستطيع احد ان يرى جموع الشباب المصري المسلح بالمعرفة ولا يترحم على عبد الوهاب المسيري الذي رحل قبل ان يرى ثمار افكاره وهناك من الشخصيات المصرية التي تمتعت بالحضور والهيبة والكارزيما ما جعل اي مواطن مصري او اي مواطن في المنطقة يحس بان هؤلاء العمالقة قد بنوا لنا سقفاً من الإباء والكرامة يجب ان لا نرضى باقل منه ومن الصدف ان توفي احد هؤلاء العمالقة اثناء الاعتصامات في ميدان التحرير الف رحمة على المحترم سعد الدين الشاذلي لقد كانت وطنيته تبعث الطمأنينة والفخر في نفوس الشعب المصري بينما تثير طلة من اتى بعدهم الاشمئزاز والاحباط معاً.
أما في اليمن فقد كانت النساء اليمنيات هن النور الذي اضاء سماوات المرأة في قرطاج وبنغازي ودمشق والبحرين وصنعاء وحضرموت وستنتقل شعلة المجد والحق لتضيء سماوات كُثر... التقيت باحدى الاخوات المصريات المثقفات اللائي جمعن بين الثقافة والسياسة والحضور الشرقي المميز قصدتها زائرة ايام الثورة المصرية في بدايتها بغرض الاطمئنان عليها وعلى اهلها جلسنا جلسة هادئة ولما بدأ السؤال عن احوال الاهل في مصر ادهشتني جداً اذ كلما سألتها عن مصر وعن ميدان التحرير كانت تجيبني بانبهار وفرح غامر وبفخر كبير عن النساء اليمنيات ولما كنت أعلم انها من القاهرة وانها نشأت في المدينة قلت في نفسي انها لا تدرك جسارة البدويات ونساء الريف عندما يتعلق الامر بالكرامة وكأنها قرأت ما في نفسي فاجأتني قائلة ان ما يجعل نساء اليمن في الصفوف الاولى هو الوعي الذي نشأ جراء نشاط منظمات المجتمع المدني خاصة منظمات حقوق الانسان والعولمة..الخ مرة اخرى احتفظت لنفسي بالرد بان الخصائص النفسية الاجتماعية للنساء البدويات لها القدح المعلى وان تم رفدها بالوعي بالحقوق ومع ذلك كنت في اعماقي ادرك طبيعة المجتمع اليمني السياسية والاجتماعية والتي كنت اخشى ان تقهر النساء مهما كان حماسهن متقدا او وعيهن بالحقوق عالياً وقد سرح خالي بعيدا الى عدن 6891م عندما اشهر الرفاق اعضاء المكتب السياسي الواحد رشاشاتهم في وجوه بعضهم البعض حينها لم يقضوا فقط على حزبهم ولم يحصدوا عشرة آلاف قتيل جراء ذلك الفعل الطائش بل قضوا على بذرة المجتمع المدني التي بدأت تتشكل في عدن وحضرموت ومن ابناء الموظفين والعمال في الميناء والمصفاة ومن ابناء التجار في حضرموت ليساهموا في بناء المواطنة جنبا الى جنب مع ابناء البادية والريف في كافة ربوع اليمن وبذلك حجزوا اليمن في مرحلة ما قبل الدولة وما قبل المؤسسات ليتم تسييس القبائل بل و«عسكرتها» تماماً كالحالة التي نعيشها نحن في السودان الآن وآثرت ان لا اناقشها في هذا فهي بعيدة عن طبيعة المجتمعات القبلية. لكنني شاركتها في نهاية الامر فرحتها بالنساء اليمنيات وكنت على يقين بان المجتمعات الانسانية كلها ستتشاطر الفرحة والاعجاب لكن هل يكفي هذا؟ وهل سينتهي الامر بالهتاف في الميادين؟ لم التق صديقتي المصرية منذ تلك اللحظة التي مر عليها اكثر من ثلاثة اشهر لاناقش معها تطورات الامور في مصر واليمن خاصة بعد ان نالت الاستاذة الشابة توكل كرمان جائزة نوبل للسلام التي تستحقها بل وتستحق اكثر من ذلك لان توكل كرمان لم تتحد علي عبد الله صالح الدكتاتور ونظامه الفاسد بل هي ومن معها يمثلون رأس الرمح للتصدي لميلاد مجتمع مدني جديد خارج مضارب القبيلة وهذا هو ما يجعل اعتزازنا بها وبشباب اليمن كبير لانهم الآن بدأوا يشكلون ملامح دولة المواطنة.
عندما تنهار شبكة العلاقات الاجتماعية في اي مجتمع نتيجة الفساد السياسي والاداري، وعندما تتعرض المجتمعات للقلق والتوتر والاحباط نتيجة الحروب واستنزاف الموارد وتتعطل الافكار والمواهب نتيجة انعدام حرية الحوارات الهادفة عندها وعلى مر التاريخ وفي كافة المجتمعات الانسانية تتحمل النساء العبء كله عبء تربية الاطفال وعبء تنشئة الاجيال على الحق والفضيلة، وعبء ملأ الفراغ الناتج عن ترجل غالبية الرجال عن صهوات المروءة والشهامة وسعة الصدر حينها تتحمل النساء اعباءهن الاسرية وحيدات واعباءهن الاجتماعية في اجواء يخيم عليها النكر والرصد والترغب لاخطائهن ويتحملن عبء تطوير ذواتهن سياسيا وثقافياً في مجتمعات يصعب عليهن فيها ايجاد المعلومات الحقيقية بل تملأها الشائعات التي تؤدي الى التحليلات الخاطئة كما يصعب عليهن ايجاد التمويل لمشروعاتهن الثقافية والسياسية في مجتمعات تسودها الفتن والفساد والغيرة لهذا كله واكثر فان نساء اليمن اللائي وقفن في ميادين الحرية ينادين بمبادئ وقيم العدالة الاجتماعية ويتصدين لمحاربة الفساد المجسد في النظام الحاكم يستحقن من رجال اليمن ورجال المنطقة وكافة المعمورة وقفة اجلال وتقدير واحترام.
ان اصرار نساء اليمن في كافة المحافظات على الصمود بلغ ذروته عندما «احرقن براقعهن» في الميادين العامة وقد لجأن لهذه الحيلة القديمة التي اتخذتها النساء في الزمان الماضي ليلجمن بها جموح الرجال نحو القتال او نحو الفتن واذا ما نزعت احداهن برقعها احتجاجا على موقف محدد منعا لقتال او حماية لمستجير فان الرجال ينصاعون مهما كان الموقف صعبا او متداعيا ينصاعون في التو واللحظة خاصة اذا تعلق الامر بسفك الدماء بين ابناء القبيلة الواحدة او قبائل اخرى لجأت النساء اليمنيات الاسبوع المنصرم الى حرق براقعهن في الميادين العامة حتى يعود الرجال الى مروءتهم ونبلهم ويكبحوا جماح سفههم وطيشهم السياسي ويوقفوا قتل بعضهم بعض بل وقتل الاطفال والنساء حتى لا يتحول المجتمع المدني الى صومال آخر لا سمح الله ولعل النساء اليمنيات ادركن خطورة هذا الوضع على مستقبل اليمن فقمن بحرق براقعهن لان المسألة لم تعد شأنا سياسيا بل اصبحت مسألة التزام اخلاقي بقيم المجتمع فهل النشامي من ابناء اليمن تأملوا هذه اللحظة التاريخية بنفس القدر الذي ادركته به النساء اليمنيات؟
إن حرق اليمنيات لبراقعهن في الميدان العام يعطي دليلا ساطعا بان حراكهن من اجل الاصلاح والتغيير ليس حراكاً نابعاً من ثقافة الحقوق التي بدأت مطلع الالفية الثالثة مع اهمية هذا الاعتبار انما نابعا ايضا من تحرك ارادة وقوة عزيمة البدويات وعمق ايمانهن بالفضائل والمثل العليا والبعد الاخلاقي المتعلق بالكرامة الانسانية هو ما يجعل هزيمة علي عبد الله صالح امرا واقعاً لا محالة. ان الكبت وانعدام الحريات والفساد والمحسوبية كلها في جانب والاساليب الملتوية واستخدام العنف والفتن وازكاء النعرات القبلية في سبيل اخماد الثورة كون آخر ذلك ان التحايل والاستفزاز والمكر هو ما يمد الثوار بالطاقة والدافعية للاستمرار لان الامر ينتقل من خانة محاربة الفساد الى خانة رد الاعتبار والكرامة لا حدود لها حتى لو بالدعاء على الظالم في جوف الليل فكيف بطاقة مجتمع يزحف باكمله لرد الاعتبار ولكرامته. لذلك يجب ان تأخذ المبادرات الاقليمية والدولية هذا البعد في الاعتبار. فان الشخص الذي يحاول ان يحوز على الجاه والسلطة بالفتن والعنف والاكاذيب والمكر يكون قد فقد كافة مقومات الاحترام والتعاطف ويجب على القوى الاقليمية والدولية ان لا تحاول اطالة بقائه مهما كانت?مصالحها مرتبطة ببقائه ويجب ان يدافع الناس ويقفوا مع اليمنيات باقلامهم واموالهم وقلوبهم فقد احرقن براقعهن كآخر صيحة من صيحات البحث عن النشامي.
نقلا من موقع سود انيز اولاين