رائحة الدم الأحمر القاني تفوح في الأرجاء.. وأنفاس الموت تسمع بين الفينة والأخرى هنا وهناك.. وذلك النصر المؤزر لم تكتمل بعد دعائم فرحته.. وكل شيء يجبرك على التفكير في كل شيء..
الصمت.. السكون.. وحتى هبات النسيم التي تجود بها الطبيعة على الوجوه.. تبعث هي الأخرى على التساؤل والتفكير مرارا وتكرارا بكل شيء وقبل حتى أن تضع رأسك على (مخدتك) وتنام قرير العين..
هناك في القبور أجساد تمزقت.. وأرواح تحوم في فضاءات الكون.. وخلف جدران المنازل دموع ثكلى أغرقت أصحابها وأنين أطفال يشتاقون لصدر أبيهم الدافئ وكلماته التي تبعث فيهم الأمل والشجاعة والصبر ومواجهة الحياة التي لا ترحم..
تسير في شوارعها.. أزقتها.. تلاحظ ابتسامة كل أولئك الذين سقطوا من أجلها وأفنوا حياتهم في سبيل أمنها وأمانها وقدموا أرواحهم على أكفهم (رخيصة) لتسمو هي وتعلو ويأمن أهلها وينعموا براحة البال والسكينة..
الكل يعتقد بل يجزم أن الجدران والشوارع لا تبكي.. لا تئن.. لا تتألم.. بل يؤكدون أنها صماء.. خرساء.. جماد.. لا إحساس فيها ولا رواح ولا حتى مشاعر.. أما أنا فأقول لهم " خسئتم " اما تسمعون عويلها؟ ألا تشاهدون دموعها؟ ألا ترون دمائها؟ هي تئن لأجلكم.. هي تتمزق حسرة لحالكم.. هي تتسأل بصمت فاضح صدع أرجائها وتقول بلسان المكلوم ويحكم ماذا حل بكم؟؟
كنتم قبلة الزائرين.. كنتم منبع الثائرين.. يعانقكم النسيم قبل الأحضان وتعشقكم الأسماع قبل العيون كل حين..
تناقض غريب.. وحال أشدة غرابة.. تبدلت الوجوه وتغيرت الملامح وكشر الكل عن أنيابه واحتدم الصراع وجن جنون الأطماع حتى طل من الأحداق الحقد الدفين.. بالأمس لم تكن تعنيكم المناصب , لم تكن تمثل لكم شيء الأموال.. لم تبحثوا قط عن جاه.. عن سلطان.. جل همكم أن ينعم الآخرون بالأمن والأمان وراحة البال دون أن يقلق سكينتهم غاز أو مستبد أو ظالم أو طامع..
هكذا كان يظهر جليا للعيان.. حتى تيقن الكل أن مثلكم قلة في هذا الزمان.. كانت قلوبكم تنبض في ذات الوقت.. كانت دماؤكم تنساب في ذات الأوردة.. كانت أحداقكم تروي تربتكم كلما أشتد بها البلاء..
لم تكونوا ممن يأكلون لحم (المتردية) ولا ممن يقبلون بلحم النطيحة أو بقايا ما أكلت الكلاب, ولم يكن للمآرب الشخصية والغايات الدنيوية في دواخلكم أي مكان , بل كنتم كالجسد الواحد إذا أشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.. كنتم كالبنيان يشد بعضه بعض ويساند بعضه بعض..
واليوم فاحت رائحة الحقد وطل من الأحداق (كغول) يبحث عن أي شيء يلتهمه ويشبع به نهم جوعه الذي أتى على الأخضر واليابس غير مكترث بأحد ولا مبال بأرواح غادرت أو أجساد تمزقت أو عيون أذرفت..
تناقض غريب وحال اشد غرابة وتغيير مفاجئ مخيف ينذر بهول مصيبة تلوح أطيافها في الأفق المظلم.. حقد..كره.. بغض.. عداء.. تناحر.. اقتتال.. كل هذه وسائل حتما تؤدي إلى القطيعة وإشعال فتيل الأزمة ولن توصل إلى روما أو إلى بر الأمان..
كل هذا يسيل منه لعاب الطامعين والمتربصين.. ويفتح عيون الحاقدين المتربصين الذين يقتاتون على أكوام المشاكل ويعيشون في مستنقع الفوضى والعبثية والخلافات وينتهزون (فرص) التمزق والفرقة والشتات وينقضون على أشباه الرجال بعد أن يحطمهم العداء وتفرقهم الأطماع وتمزقهم الأحفاد..
والأغرب من هذا أن كل ما قلناه بالأمس وحذرنا منه بات اليوم حقيقة جلية واضحة للعيان لم تستطع أن تحجبها تلك الابتسامة المصطنعة وتلك الأحضان المزيفة وذلك الحب (الهش) الذي كان أوهن من بيت العنكبوت.. وتقاتل أشباه الرجال مقابل حفنة من المال وحط الخوف والوجل رحاله على أعتاب المنازل وتخوم المدينة لتنكس تلك الراية وتطأطئ تلك الهامات وتذوب تلك الشجاعة ( كقطعة ) ثلج في صيف عامنا الحار..