سألني أحد زملائي الذي سافر معي إلى بغداد لدراسة الماجستير في العام 1998: لماذا أنت مختلف هكذا؟.. كنت قد حدثته عن برنامج علمي لتطوير كلية الحقوق وقلت له سأنفذه إذا صرت عميداً فيها وستكون مستشاري, بل أنت مستشاري من اليوم حتى نصل.
زميلي إصلاحي النشأة والفكر تربى على الانقياد خلف حزب من الأحزاب اليمنية وهي لا تختلف كثيراً في أسلوبها في التأثير على المنتمين لها وذلك في الفترة التي تلت قيام الوحدة بعد العام 1990 وهي فترة تاريخية معروفة بخصائص وإيجابيات الأحزاب وسلبياتهم في ممارسة العمل السياسي خلال هذه الفترة من تاريخ اليمن الحديث..
كما أن زميلي الذي سألني هذا السؤال كان متضجراً من الفوارق بين أسلوبي وأسلوبه في التفكير وفي اختيار الأسلوب للوصول إلى الهدف أو إمكانية ابتكار أساليب معينة للوصول إلى هدف معين.
ظل السؤال يدور في ذهني لماذا أنا مختلف عنهم وماهي الخصائص والمميزات أو السلبيات التي جعلت هذا الاختلاف وذهبت بتفكيري إلى بعيد, حيث النشأة الأولى نشأة علمية لا علاقة لها بالحزبية, فوالدي الذي كان أستاذاً جامعياً لا هم له سوى البحث العلمي والبحث عن الحقيقة وكان يقرأ للجميع سعياً وراء البحث عن الحقيقة دون الارتباط بفكر معين أو تفضيله على آخر, كان ومازال بيته عامراً بالكتب من شتى الألوان والأفكار وكنت في الطفولة في مصر العزيزة على قلبي يصطحبني لزيارة معرض الكتاب وكان يأتي معي لزيارة معرض كتاب الأطفال نشتري منه العديد من القصص والكتب العلمية ونلتقي بالباحثين الذين يمسكون في أيديهم استبيانات بحثية, حتى إن إحدهن في احد هذه المعارض سألتني ضمن استبيان: من هو ياسر عرفات؟.. أجبتها: رئيس فلسطين.. وكان أبي بجوارنا يراقب الحوار ومدى دقة الإجابة.. وطوال بقائي معه وحتى خروجي في بيت مستقل في العشرينيات من عمري لم يوجهني للارتباط بأي فكر, وكان يسعى فقط بكل ما أوتي من قوة لبناء عقلية علمية في جو علمي مناسب, حتى ارتباطي بحزب المؤتمر الشعبي العام لم يكن يوافق رغبته وكان نصيحة من أحد زملائه وأساتذتي بكلية الشريعة والقانون الأجلاء, يومها قال لي: لن تكون معيداً بغيرها.. يقصد بطاقة المؤتمر التي ظلت بطاقة وظل التأثير بأسلوب أبي العلمي هو المسيطر الأول على بناء عقليتي.
كما أن دراسته العليا في مصر مكنتني من أن أنشأ في بيئة مختلفة, هي البيئة المصرية بكل ما لها من مميزات وإيجابيات معروفة والمصريون معروفون بولائهم لبلادهم, كما أن دولتهم قديمة وسلطاتها الثلاث راسخة وجيشها جيش وطني له مبادئ وأسس بنيت على أساس علمي ولهم باع طويل في العلم والثقافة جعلت الطفل المصري من أذكى أطفال العالم ويعجز الحرف على وصف ميزات وخصائص هذه البيئة الغنية التي شهد الله لها في كتابه..
كما أن الشريعة والقانون بما لها من فكر رباني متوسط لا شدة فيه ولا لين منزل من رب العالمين وبما يحتويه منهجها من مقارنات فقهيه وأصول فقه تدرب العقل على التحليل والتفكير والإبداع وحرية الاختيار دون تبعية أو تقييد كان له الأثر الكبير في بناء عقليه علمية تؤمن بالرأي والرأي الآخر..
وما أتاحه لي القدر من دراسة الماجستير في جامعة بغداد والدكتوراه في صعيد مصر, كل ذلك أتاح لي أن انهل من علوم وثقافات مختلفة تكمل نقص بعضها البعض وأن أتأمل بيئات مختلفة وغنية..
ثم إن خمسة عشر عاماً في جامعة تعز, في تعز الثقافة والثورة, جعلتني أقف وبعمق أمام خصائص هذا المجتمع محللاً وباحثاً ودارساً للهيكل الإداري في مرفق جامعتها, أناقش الخلل والصعاب في بناء هذا الهيكل بعين رجل القانون الذي يقيس الحقوق والحريات والضمانات القانونية في مرفق مثل جامعة تعز, متأملاً في الوقت نفسه العلاقات الاجتماعية في هذه البيئة الجامعية..
كل ذلك يا زميلي العزيز خلق شخصيتي وكون عقليتي التي تراها اليوم تحلل وتفكر محاولة الإبداع في عالم يصعب فيه مجرد التمتع بحق التفكير والتأمل الذي هو سنة أوجبها الله على خلقه.. وزملائي يختلفون عني كثيراً وحتى عن زملاء أبي الذين درسوا معه الدراسات العليا مثلنا في ثمانينيات القرن الماضي, فالبيئة اليمنية بعد العام 1990 تختلف في تأثيرها على بناء عقلية الجيل.. الأدنى وللدلالة والاستشهاد يمكن النظر في رسالتي للماجستير أو رسائل ومؤلفات أستاذي الفاضل الدكتور/ على الشرفي وقدراته وإمكانياته وغيره من أبناء جيله كثر..
إن الاختلاف بالنسبة لأجيال ما بعد العام 1990 له أسباب كثيرة, فهم يذهبون في الدراسات العليا إلى بلدان أخرى مثلنا ولكن يهتمون بالدراسة, بحث يتعلق موضوعه باليمن دون الاحتكاك المفيد الذي يثري العقلية اليمنية, فهم يظلون في الغربة في إطار مجموعة منغلقة, بل مجموعات منغلقة منهم أنفسهم تتكون من خلال أحزاب ينتمون إليها أو فئات اجتماعية معينة, وإن كان لهم احتكاك ببعض أساتذتهم فهو احتكاك سلبي يؤثر في الأستاذ وليس فيهم, لأن هدفه ليس هدفاً علمياً ولا يتأملون البيئة التي يدرسون فيها بصبر واستمتاع, بل يعتبرونها غربة وقيداً لهم.
د. ضياء العبسي
تأثير البيئة اليمنية على بناء الأجيال 1615