إن اللجوء إلى استعمال العنف وسيلة العاجز، وبتعبير أدق الفاشل؛ الذي لا يمتلك الحُجة، وكلما كان الفشل ذريعاً تجاه حُجة الآخر يلجأ الفاشل الذي بيده القبضة الأمنية إلى استعمال أشد وأنكى لأنواع العنف؛ ولعل القتل بالنار أو الحريق هي وسيلة تحتل الدرجة الأولى من حيث جرأة القائم بها؛ لأنها من خاصيات القوي العزيز سبحانه؛ والذي يلجأ إلى استعمال هذا الأسلوب من التعذيب, إنما ينازع الله في جبروته وعزته وبأسه، لأنه" لا يحرق بالنار إلا رب النار"، وكل من صنع ذلك هو يرى من نفسه أو يُري الناس من نفسه إلها من دون الله؛ فهو يضحك ويبكي ويميت ويحي.
والقرآن الكريم قد نقل لنا صوراً من هذا الإجرام وصوراً من الطواغيت الذين لجأوا إلى استعمال هذا الأسلوب الإجرامي والبشع؛ وقد خلد القرآن الكريم قصة أصحاب الأخدود "النار ذات الوقود" مع ملكهم الذي ادعى الألوهية؛ كما أن الأنبياء أنفسهم لم يسلموا من نوع هذا العقاب البشع؛ حيث نقل لنا القرآن قصة خليل الله إبراهيم مع النمرود، وهذا الآخر قد جعل نفسه أيضاً إلهاً من دون الله.
إذاً فالقتل باستعمال الحرق, ارتبط بالطواغيت الذين ارتكبوا جرمين؛ جرم منازعة الله في ذاته، وجرم استعمال خاصية الإحراق التي هي من حقه ومن خواص الله العزيز الجبار.
وفي التاريخ الحديث وفي القرن الواحد والعشرين تحديداً -عصر النهضة العلمية والثقافية- حظيت شعوبنا العربية بعقول جامدة لم تتخل عن طريقة الطغاة القدامى الذين نصبوا من أنفسهم طواغيت لا يُسألون عن أفعالهم وهم يَسَألون، لهذا لم يجد طاغية اليمن حرجاً في أن يصنع صنيع الطغاة الذين سبقوه والذين جعلوا من أنفسهم آلهة، ولم يتحرج كذلك أن يتقمص الثوب نفسه، حيث أعطى لنفسه الحق أن يفعل ما يشاء ومتى يشاء.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تعز ؟ ولماذا استعمل معها النظام هذا الأسلوب الإجرامي بالذات دون غيرها أي أسلوب الحرق ؟ ... كلنا يدرك أن تعز هي عاصمة العقول والوعي، "الثقافة" وهذا مناخ لا ينسجم مع نظام متخلف يقوم على الجهل ولا يتحرك إلا في الظلام؛ وحيثما تُذكر تعز تذكر الثقافة والوعي؛ لهذا مثلت الثورة في تعز وعدن /ثورة الوعي/؛ وأينما تتسع مساحة الوعي في اليمن؛ يتلاشى معها النظام المتخلف الذي يرضع من الجهل؛ وبهذا كان رد فعل النظام؛ أي أنه" لكل فعل رد فعل مساوٍ له بالمقدار ومضاد له في الاتجاه"، صحيح أن رد فعل النظام المتخلف كان يتضاد مع ما يحصل في تعز من وعي وثقافة وفكر مستنير؛ لكن أبداً لم يكن رد فعل ذلك النظام موازياً لرد فعل شباب تعز؛ لهذا كان نصيب تعز ومعها عدن الذي تشاركها الوعي نفسه؛ متقارباً من ناحية تساوي كل منهما بالاضطهاد من قبل النظام.
فتعز – مثلاً – لأنها تمثل قمة الوعي الثوري؛ كانت أول محافظة جعلت للثورة اليمنية الحديثة "مقعد صدق", حيث سبقت صنعاء –العاصمة- في الإعلان عن ساحة الحرية والتحرير، وليس ذلك غريب على عاصمة الثقافة، لهذا كانت تعز الغصة الذي أطبقت على حلق النظام المتخلف؛ فهذا الأخير لا يستطيع أن يعشعش ويفرخ إلا في الظلام وحيث الجهل والتخلف، وتعز كانت تسبق جميع المحافظات وعياً وثقافةً، لهذا لم يملك نظام الظلام إلا التواري والاختباء في الوسط النوراني العقلاني الواعي.
إذاً تعز الوعي والثقافة لا مكان فيها للمتخلفين والجامدين؛ لهذا أراد المتخلفون أن يطفئوا ذلك النور المتمثل في الوعي، من خلال تلك الجريمة التي شهدها العالم وفي الوقت نفسه شهد لتعز بالقوة التي لا تقهر، وبالذهب الذي لا يصدأ بل زادته نار المحرقة بهاءً وبريقاً، لقد حاول النظام الظلامي المتخلف أن يطفئ نور تعز فأبى الله - ثم أهل تعز - إلا أن يتم ذلك النور، ولو كره المتآمرون.
د.حسن شمسان
تعز.. الحلية التي يزيدها الحرقُ بهاءً وبريقاً ! 1700