إن لكل شعب الحق المطلق في ممارسة حريته داخل بلده، لكن ما نحب أن نلفت الانتباه إليه، هو أن هناك حرية بالمعنى الراقي للحرية، وهي الحرية التي لها خطوط حمراء لا تتجاوزها. وهناك حرية سلبية وهي الحرية المطلقة. وهذه الأخيرة لا يقبل بها الكل نظراً لمساوئها الكثيرة، ومن يقبل بها ويقرها فلا بد من أن يكتوي بنار سلبياتها، لكن ليس له الحق في أن يكوي بها غيره من الشعوب، إلا أن يقبلوا، ونحن كمسلمين لا نقبل بأن نكتوي بهذه النار وهذا حقنا. لأننا لانؤمن بوجود حرية مطلقة في أي مجال من المجالات. ونقول للشعوب التي تؤمن بالحرية المطلقة إذا كنتم تؤمنون بها حقاً، فلماذا تسنون قوانين وتبنون محاكم وسجون وتكونوا محامين وقضاة أليس هذا اعتداء على الحرية.
ولتقريب الصورة نضرب مثلا، لنفرض أننا في بلد يؤمن بالحرية المطلقة فإذا بشخص يسب جاره وقد يتهجم عليه بغير سبب حتى إذا سئل عن سبب الاعتداء أجاب: هذا ليس اعتداء وإنما هي حرية وأنا في بلد الحرية وقد آن لجاري أن يعرف ما معنى حرية، وهذا شخص آخر يسوق سيارته بسرعة قياسية دون أن يتوقف عند الضوء الأحمر وقد يتسبب في حادثة حتى إذا سئل عن ذلك أجاب و بكل بساطة : أنا حر وأنا في بلد يؤمن بالحرية. فهذه هي الحرية المطلقة التي نعتبرها اعتداء على الآخر و هي حرية قد تدخل الأفراد والجماعات في دوامة من الصراعات... الخ.
قد تقول هذه الشعوب إننا لا نؤمن بهذا النوع من الحريات، لذلك سننا قوانين زاجرة هي بمثابة خطوط حمراء...حتى نضمن أمن الأفراد والجماعات وبنينا السجون والمحاكم... لكننا في المقابل نؤمن بالحرية المطلقة في التعبير والمتمثلة أساساً في حرية الصحافة. لنقول لهم إنكم لا تؤمنون بحرية الاعتداء بالفعل وتؤمنون بحرية الاعتداء بالقلم رغم أن الأمر سواء والضرر واحد. فإذا كنتم تعتبرون الاعتداء ولو بالقلم حرية فإننا نعتبر رد الاعتداء حرية أيضاً.
من حكمة الحياة أن من يرضى بركوب قطارها الذي يزداد سرعة مع مرور الأيام، عليه تحمل تبعات هذه الجولة السريعة، من عوائق منتشرة على مسافات متباعدة في سكة القطار، فالإنسان يبدأ حياته طفلاً لا يفقه في الحياة شيئاً، يختار له والديه طعامه وملبسه كما يريدون، فيستسلم لأيديهم تتلاعب به كما تتلاعب الرياح بالمركب الصغير الذي يتهادى فوق صفحة المياه، ثم يكبر الطفل قليلاً ويتعلم بعضاً من السلوكيات الجديدة، لكنه لا يتعلم كلمة "لا"، فقط يمكنه أن يحتج احتجاجاً بسيطاً، لكن سيف العدالة دائماً ما يسلب من يديه، لا بأس لم تمر إلا الأيام القليلة من عمره، ما زال هنالك مراحل كثيرة من الحياة لا بد من مواجهتها، فلننتقل لها فربما يتجرأ هذا الشخص على قول كلمة "لا"، ها هو قد أصبح شاباً صغيراً وبدأت بعض المتمردات تبدو واضحة في صفحة حياته البيضاء الخالية من أي تمرد أو عصيان ذي نتيجة تذكر، ها هو قد نجح في نزع يد الأسرة الضاغطة على عنقه ولكن الخامس والعشرين من يناير غيَّر وجه الحياة في مصر والكل يجمع على أن ما قبل ثورة الشعب المصري ليس كبعدها، فتعالوا معي أيها الأحبة الأفاضل نعدد مزايا هذه النقلة النوعية وما حدث من تغيير إيجابي مازال يتوالى علينا :
1. أظن أن أهم مكاسب الثورة هي كسر حاجز الخوف لدى المواطن المصري الذي تكلم وهتف وصرخ وطالب بعد فترات من الخرس الاجبارى أحياناً والاختياري أحياناً أخرى نتيجة للإحباط وفقدان الأمل الذي أصاب كل قطاعات الشعب بلا مبالغة.طالب الشعب المصري بإسقاط النظام والكشف عن الفساد ومحاكمة الفاسدين والمنتفعين من بقاء النظام بهذا الترهل.
2ـ التعاضد الشعبي والتكاتف الغير مسبوق الذي ظهر في ميدان التحرير وكل ميادين مصر وعودة القيم النبيلة في المجتمع ولفظ السلبيات وعودة البشاشة والأمل على وجوه أهل مصر وشعبها الذي بات ينظر إلى الغد على اعتبار أن القادم أحلى.
3. تخلى الشباب الفترة القادمة عن فكرة الهجرة توقعاً منهم بحياة أفضل، فالشباب اليوم يشعر ولأول مرة أن مصر وطنه الحقيقي وليس منسوبا له فقط علي البطاقة، فالبلد لم تعد بلدهم. البلد بلدنا نحن،ويكفينا أن نرى جملة "أنت مصري إرفع رأسك" التي تتردد الآن.. كم تركت هذه الجملة أثرا رائع داخلنا جميعاً.
4. تغيير لهجة الخطاب من المسئولين الرسميين إلى عامة الشعب، فجاء عصر الوزير الذي يخرج على شاشات التلفزيون موضحاً بياناً أو مجيباً على استفسارات أو مفسراً لقرار.
5. بعدما كانت الشرطة والشعب في خدمة سيادته.. أصبحت الشرطة في خدمة الشعب.
6. تغيير واضح في سياسات واتجاهات الإعلام المصري الرسمي الذي بدأ يستفيق ويغير من أسلوبه ونتمنى المزيد.
7 .الاعتراف بانعدام الأحزاب السياسية في مصر وتكوين كيانات بديلة مثل ائتلاف الخامس والعشرين.
8. تحقيق المرأة لمكاسب كثيرة أهمها إثبات أنها قادرة على الفعل الذي يؤدى إلى التغيير وقادرة على تحمل مسئولية في حجم المشاركة في إشعال ثورة والصمود في صفوفها حتى الشهادة، فحصلت بذلك على الحرية والمساواة بالدم لا بقرار جمهوري، وأثبتت قدرتها على تحمل عبء التغيير والتطوير والتطهير بالفعل لا بالكوته.
إن الحرية التي نريدها لابد أن يظهر تأثيرها داخل معاملنا ومصانعنا وأبحاثنا وجامعاتنا ومدارسنا. نريد من الحرية أن تكون دافعنا نحو تحسين الإنتاج والإخلاص في العمل والتفاني في البحث ووصل الحلقة المفقودة بين الابتكار والتطبيق. نريد من حريتنا ألا تكون تعدياً على حقوق الآخرين وانفتاحاً غير مبرر على مبادئ غربية دخيلة نبتت في شق سلبي في ظل الحرية المطلقة.نريد أن نتلافى الأخطاء التي وقعت فيها الحرية المطلقة في الغرب ممن سبقونا في ميدان الحرية ونأخذ الايجابيات وان نستوعب منها دروساً ودروساً حتى تكون حريتنا رشيدة بعيدة عن الانحراف والتشويه..
أتمنى ان يحدث نوع من التوافق بين الحرية الفردية المكفولة للفرد والحرية الاجتماعية بحيث لا تتعدى حرية الفرد حدود حرية المجتمع ولا يحجر المجتمع على الحرية الفردية المكفولة لكل فرد ولكن تتوافق وتتناغم جميع الحريات في إطار من الحق المكفول لكل من الفرد والمجتمع في ممارسة حقوقه وحرياته.
لا شك في أن من أفراد الشعب يحتاج لزجاجات كاملة من الحرية لكي ينمو نشاطه الإنساني والأكاديمي والفكري نحو التقدم والرقى، كما أن هناك من الشعب من يلزمه فقط قطرات قليلة من الحرية.
إننى اقصد من كلامي أن تطبيق مبدأ الحرية لابد أن يتم بخطوات تدريجية وليس خطوات واسعة مع وضع حدود وضوابط للخارجين عن تقاليد المجتمع وعاداته وثقافته. إن المتربصين بالحرية كثر يريدون أن يجدوا مناخاً مناسباً حتى يتسنى لهم نفث أفكار مسمومة ظلت حبيسة بداخلهم طيلة عقود.
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبير في القانون العام
د. عادل عامر
سلبيات الحرية المطلقة 17376