أقام المركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل "منارات" مساء أمس محاضرة للأستاذ الدكتور/ علي هود باعباد الأمين المساعد لاتحاد الجامعات العربية تحت عنوان "الهوية العربية الإسلامية في ظل العولمة"، برعاية وزير الأوقاف الأستاذ/ حمود الهتار.
وفي المحاضرة التي حضرها وزير الزراعة والري ووزير الأوقاف وعدد كبير من المثقفين والأدباء والمحاضرين في جامعة صنعاء الذين أثروا المحاضرة بمداخلاتهم القيمة حول الهوية العربية وتأثيرات العولمة على هذه الهوية حتى وصفها البعض بالبلطجة العالمية ومنهم الدكتور/ حمود العودي.
ولأهمية المحاضرة تقوم "أخبار اليوم" بنشرهاعلى حلقات حرصاً منها على تقديم المضمون الذي تضمنته المحاضرة للقارئ الكريم ونبدأ اليوم بنشر الحلقة الأولى.
تغطية/ إياد البحيري
العولمة
العولمة كلمه ليست عربية الأصل ، لم تستعمل إلا منذ مدة قصيرة، وهي تعريب أو ترجمة لكلمة انجليزية " "globalizationالمشتقة بدورها من glob، والتي تعني كرة أو الكرة الأرضية وهو اشتقاق حديث في اللغة الانجليزية،ويعرف معجم ويبستر "webster" الإنجليزي كلمة العولمة بالقول :"هي اكتساب الشيء طابع العالمية وخاصة جعل نطاق الشيء وتطبيقه عالميا، وتعطي المعاجم الفرنسية للكلمة تعريفا مماثلا تقريبا للتعريف الإنجليزي السابق، والكلمة المقابلة لها باللغة الفرنسية هي mondialisation"". (20 :12)
ويشير قاموس أكسفورد للمصطلحات الانجليزية الجديدة إلى مفهوم مصطلح العولمة للمرة الأولى عام 1991م واصفا إياه بأنه من الألفاظ الجديدة التي برزت خلال التسعينات مستعينة بالمستجدات التقنية وتطور علم المعلومات وآليات الاتصال.
وتعني العولمة في مفهومها المثالي بناء عالم واحد ،أساسه توحيد المعايير الكونية،وتحرير العلاقات الدولية، والسياسية والاقتصادية ،وتقريب الثقافات ،ونشر المعلومات، وعالمية الإنتاج المتبادل، وانتشار التقدم التكنولوجي، وعالمية الإعلام.
والعولمة كما هي مطبقة في عالم الواقع- فهي عملية الحاقية انتقائية ،تقسم العالم إلى عالمين:"عالم القوي الكبرى ذات المصالح المتبادلة، والمؤسسات العالمية، والشركات العالمية، وعالم الدول النامية أو الضعيفة، والعالم الثاني عليه أن يقبل دور التابع للعالم الأول، حتى طاقاتها التكنولوجية القلية التي طورت بشق الأنفس يتم استنزافها والاستيلاء عليها بواسطة دول العالم الأول.
يستعمل البعض مصطلح العولمة مرادف أو بديل للعالمية "universatism" أو العكس،ولكن هذا الاستخدام غير دقيق، فالمهتمون معظمهم يؤكدون على إن العولمة في مفهومها الضمني ومدلولها الاصطلاحي ليست هي العالمية إذ تشير العالمية إلى زيادة التعاون وتوثيق العلاقات بين الدول مع الحفاظ على سيادة كل دوله وخصوصياتها ،في حين ترى العولمة إلى إيجاد نشاط اقتصادي وثقافي وإعلامي معلوم من خلال تقليص وتهميش دور الدولة القطرية أو القومية ومؤسساتها الوطنية والسعي لجعل العالم قرية كونية وسوقاً عالمية واحدة.
الهوية العربية الإسلامية
إن الهوية هي عقلية ونفسية كآمنة في جسم الإنسان والآمة،لا تعرف إلا من خلال التفكير والسلوك. . . إي عقلية تفكر وتحلل كل شؤون الحياة. والأحداث على أساس نظرية كلية للكون والإنسان والحياة. . . ونفسية تقوم بتصرف الغزائز والميول وفق تلك النظرية أو التصور الكلي الذي تنبثق منه كل تشريعات المجتمع وأسس علاقاته قال تعالى: (( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير)) (البقرة:148) ، وقال تعالى:((قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا)). (الإسراء:84) " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " ( المائدة : 48 )
يمكن أن تعرف الهوية العربية الإسلامية بأنها الهوية التي تتكون من خلال عقلية الشعب العربي المسلم، القائمة على أساس تصور الإسلام للإنسان والكون والحياة ومن خلال نفسية الشعب العربي المسلم، التي تصرف غرائزها وميولها وفقا لأحكام الإسلام في جميع شؤون الحياة.
ويعرفها الدكتور محمد عمارة(( الهوية العربية الإسلامية بأنها جوهر وحقيقة وثوابت الأمة العربية التي اصطبغت بالإسلام منذ دانت به غالبية هذه الأمة، فأصبح (هو) "الهوية" الممثلة بأصالة ثقافتها ،فهو الذي طبع ويطبع ،وصبغ ويصبغ ثقافتها ،بطابعه وصبغته ،فعاداتها وتقاليدها وأعرافها وآدابها وفنونها وسائر علومها الإنسانية والاجتماعية وعلمها الطبيعية والتجريبية، ونظرتها للكون ، وللذات، وللآخرة ،وتصوراتها لمكانة الإنسان في الكون من أين أتى ؟ والى أين ينتهي ؟ وحكمة هذا الوجود ونهايته ، ومعايير المقبول والمرفوض ، والحلال والحرام ، وهي جميعها عناصر لهويتها))
العولمة أفاق وأفكار
يقول علماء الإسلام: إن الحكم على الشيء فرع من تصوره، ولذا فالحكم على العولمة لابد أن يبدأ بتصور واضح لها، وفهم عميق لمكوناتها،وما يمكن أن ينشأ عنها من مترتبات.
إن ظاهرة العولمة نشأت عند بزوغ الرأسمال مع تهميش السلطة ، وتزايد حركة التجارة التي كسرت العزلة الاقتصادية بين الشعوب، مما أتاح فرض الاقتصاديات القومية على العلاقات التجارية،وتوحيد الأسواق الداخلية. فقد شهد القرن التاسع عشر أوج انتشار الاقتصاد ولكن لم يصل إلى حد العولمة كما في الوقت الحاضر.
يرى"فوكوياما" المستشار الإستراتيجي والمخطط للسياسة الأمريكية الخارجية، أن انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكيك المنظومة الشيوعية،لم يضع حدا للصراع التقليدي فحسب، وإنما وضع نهاية للتاريخ أيضا، باعتباره إلى الآن تاريخ صراعات مريرة، وبتلك النهاية يميل التاريخ إلى الاستقرار عند الرأسمالية العالمية،كنظام للديمقراطية اللبرالية الغربية،وكنظام اجتماعي سياسي عالمي. كما تجاوز "صموئيل هنتغتون" المحاضر في جامعة هارفارد بأمريكا فلسفة"النهايات" التي اكتملت عند "فوكوياما" بحتمية اللبرالية كمصير للشعوب إلى حتمية"صراع الحضارات" التي هي أخر طور، أي الحلقة الأخيرة في سلسلة تطور والصراعات ،ويرى أن التاريخ لن ينهض،وان الصراع الحقيقي لن يختفي، وإنما سيكفي كل منهما بتغير مصادره واتجاهاته،وتبديل إشكاله بالتحويل في صراع دول ومجتمعات وطبقات إلى صراع ثقافات وحضارات.
تطورت العولمة مع بروز الحداثة بكونها مؤثرا في صيرورة المجتمع الغربي،وتطور الرأسمالية الغربية،فقد أعادت الحداثة وتطور الرأسمالية في الغرب ترتيب النظام الدولي وأهليته لحركة دمج وصهر في نظام اقتصادي عالمي ينبثق من الغرب وينتشر في كل الاتجاهات في العالم مظللا بقناع تفوق ثقافة الغرب وسلوكياته وتأثيرهما في شعوب العالم".
هنا يمكن أن نوضح أهم الأفاق والأفكار التي أحدثتها العولمة في العالم والقلق منها على هوية الشعوب والمجتمعات ومنها الهوية العربية الإسلامية ومن أهمها:
1) ارتباط العولمة بالثورة العلمية والمعلوماتية الجديدة التي تنتشر في العالم منذ التسعينات.
2) الثورة العلمية التكنولوجية هي التي جعلت العالم أكثر اندماجا،وسهلت وعجلت حركة الإفراد والرأسمالية والسلع والمعلومات والخدمات وجعل المسافات تتقلص والزمان والمكان ينكمش ، وساهمت في انتقال المفاهيم والقناعات والمفردات والأذواق فيما بين الثقافات.
3) إن عصر العولمة يشير إلى انه لا يوجد شعب يحترم نفسه ويود أن يكون له موقع متقدم بين الأمم الحية والفاعلة، إلا وهو يدرك أن عليه الاقتراب من العلم والمعرفة،ويأخذ بالتفكير العلمي.
4) القوة والغني والتقدم والتحضر تقاس بالاندماج في الحضارة العلمية والأخذ بمعطيات الثورة العلمية والتكنولوجية.
5) إن جوانب الثورة العلمية التكنولوجية برزت في مجال الكمبيوتر التي ضاعفت كفأته إلى الآلاف المرات التي تقوم بعمليات حسابية تحسب بالمليارات في الثانية الواحدة مع صغر حجمها.
6) لقد فتحت العولمة أفاقا جديدة، ومستجدات حديثة في مجال الهندسة الوراثية وتكنولوجية الاتصالات-وعالم الكمبيوتر بالإضافة إلى التطورات في مجال تقنيات الفضاء والطب والفيزياء المرتبطة بالثورة العلمية والتكنولوجية الثالثة والتي لانهاية لفهم أدق تفاصيلها.
7) إذا كانت العولمة تعني التدفق الحر للسلع والخدمات عبر الاقتصاديات المفتوحة على بعضها البعض، فإن بإمكان كل الدول والمجتمعات الاستفادة من مثل هذا التدفق لزيادة فرص النمو والرفاهية في كل إرجاء المعمورة،كما أن بإمكان كل الثقافات في العالم أن تستفيد من اقترابها من بعضها البعض، وأن تسخر التدفق الحر للبيانات والمعلومات والأفكار والمفاهيم لكي تتعرف على اختلافاتها،وتحترم خصوصياتها،وتعزز من التنوع الثقافي العالمي.
8) العولمة تعني بروز نظام عالمي جديد أكثر اهتماما بقضايا البيئة وحقوق الإنسان،وتدني الفقر، وإيجاد الحلول للاختلال الاجتماعي ، فان هذا النظام"العولمة" سيكون حقا أكثر استقرارا واقل تأثرا من النظام العالي القديم الذي انتهي بانتهاء صراع الشرق والغرب،واختفاء التوتر النووي بين الدول العظمي، إذا كان كل ذلك من أفاق وأفكار العولمة فهي عولمة ذات الوجه الإنساني الذي سيجد الترحيب الكبير من قبل الدول والشعوب والمجتمعات.
9) لكن النظام العالمي الجديد الذي نادي به الرئيس الأمريكي جورج بوش، وأكمل مسيرة الرئيس" بل كلينتون"، والرئيس الحالي "جورج بوش" الابن،يهدف إلى سيطرة أمريكا على العالم: تمثل العولمة ميادينه التطبيقية، وتساند أمريكا مؤسسات عالمية عظمى مثل: الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة الدولية،وصندوق النقد الدولي، وحلف الناتو.
القلق من العولمة
أصبحت العولمة واقع لا مفر منه ، يفرض على الدول والشعوب في مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتعليمة والإعلامية. ولذا فالشعوب قلقة من أفاق وأفكار العولمة المتوحشة حيث تشعر بأنها تعني :
توظيف الشركات الاحتكارية لقدرتها المالية والتنظيمية من اجل استغلال ثروات الشعوب،وزيادة تغلغلها في اقتصاديات الدول النامية.
زيادة الفجوة الاقتصادية والحضارية قائمة حاليا في العالم بين الدول الغنية التي تزداد غنى والدول الفقيرة التي تزداد فقر.
هيمنة ثقافة واحدة ووحيدة مهما كانت مغربة ومستوردة بالنجاحات المادية والمعنوية،وهدفها تهميش الثقافات الأخرى في العالم.
احتمال صدام الحضارات وصراع المناطق الحضارية،ودخولها في حرب دامية وربما أكثر دموية من كل الحروب التي شهدها التاريخ.
"الأمركة" واستفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالشأن العالمي، ونشر نموذجها الحياتي والثقافي وتعميمه على الصعيد العالمي،وإذا كانت يعني المزيد من اغتراب الإنسان المعاصر الذي بدأ يفقد السيطرة على التحولات الحياتية والفكرية السريعة حتى بمعايير عصر السرعة.
إذا كانت العولمة هي تلك الأفاق والأفكار المتوحشة المذكورة سابقا فإنها ستجد الرفض التام من كل شعوب العالم وفي مقدمتهم الشعوب العربية الإسلامية. إن واقع العولمة يبرهن على أنها عملية الحاقية انتقائية، تقسم العالم إلى عالمين:
عالم القوى الكبرى ذات المصالح المتبادلة والمؤسسات العالمية والشركات العملاقة، وعالم الدول النامية أو الضعيفة والتي عليها أن تتبع الدول الكبرى.
مما سبق ذكره عن العولمة يمكن استنتاج الآتي:
- ففي المجال الاقتصادي تعمل العولمة على إقصاء المستضعفين نهائيا عن أي مشاركة من ميادين التنافس، وإفساح المجال للشركات عابرات القارات لكي تفرض قوانينها وأسعارها وشروطها على الفقراء والمساكين في الدول النامية.
-وفي المجال الأخلاقي تعني العولمة إطلاق العنان بلا قيود لنوازع الجنس،والتحلل الأخلاقي وتدمير القيم الإنسانية.
- وفي المجال الثقافي تعني العولمة سيادة ثقافة "البسبسة" بالنسبة إلى بزة و"الكوكلة" بالنسبة إلى كوكاكولا و"الكلنتكة" بالنسبة إلى كنتاكي و"المكدنة" بالنسبة إلى محلات ماكدونالد وانتزاع أصحاب الدين من قيمهم وتقاليدهم وثقافتهم إلى حيث يكونون محايدين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
- وفي المجال السياسي تعني هيمنة العلمانية على جميع شؤون الحياة السياسية ولا صوت يعلو على صوتهم وغيرهم لا يعرفون السياسة وليس لديهم برامج لإدارة دولة حديثة متطورة عصرية.
قال مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق : ((إن العالم المعولم لن يكون أكثر عدلا ومساواة، وإنما سيخضع للدول القوية والمهيمنة وكما أدى إنهاء الحروب الباردة إلى موت وتدمير كثير من ذلك. . . في عالم معولم سيصبح بإمكان الدول الغنية المهيمنة فرض أرادتها على الباقين،الذين لن تكون حالهم أفضل مما كانت عليه عندما كانوا مستعمرين من قبل أولئك الأغنياء)).
العولمة والعالمية من خلال نظرة الإسلام
أكد الإسلام على أن الناس جميعا أمة واحدة، تجمعها الإنسانية وان فرقتها الأهواء والمصالح، قال تعالى)) : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)) (البقرة:213)، وقال تعالى (( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون))، (الأنبياء:92) قال تعالى: ((ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)) (الروم:22).
لقد خلق الله الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا وليس ليتقاتلوا ويحارب بعضهم بعضاً،قال تعالى:(( يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)) (الحجرات:13)، ليس في الإسلام تمييز في المعاملات بسبب اللون أو القومية والإقليمية، وليكون العدل هو السائد والمعيار بين الناس،كما حث الإسلام على مساعدة الأخ لأخيه في الإنسانية في أي وطن أو موقع سواء كان مسلماً أو غير المسلم "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". والإسلام لجميع البشر عربيهم وأعجمهم أسودهم وأبيضهم وأسمرهم وأصفرهم، قال تعالى: (( وما أرسلناك الاكافة للناس بشيرا ونذيرا)) (سبأ:28).
إن رسالة الإسلام للبشرية إنسانية وشمولية تطلب منها إعمار الدنيا واستثمارها والتعاون مع الآخرين مع استخدام أسلوب الحوار وتشكيل القناعة للدخول في الإسلام ، قال تعالى:((هو أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها)) (هود:61)،أي طلب منكم عمارتها،وقال تعالى:((هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)) (الملك:15)،قال تعالى: ((ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها )) (الأعراف:56)، وقال تعالى)): ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)) (النحل:125).
إن للإسلام رؤية خاصة للعالمية كما ذكرنا سابقا،فهو بذلك ينفصل عن إشكالية العولمة فهو بعكس النظام الغربي فهو يقود العالم كله إلى الخلاص من الهلاك وتدهور العالم، بعد فشل الرأسمالية والشيوعية، وقصور العقائد الدينية الأخرى، مع تدبير الحلول الإنسانية ومشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
إن مبادئ الإسلام والقيم الروحية يمكن أن تساهم في حل إشكاليات العولمة المستعصية،التي يضج منها العالم ولاسيما الدول النامية،والشرور المصاحبة لتلك الهيمنة باسم العولمة،فالإسلام يشكل سفينة النجاة للشعوب.
لقد اثبت الفكر الإسلامي في الوقت الحاضر قضيتين مهمتين وهي شمولية الإسلام وإنسانيته المتفردة. كما أكد وأثبتت أزمة الحضارة الغربية بسبب الإفراط في المادية والبعد عن الأخلاق والقيم. . وعليه فإن المفكرين المسلمين يقدمون للبشرية مشروعهم الحضاري الذي يعتبرونه صالحا لإنقاذها في كل زمان ومكان. فهم يقدمون عالمية إسلامية تتشابك مع عولمة الغرب في إطار التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة ، فالقرآن رسالة للبشر كافة وهو رسالة عالمية لكل الأجناس والأمم التي تعيش على كوكب الأرض. ولذا قال تعالى لنبيه : ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) (الأنبياء:107).
إن الثقافة المصدرة في ظل العولمة لن تكون محايدة ولن تتصف بالعالمية، بقدر ما هي تصدير لثقافة الأقوياء، المتفوقين في العلم والصناعة. وهنا ستكون العولمة هي الظاهرة المسيطرة وليست العالمية، فالعولمة تهدف إلى تنميط الشعوب، وتوحيد الأذواق، وإلغاء النماذج، وفرض الاختيارات بالقوة والجبر والتهديد، بينما تتقدم العالمية إلى تقريب العالم،ليتفاعل كل عالمي مع العوالم ايجابيا في رسم اللوحة العالمية.
يسود العالم اليوم، العلم والثقافة والعقل المنهجي العلمي، مع تميز سرعة التجديد المستمر في جميع مظاهر الحياة،وهو يشهد تطوير سريع لا مثيل له في التاريخ الأمم.
إن العلاقة والتعايش في ظل العولمة يحتاج إلى معرفة العولمة كظاهرة شاملة، والتعامل معها ككل، لا يعني القبول غير النقدي، ولكن يجب إن يستخدم العقل في فهم ما يدور،فالهوية العربية الإسلامية في الوقت الحاضر لا تحتاج إلى مناعة أخلاقية ضد العولمة، ولكن في حاجة إلى مناعة فكرية وعقلية وعلمية،فالمسلمون يخشون اختراق العولمة لهويتهم، حينئذ لن يكون الاختراق بسبب قوة العولمة الكاسحة، بل يعود إلى ضعف في الهوية العربية الإسلامية أي ضعف قدرتهم على تجسيد هويتهم الإسلامية إلى فكر وسلوك.
إن هذه الأمة أمه عالمية وليس أمه معولمة،وهي أمه وسطية وليست متطرفة،وهي امة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما جاء في القران الكريم: ((كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)) (آل عمران:110)، ((وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهدا على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)) (البقرة:143)، فلا يمكن أن تكون أمة خائفة أو جاهلة بل هي امة قائدة و واثقة من نفسها في قيادة البشرية وإنقاذها من سيطرة العولمة المتوحشة في العصر الحاضر.
مكونات الهوية العربية الإسلامية وهوية العولمة
شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، إحداثا متلاحقة وتطورات سريعة، جعلت عملية التغيير والإصلاح حتمية في معظم دول العالم ، ومنها العالم العربي والإسلامي ، وقد ساد كثير من هذه الدول نوع من القلق من هذا التغيير، لخشيتها أن تؤدي هذه التطورات والتحولات المتسارعة إلى التأثير على قيمها ومبادئها، وتقاليدها، أي على هويتها بكل مكوناتها : العقدية والفكرية والتربوية والثقافية واللغوية والتاريخية والبيئية ، ولذا علينا الوقوف أمام هذه التطورات والتغيرات من خلال معرفتنا لمكونات الهوية العربية الإسلامية والهوية العولمية، حتى نستطيع القول هل تستطيع هذه الهوية العربية العيش في ظل هذه التطورات ؟ التي تسمى بالعولمة ؟ وهل في استطاعتها الاستفادة منها وإفادتها من خلال قيمها، وأخلاقها، وتشريعاتها الربانية ؟.
ان مكونات الهوية العربية الإسلامية أربعة وهي :
الدين أي العقيدة والفكر والتشريع.
اللغة وهي اللغة العربية.
التاريخ وهو ما عملته هذه الهوية منذ نشأتها حتى الآن.
البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمناخية التي تعيش فيها هذه الهوية.
إن هذه المكونات رئيسة لكل هوية تعيش في هذه الحياة ، وقد تتفق بعض مكونات هذه الهوية مع الأخرى ، وقد تختلف كلياً، وعليه فإنني في هذا البحث سوف أركز كثيراً على المكون الأول وهو الجانب العقدي والفكري للهوية العربية الإسلامية، وسوف أقارنه مع بعض تصورات الهويات الأخرى ومنها العلمانية التي هي أساس العولمة في العصر الحاضر.
أولاً : المكون الأول : العقيدة والفكر ( الدين ) (19 :14)
يرى الباحث أن كل هوية في هذه الحياة تنطلق من خلال نظرتها للإنسان والكون والحياة ثم ينشئ عليها الإنسان وتنبثق من :
عقيدة وفكر.
تربية من المهد حتى اللحد.
ثقافة شاملة تحافظ على الأصول الثقافية وتتجدد مع تطورات العصر.
1- عقيدة وفكر الإنسان :
يحدد الإنسان اتجاهه ( هويته ) في هذه الحياة من خلال العقيدة والفكر اللذين يؤمن بهما وذلك من خلال الإجابة عن ثلاثة أسئلة :
مم خلق الإنسان ؟ أي ما أصل الإنسان ؟
لماذا جاء الإنسان ؟ أي ما هدف وجوده في هذه الحياة ؟
إلى أين يسير الإنسان ؟ أي ماذا بعد الموت ؟
كل اتجاه ( هوية ) من الاتجاهات الربانية والإنسانية في هذه الحياة أجاب عن هذه الأسئلة الثلاثة، ومن خلال الإجابة ، وضع الإنسان مناهجه لأنظمة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية. . . . .
الإجابة عن السؤال الأول: مم خلق الإنسان ؟ أي ما أصل الإنسان ؟.
الاتجاه الرباني أي اتجاه الأنبياء والرسل أجاب أن أصل الإنسان الأول من تراب ، قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } ( الحجر 28 - 29 ). وقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} ( المؤمنون : 12-17 ). فالإنسان أصله الأول تراب وأصله الثاني من آدم وحواء وأصله الثالث من نطفة ، ثم يعيش في هذه الدنيا لزمن معين ، ثم يموت ، ثم يبعث يوم القيامة ، هذه هي خطة سير الإنسان منذ خلقه حتى يبعثه الله مرة أخرى. وعلى هذا الأساس يؤمن المسلم بأن الخالق هو الله ، الذي خلقه من تراب، ثم من نطفة ثم من علقة فقال: " لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
الاتجاه البشري أو الإنساني، أجاب عن هذا السؤال أيضا ، ومن أهم الاتجاهات في العصر الحاضر : الاتجاه الماركسي ، واتجاه النشوء والارتقاء ، فالأول قال : إن الإنسان والكون والحياة جاءت صدفة ، لذا فإنه يؤمن أن لا بداية ، فمحور عقيدته ( لا إله والحياة مادة ) والثاني قال إن أصل الإنسان خلية صغيرة فتطورت وقال " دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر " وتلك آراء حول أصل الإنسان وهي نظريات ، وليست حقائق ، قابلة للخطأ والصواب ، وقد أثبتت البحوث العلمية والواقع خطأها الآن.
من خلال الإجابة عن السؤال الأول يبدأ مفترق الطرق بالنسبة لتحديد الاتجاه للإنسان في هذه الحياة ، ولا يمكن أن يلتقي اتجاه بآخر ، فالإنسان المسلم لا يمكن أن يؤمن بأن أصله من تراب وإنه جاء صدفه في آن واحد، والإنسان الملحد لا يمكن أن يكون ملحداً ومؤمناً بالله في آن واحد، والإنسان العلماني يؤمن بالله ولا يدخل الدين في شؤون الحياة.