محمد ناصر الحزمي
ولت الدهور وانقضت الأيام على تقرير بعض القضايا التي دلت عليها النصوص الشرعية وقبلتها الأمة من الناحية التنظيرية ومن الناحية العملية، ولم نجد لها مخالفة على مدى عدة قرون من الزمن، ثم يفاجئنا اليوم بعض من يناقش في هذه الأمور ويجادل فيها كمن يريد أن يعيد بناء الفقه من جديد والانقلاب على كل ثوابته بزعم التجديد، وهم من أشرت إليهم في مقال سابق باسم المعطلة الجدد، وما دعاني للتحدث عن هذا الموضوع مرة أخرى هو ما كتبه محمد الغابري في صحيفة "الأهالي "العدد" 45، والذي أردته مثالاً حياً لما ذكرته في مقال سابق من تعطيل النصوص من قبل هذه الفئة، حيث أن الغابري بادر بهجوم على العلماء بالمطلق ثم ذهب باستدراكه وتعقيبه إلى أبعد من ذلك فبدلاً من أن يراجع نفسه ويستغفر ربه لاعتدائه بالشتم والتشهير على علماء أفاضل بسبب التقائهم بالرئيس ذهب إلى أبعد من ذلك إلى البحث عن أدلة لينسف من خلالها نصوصاً قرآنية، عندما أراد من استدراكه وتعقيبه إثبات بطلان القول بولي الأمر وهذا ليس من باب العلم وإظهار الحق كما يبدو ولكن لأن هذه النصوص التي أراد نسفها تتعارض مع أفكاره ومعتقداته فهو أسير الافتتان بالرأي، وإذا كان ليس لديه مشكلة من الأحاديث ويؤمن بحجية الحديث والسنة فنقول له ماذا تقول في قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة التالية: فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرته علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله"، قال: "إلا أن تروا كفراً وبواحاً عندكم فيه من الله برهان" رواه الشيخان.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" رواه البخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدوع الأطراف" رواه مسلم، وعن أم الحصين رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: "ولو استعمل عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله أسمعوا له وأطيعوا" رواه مسلم، هذه الأحاديث تتحدث عن مصطلح ولي الأمر وطاعته بالمعروف، وأما النص القرآني الذي حاول نسفه، لا أقول بجهله ولكن بكبره فقد كابر وهو يلوي النص لياً، وسأبدأ من حيث انتهى فقد قال: "لم يكن ولي الأمر متداولاً في العهد النبوي ولا في عهد الخلافة الراشدة فقد بحثوا عن لقب ووصف فكان خليفة رسول الله، أمير المؤمنين"، وأنا سأركز على كلمتي ولي الأمر فماذا تعني أولاً كلمة "ولي" عندما نعمل عملية استقراء لمعنى "الولي" نجد أن لهذه الكلمة عدة معان، هي "الرب، المالك، السيد، المنعم، المعتق، الناصر، المحب، التابع، الجار، ابن العم، الحليف، العقيد ، الصهر، العبد، والمعتق، و المنعم، عليه" وهذه كلها واردة معروفة في لغة العرب وهذا ما يبطل استدلال المعطلون فالنصوص التي أوردها تأتي ضمن هذه المعاني وليست ذات معناً واحد، ومصدر هذه الأسماء يختلف فمثلاً "الولاية" بالفتح هي النسب، والنصرة، والمعتق، "والولاية" بالكسر هي الإمارة والولاء المعتق، "والموالاة" من وإلى القوم، وقد وجه علماء اللغة هذا التنوع والاختلاف بتوجيه جيد، قالوا يضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الكلام أو السياق الذي وقع فيه، انظر تاج العروس للزبيدي، لسان العرب لابن منظور، إذاً فهي تأتي في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، في هذا السياق بمعنى مالك الأمر.
وأما كلمة الأمر فمعناها"السيادة" ورد في سيرة ابن هشام، والطبري، وغيرهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب، يدعوهم إلى الإسلام،- قال- وأنه أتى بني عامر بن صعصعة ذات مرة فدعاهم إلى الله عز وجل، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: "الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء"، قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك. إن هذا العربي كان يفهم "أمر رسول الله" على أنه سيادة وحكم على العرب، وكما في طبقات ابن سعد، ما ملخصه: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي الحنفي يدعوه إلى الإسلام، فكتب في جواب النبي صلى الله عليه وسلم " ما أحسن ما تدعوا إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر اتبعك"، إذاً فقد طلب هوذة من الرسول أن يجعل له بعض الأمر، إمارة ما على أرض أو قبيلة وما شابهها، فأجابه الرسول أنه لا يؤمره ولا على سيابة من الأرض، إذا فالأمر هو السيادة، وهي أيضاً مصدر للأمير، فالأمير مشتق من الأمر ومن هذه القواعد اللغوية يتضح أن كلمة أمير المؤمنين تعني ولي الأمر، وأولي الأمر هنا هم الولاة وقيل هم العلماء وقيل هم العلماء والولاة، وأولي الأمر منكم جاءت بصيغة الجمع لأن ولاية الأمر قد تكون خاصة وعامة، وولي الأمر قد يكون رئيس الدولة ورئيس الجيش ورئيس القضاء ورئيس البرلمان ورئيس الوزارة أو الإدارة ورئيس البيت فكل ولي على ما استرعى، وهذا لا يمنع وجوب الشورى، فكيف إذا أبطل الغابري القول ب"ولي الأمر"؟ وكان الأجدر به بدلاً من نسف النصوص أن يتحدث عن شروط طاعة ولي الأمر، وماذا لو كان هؤلاء المعطلة في يوم من الأيام قد اعتلوا منصة الحكم -لا قدر الله- أليس من مصلحتهم أن يطيع الناس أمرهم أم سيدعوا إلى العصيان والتمرد عليهم، وأما العلماء، فالله تعالى ميزهم بالرفعة قال تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"، وميزهم بالخشية، قال تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وميزهم بأنهم أهل الثقات العدول الذين استشهد الله بهم على أعظم مشهود، قال الله تعالى:" شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، وميزهم بأن جعل كتابه آيات بينات في صدور هم قال الله تعالى: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون".
وميزهم بتكليف التبيين قال تعالى: "وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، وميزهم بأن يرجع إليهم الناس في السؤال، قال تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، وأخيراً لا أريد أن يفهم من مقالي هذا أني أدعو إلى تقديس العلماء والأمراء ولكن أدعو إلى قول الله تعالى: "وإذا قلتم فاعدلوا"، وإلى قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنزلوا الناس منازلهم"، وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى.