اندلعت بالأمس تظاهرات في العاصمة الإيرانية طهران وبعض المدن الإيرانية احتجاجاً على رفع الحكومة لأسعار الوقود، وبعد متابعة لتغطية الفضائيات العربية لهذه التظاهرات الاحتجاجية أدركت مدى تخبط بعض هذه الفضائيات وبعدها عن المهنية والموضوعية، حيث حملت هذه التظاهرات فوق ما تحتمل حيث أبرزت في تغطيتها للحدث الإيراني توجهات وسياسات ممولي هذه الفضائيات تجاه إيران، فهي كعادتها رأت أن هذه التظاهرات ثورة شعبية عارمة ستنتهي بسقوط النظام الإيراني وهذا غير صحيح، فهذه التظاهرات هي احتجاجات حقوقية تحدث كثيراً في طهران مثلها مثل بلدان عديدة يعبّر مواطنوها عن آرائهم بشكل سلمي وحضاري بالتظاهر السلمي إذا رفعت الأسعار وانعدمت فرص العمل وازدادت معدلات البطالة والفساد.
كباحث في الشأن الإيراني فقد كنت أتوقع أن تتخذ الحكومة الإيرانية خطوة كهذه بعد أن وجدت نفسها مضطرة لرفع أسعار الوقود لتغطية العجز الكبير في الموازنة العامة في ظل تراجع مبيعات النفط الإيراني وعجز الدول الأوربية عن الوفاء بتعهداتها المالية لإيران وخضوعها للعصا الأميركية وانصياع الكثير من الدول والشركات في العالم للقرارات الأميركية بمنع استيراد النفط الإيراني وتراجع الصادرات الإيرانية غير النفطية كذلك وكل هذه العوامل دفعت الحكومة لاتخاذ هذه الخطوة المرة التي ستثقل كاهل المواطن الإيراني لكنها أقل مرارة من لجوء إيران للاقتراض من بعض الدول والجهات الدولية أو تقديمها لتنازلات كبيرة في سياستها الخارجية وهو ما يبحث عنه الجانب الأميركي وحلفاءه في المنطقة العربية الذين كانوا يتوقعون أن تركع إيران تحت ضغط العجز المالي في موازنتها المالية والتراجع الاقتصادي الإيراني وأن تستسلم وتأتي إلى طاولة الحوار دون شرط وهو ما لم يحدث ولا أتوقع أن يحدث.
هذه الاحتجاجات التي تتزامن مع احتجاجات حقوقية في العراق ولبنان، حيث لإيران نفوذ كبير في هاتين الدولتين هي احتجاجات حقوقية مطلبية مشروعة ولكنها برأي الكثير من المتابعين والباحثين في الشأن الإيراني لن تصل إلى ثورة شعبية عارمة تنتهي بسقوط النظام الإيراني كما يتمنّى البعض من خصومه وإن كانت تخصم من رصيد وشعبية النظام الإيراني لدى المواطن الإيراني الذي ينتظر منه ايجاد حلول لهذا التراجع والحصار الاقتصادي وبذل كل الجهود والسياسات الناجحة داخليا وخارجيا والتي تخفف من معاناته وتنعش الاقتصاد الإيراني دون تفريط بالثوابت وتقديم التنازلات على حساب كرامة إيران .
منذ احتجاجات الثورة الخضراء عام 2009م والتي استمرت لأشهر وبعض وسائل الإعلام العربية والدولية تبشر بسقوط النظام الإيراني وبعض الجهات تحاول السعي لإسقاطه وتبذل الكثير لدعم المعارضة الإيرانية في الخارج ولكن لا النظام الإيراني سقط ولا المعارضة الإيرانية نالت ثقة وشعبية معتبرة في الداخل بالعكس كلما زادت العقوبات الأميركية والحرب الاقتصادية على إيران والدعم للمعارضة كلما أزداد النظام الإيراني قوة وترسخ وجوده في الداخل الإيراني فقد صارت لدى المواطن الإيراني قناعة بأن إيران تتعرض لأبشع حصار اقتصادي في التأريخ ولذا صار يتفهم الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه والإجراءات المرة التي اضطرت لها الحكومة الإيرانية.
هناك في الداخل الإيراني نقاشات حادة حول ما انفاق إيران على نفوذها الإقليمي وحلفائها في المنطقة وما هي أولويات إيران في الجانب وماهي مصلحة المواطن الإيراني في هذه المبالغ التي تصرف على حلفاء إيران ونفوذها في المنطقة؟
فالبعض يرى بأن المواطن الإيراني أولى بهذه المليارات التي تصرف لحلفاء إيران في المنطقة خصوصا في ظل هذا الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه المواطن الإيراني وهناك رأي آخر بأن هذه المبالغ التي تصرف على حلفاء إيران ونفوذها في المنطقة والعالم هي ضرورة لابد منها وهي سياسة ستثمر فيما بعد وتؤتي أكلها أضعافا مضاعفة وهذا النقاش والجدل هو توجه صحي في كل الظروف والأحوال.
وللأمانة مثلما نجح النظام الإيراني في تحقيق الكثير من الإنجازات في الداخل والإقليم، رغم كل الضغوط والعقوبات والحصار الاقتصادي، فقد فشل النظام الإيراني في محاربة الفساد في الداخل وإنهاء البيروقراطية والروتين والفساد المالي والإداري، رغم محاولاته وجهوده التي يبذلها في هذا المجال ولكن لو نظرنا مثلا إلى جارة إيران تركيا سنجد ان تركيا لا تمتلك حتى ربع الثروات والموارد التي تزخر بها إيران وتتعرض أنقرة بين الحين والآخر لعقوبات أميركية قاسية ويصرف النظام التركي مليارات من الدولارات على ملايين اللاجئين العرب فيها ” مؤخرا قال الرئيس التركي أردوغان إن بلاده صرفت 40 مليار دولار على اللاجئين في تركيا منذ سنوات ” ومع هذا فلا مقارنة بين الاقتصاد التركي القوي والاقتصاد الإيراني المتدهور وبين دخل الفرد في تركيا ودخل الفرد في إيران وكذلك مستوى الخدمات رغم أن عدد السكان متقارب إن لم يكن متطابق وكل هذا يرجع إلى سياسة تركيا الناجحة في محاربة الفساد والبيروقراطية واتخاذ سياسات ناجحة جدا في المجال الاقتصادي وهو ما تفتقد إليه إيران.
قلت سابقاً وأكرر: ايران دولة مؤسسات ونظامها لن يسقط بهذه التظاهرات الحقوقية المشروعة التي هي حق للشعب الإيراني وسيفشل البعض في حرفها عن أهدافها الحقوقية المشروعة مثلما فشلت العقوبات الأميركية والحرب الاقتصادية المفروضة على إيران في تحقيق أهداف أميركا وحلفائها في المنطقة بل لقد أكسبت هذه العقوبات النظام الإيراني مناعة كبيرة ومنحته خبرة كافية بتجاوز هذه العقوبات والتحايل عليها فصار لديه نفس طويل وصبر استراتيجي وهو يراهن على رحيل ترامب من الإدارة الأميركية ومجيئ رئيس أميركي جديد بسياسة جديدة تجاه إيران يعيد العمل بالاتفاق النووي الإيراني ويرفع الحصار المفروض على إيران كما تراهن إيران على تمرد دولي على السياسات الأميركية المفروضة وإن تأخر وعلى أن تراجع بعض الدول العربية سياستها تجاه إيران مثلما هو رهانها على صبر الشعب الإيراني الذي منح الحكومات الإيرانية المتعاقبة ثقته ولم يفقد أمله في قيادته بعد .
ومثلما لن يسقط النظام الإيراني بهذه التظاهرات كما يتمنى البعض فلن تغير إيران سياستها في المنطقة ولن توقف دعمها المالي والسياسي لحلفائها في المنطقة ولن تتنازل عن ثوابتها ولن ترضخ لحوار يجردها من امتيازاتها ونفوذها وعوامل قوتها ووجودها في المنطقة ولا يرفع العقوبات المفروضة عليها ويحقق لها ولو الحد الأدنى من مطالبها .
باحث في الشأن الإيراني