بقلم/ أنور قاسم الخضري
تمهيد. . أسئلة للتاريخ
كنت من المراقبين للوضع الفلسطيني (كما هو الوضع العراقي) بشكل دائم من خلال قناة الجزيرة -القطرية. فالقضيتان معا تعنيان للأمة الشيء الكثير. ففي كلا البلدين يواجه المسلمون مشروعا استعماريا أجنبيا على المستوى العسكري والسياسي بكل أبعادهما الاقتصادية والأمنية والثقافية والجغرافية! والمحتلان هنا وهناك حليفان في سياستهما واستراتيجيتهما في المنطقة!
فالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل -ومن يقف إلى جانبهما، أو من ورائهما- يمثلان الوجه الاستعماري الجديد بكل بشاعته الإجرامية وأعماله الإرهابية!
غير أن القضيتين ذابتا تحت سخونة الأضواء التي سلطتها قناة الجزيرة على عملية "حزب الله" الأخيرة وحرب إسرائيل التي تلتها بعد ذلك على لبنان! ولعل الحدث فرض نفسه لطبيعة الزمان والمكان والظرف والأطراف! وهي أمور سيأتي الحديث عنها لاحقا. غير أن الغريب في الأمر هو ذلك الاهتمام الطاغي بالحدث على حساب أوضاع المواجهة في العراق وفلسطين إلى حد أشبه بالنسيان! والأغرب من ذلك هي طبيعة التغطية الإعلامية والتناول الإخباري للأحداث بحيث خرجت الجزيرة في رأي المتابعين عن الحيادية والمساحة الحرة للتعبير إلى حد الترويج الدعائي والتسويق الإعلاني - مجانا!- ل"حزب الله"! بشكل ملفت للانتباه وملحوظ بقدر كبير! بل لا أبالغ إن قلت إنني خلال هذه الحرب لم أعد أميز بين قناتي "المنار" و"الجزيرة"!
البعض فسر الأمر بوضع مراسلي القناة في بيروت، من حيث بُعدهم أو ميولهم العقدي! والبعض فسره بمحاولة القناة تحسين صورة بعض الطوائف التي بدأت تتشوه في العراق لخدمة مواقف إسلامية أكثر إلحاحا في نظرها! والبعض رأى أن وراء المسألة صفقة ما! وآخرون ظلوا مدهوشين لما جرى!
المداخلات المخالفة تقطع! الشخصيات المستضافة ذات اتجاه واحد غالبا! التقارير والحوارات تصب في مرامي أبعد من المواجهة! الصيغة والعبارات والصور المنتقاة خارج السياق! وكل شيء على غير المألوف!
لقد عودتنا الجزيرة طرح الرأي والرأي الآخر كشعار تتمسك به! وهي فيما يبدو أرادت أن تنحاز إلى الشارع العربي وهواه! الأمر الذي جعل هذه القناة الأكثر متابعة وانتشارا في العالم العربي والإسلامي خلال الحرب تفقد المهنية والحيادية في الطرح!
لم يكن مطلوبا من الجزيرة أن تقف إلى جانب إسرائيل!!! وليس هذا المقصود بالطبع! ولكن الحرب الأخيرة كانت بحاجة إلى تسليط الضوء حول خلفيات هذه الحرب وأبعادها وطبيعتها بالنسبة للاعبين فيها ظاهريا أو من وراء ستار! حيث أن أغلب القنوات الرسمية عودتنا على عدم الموضوعية في طرحها وانجرارها وراء المواقف الرسمية الهزيلة لتلك الدولة أو ذلك النظام!
فأصبح الإعلام العربي للأسف غير قادر على تجلية حقيقة هذه الحرب وقراءتها القراءة الصحيحة بعيدا عن التأثر بالمواقف السياسية أو سطحية الشارع العربي الذي طالما صفق لكثير من الحروب التي كان الخاسر الأكبر فيها هو بمختلف تياراته وشرائحه وقواه!!
لقد كان مؤلما ما يعانيه إخواننا في لبنان، ومؤذيا ذلك الصمت العربي الذليل! ومستهجنا موقف الدول الغربية! ومألوفا عداء اليهود وبغيهم وإجرامهم! وقد كان متوقعا حجم الإحرام الذي مارسته إسرائيل على مرأى ومسمع العالم والنظام الدولي الذي لا يحرك ساكنا لقضايانا العادلة!
وكان مفرحا في الوقت ذاته ما أصاب اليهود من "ألم" و"خوف" و"دمار" و"خسائر"! نتيجة القصف الذي طال بعض مدنهم وقراهم! وما نتج عن هذه الحرب من خلاف وشقاق بينهم!
إلا أن الصورة لم تكن مكتملة والمشهد لم يعرض بشمولية تامة! والآراء والمواقف من حدث خطير كهذا لم تأخذ حظها من الدراسة والعرض والنقاش! لأن الإعلام العربي مارس موقفين متناقضين في آن معا "مع وضد"! وكأن الأمور لا تقرأ إلا بهذه الحدية وهذا التطرف!
وبعيدا عن هذا المقص وبعد انقشاع الغبار وفي مساحة من الفكر والنظر والتأمل أحببت أن أضع هذا الحدث في طاولة القراءة والمراجعة والتأمل! لا لشيء سوى لأننا نريد أن لا ننجر وراء انتصارات وهمية أو أن نستغفل لأهداف لا تخدم قضيتنا كأمة إسلامية تريد التحرر من ربقة الاحتلال الإسرائيلي منذ ما يزيد من نصف قرن من الزمان!
وقد طرحت في إطار الجدل الذي دار على الساحة العربية والإسلامية فضلا عن الدولية عدد من الأسئلة المهمة التي لا ينبغي أهمالها في سبيل البحث عن الحقيقة وإدراك الجوانب غير الظاهرة في هذه الأزمة وما قد يتبعها من نتائج قد تغير واقع الداخل اللبناني والمعادلة الإقليمية في المنطقة!
ومن هذه الأسئلة على سبيل المثال:
ما هي أبعاد هذه الحرب؟ ومن يقف وراءها؟ وهل هناك لاعبين حقيقيين وراء الأطراف المتصارعة؟ وهل الحرب الدائرة بين حزب الله وإسرائيل منذ عام 1982م حرب إستراتيجية (أي حرب وجود) أم أنها حرب تكتيكية (حرب نفوذ ومصالح)؟ ولماذا يحتكر حزب الله المقاومة في جنوب لبنان بالطائفة الشيعية في حين يحرم على السنة في لبنان، لبنانيين وفلسطينيين، المشاركة في عمليات المقاومة منذ أكثر من 15 عاما؟ وأين سوريا من كل ما يجري في لبنان؟ وهل ولاء حزب الله طائفي؟ أم سياسي خارجي؟ أم وطني؟ أم إسلامي قومي؟ ومن يقف وراء حزب الله بهذا الحجم من الحضور العسكري والتنظيمي والإعلامي والمالي؟ حتى أصبح الحزب الوحيد في العالم العربي والإسلامي الذي يجمع بين هذه الطاقات التي تفقدها أعرق الأحزاب في المنطقة؟ وما حقيقة النقد الذي توجهه المرجعيات الشيعية للحزب والدور الذي يقوم به في جنوب لبنان؟ ولماذا لم تستطع إسرائيل وأمريكا من ورائها من القضاء على حزب الله رغم كل ما توجه إليه من تهم وما يقوم به من عمليات؟ وهل تمثل (حرب تموز) آخر الحروب بين الطرفين ولماذا؟ وما هي مكاسب هذه الأطراف من هذه الحرب؟ ومن الخاسر يا ترى في ظل ادعاء كل من الطرفين المتصارعين بفوزه في المعركة؟ وأخيرا وليس آخرا ما علاقة ما جرى في لبنان بما يجري في عموم المنطقة وبالأخص أفغانستان والعراق؟
أسئلة كثيرة! لكنها في واقع الأمر ضرورية وبحاجة إلى إجابات شافية غير مستعجلة أو سطحية!
لا اعتقد أنني وفيتها القدر من الإجابة ولكني حاولت أن أضع النقاط على الحروف وأن أحرك ذهن القارئ العربي والمسلم لكي يبحث معي عن الإجابة والحل لنصل معا إلى إدراك جمعي يعزز من قدرتنا على فهم ما يجري وإجراء ما ينبغي القيام به!
التحليل السياسي. . خطوة للفهم!
التحليل السياسي بحث في العوامل المؤثرة على الحراك السياسي والتفاعل الاجتماعي والثابت والمتغير في طبيعة العلاقات القائمة لتفسير مجريات الأحداث والمواقف وفق منهج علمي، واستشراف لكافة الاحتمالات المتوقعة في ضوء تلك المعطيات. فهو محاولة لفهم (لماذا؟) ومعرفة (ماذا قد يكون؟).
وبمعنى آخر. . التحليل السياسي فكفكة الظاهرة السياسية أو الحدث أو الموقف إلى عناصره الأولية المكونة له أو تلك المؤثرة فيه، بغية فهم أسبابها وإدراك نتائجها ووضع الحلول والمعالجات الصائبة لها.
فأول سؤال ننطلق منه للتحليل السياسي هو (لماذا؟)، فليس التحليل السياسي معرفة (ماذا؟)! فمعرفة ماهية الظاهرة أو الحدث السياسي وحجمها لا تعد تحليلا سياسيا بحد ذاتها، وإن كانت جزءا من المسألة.
وتكمن أهمية التحليل السياسي في كونه يحاول تفسير الظواهر السياسية التي أصبحنا جماعات وأفرادا نتأثر بها بصورة مباشرة وغير مباشرة، فلم يعد الأفراد والجماعات في العصر الحديث وفي ضوء طبيعة الدولة المدنية الحديثة يملكون استقلالية مصيرهم الشخصي والجمعي، وإدارة حياتهم اليومية بشكل خاص! بل على العكس من ذلك أصبحت السياسة اليوم مؤثرا كبيرا في جزئيات وتفاصيل الحياة اليومية. فمأكلنا ومشربنا وملبسنا وتحركنا وأداؤنا اليومي متأثر في كثير من جوانبه بالسياسة، وعليه أصبح من الضروري على كل فرد من الأمة اليوم أن يكون على معرفة واطلاع ومتابعة للأوضاع والمجريات السياسية لبيئته وما يحيط بها، لكي يتعاطى مع ما حوله من المجريات بشكل إيجابي، لأننا أفرادا وجماعات أصبحنا مؤثرين في توجيه السياسة العامة وتشكيلها والتأثير عليها، عبر وسائل مختلفة، بعضها مباشر وكثير منها غير مباشر. . وبحسب فهمنا الجيد للسياسة ومجرياتها يكون أداءنا وتأثيرنا إيجابا أو سلبا على الظواهر السياسية.
ويكفي أن الهجرة الأولى للرعيل الأول للصحابة إلى أرض الحبشة كانت قائمة على إدراك واعي لطبيعة النظام السياسي القائم وطبيعة أدائه، (ففيها ملك لا يظلم عنده أحد). . إذن فهي مملكة. . القرار فيها لفرد لا منازع له على سلطانه، وهو فرد عادل لا يظلم عنده أحد! هذا التحليل السياسي لهذا الوضع أتاح لأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام خيارا آمنا للحفاظ على دينهم وأداء شعائره بأمان!
ويهدف التحليل السياسي إلى معالجة القضايا والمواقف بشكل أكثر وعيا وعمقا، والبعد عن المعالجة العاطفية، أو السطحية، أو المجتزأة، أو الظنية التي لا تستند إلى أدلة واضحة وبراهين قوية، وعن الأحكام المطلقة جزافا، مع البحث في كافة الاحتمالات الممكنة، والتفضيل فيما بينها، ومن ثم ترتيب الأولويات وانتقاء الخيارات الأفضل مستقبلا.
فالتحليل السياسي السليم والعميق يكشف عما ستكون عليه الأمور في المستقبل، لأن وسائل التعامل مع المستقبل ثلاثة:
التخمين. . وهي طريقة لا تقوم على أساس علمي أو منطقي أو فلسفي، ومثاله: تخمين أي وجهي العملة لأعلى!
التوقع. . وهي طريقة متعارف عليها بين الناس كونها تستند إلى المعطيات الظاهرة والشواهد الملموسة، ونتائجها قد لا تقع بالضرورة، فكل من يرى الغيم يتوقع سقوط المطر، وكل من يرى نارا موقدة في مفازة يتوقع وجود حي من الناس!
التنبؤ. . وهي طريقة خواص الناس في استشراف المستقبل حيث تعتمد على الخبرة والمعرفة العميقة والحدس ونوع من الإلهام، ومثاله: تنبؤ يعقوب بجريمة إخوة يوسف! "لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا"، فلما راودوه على خروجه معهم توقع لحاق الأذى به "وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون". .
فالتحليل السياسي يدعم صوابية "التوقع"، ويبعث على ملكة "التنبؤ"! ويقطع التخمينات باليقين الغالب!
ومن أهم مرتكزات التحليل السياسي التمييز بين الثوابت والمتغيرات، والعوامل المؤثرة بشكل مباشر والعوامل المؤثرة بشكل غير مباشر، والشخوص والقوى الظاهرة والخفية فردية كانت أو جماعية، والأحاديث المعلنة والنوايا المبيتة، والمبادئ التي تحكم الظاهرة أو الحدث والمصالح التي تتقاطع معها، والإستراتيجيات والتكتيكات، والأصدقاء والأعداء، والمتضادات والمختلفات. . في السياسة والاجتماع.
والاختلاف في التمييز بين هذه القضايا يؤدي إلى الاختلاف في التحليل السياسي، كما أن الاختلاف في التحليل السياسي بين شخص وآخر يعود إلى اختلاف منطلقات الرؤية الفكرية، ومنهجية التعاطي، وطبيعة الشخص (التي توجه ميوله وزاوية نظره)، وبعد أو قرب الشخص من الحدث أو الموقف أو الظاهرة، وشمولية قراءته للحدث.
وبالرغم من أن لكل حدث سياسي أو ظاهرة سياسية مدخل مغاير لتحليله وتفسيره عن غيره، وفقا لطبيعة زمان الحدث ومكانه وأشخاصه، إلا أن منهج التعاطي في جميع الأحوال يجب ألا يخرج عن الموضوعية والعلمية.
وهنا ينبغي التأكيد على أن الموجه الأكبر لميول الأفراد والجماعات وولاءاتهم والمؤثر على مواقفهم وسياساتهم هو تصورهم الذهني المسبق للأمور والقضايا، وأن هذا التصور (أو ما يعبر عنه بالأيديولوجيا والمعتقدات) غالبا ما يتشكل في ضوء العقائد الدينية والأفكار المطلقة التي يسلم لها الشخص، وكذلك الخبرات والتجارب التي سبق له خوضها في ضوء معارفه التي نشأ عليها. لذلك فإن العقائد والأفكار تأتي في المرتبة الأولى في اهتمامات علماء النفس والاجتماع والتربية والاتصال، فهي مدخل للفهم ومنطلق للتأثير والتغيير!
وغالبا ما قامت التجمعات البشرية والدول والإمبراطوريات القديمة والحديثة على أساس من المعتقدات، أيا كانت، كونها المحرك الفاعل للجماهير والشعوب! وغالبا ما تستثار الحمية الدينية أو المذهبية لأغراض سياسية ومصالح قومية! فنشوء دولة إسرائيل - كمثال واضح- كان على أساس ديني بالدرجة الأولى! وقيام الاتحاد السوفييتي كان على أساس أفكار إلحادية ومنحلة مثلت رؤية للحياة والإنسان والمجتمع صيغت فيما عرف بالمذهب الشيوعي الاشتراكي!
ويعتمد التحليل السياسي على الأدوات التالية:
أولا: خبرة القائم بالتحليل السياسي، سواء كانت هذه الخبرة تاريخية أو حالية، مع توفر المعلومات بشكل مسبق عن الموضوع المطروح للتحليل.
ثانيا: معطيات الواقع بكافة تفاصيله وتشعيباته، أشخاصا وأحداثا ومواقفا وبيانات. . إلخ، فالمعطيات أداة مهمة للتحليل الأعمق والتفسير الأقرب للأحداث والظواهر.
ثالثا: المعرفة والفهم الدقيق لطبيعة العلاقات المتبادلة والقوانين والمؤثرات التي تحكم مادة التحليل، سواء كان حدثا أو موقفا أو شخصا أو ظاهرة.
رابعا: الإطلاع على نوايا ومقاصد الأطراف المشكلة
لواقع ما، من خلال رصد أو تتبع أو اطلاع مباشر أو إعلان مسبق لها!
خامسا: الخيال، فإن تصور كثير من القضايا خارج إطار المشاهدة لا يتأتى إلا بقدر من الخيال الذي يصور أبعاد الأمور زمانا ومكانا وشخوصا وفكرا. . مع تمييز بعضها عن بعض بصورة تجلي خصائص الذوات والماهيات والمسارات.
وبدون هذه الأدوات لا يتوفر تحليل سياسي بل نوع من الخطاب الانفعالي والهذيان العاطفي والأماني الوجدانية!!
أما لغة التحليل السياسي فهي لغة علمية تستند إلى معطيات ثابتة أو وقائع ملموسة أو بيانات واضحة أو مزيج مما ذكر. وهي بعيدة عن الانفعال العاطفي أو الحكم المسبق (المطرد في أحكامه. . دون علة!!) أو المتطرف (قربا أو بعدا) أو التحليل المصلحي!!
وهي لغة تعتمد بالدرجة الأولى على مصطلحات دقيقة ومحددة وذات نسق فكري وسياسي متحد، كما تعتمد على المنطق العقلي المتسلسل والمترابط، لا على الشواهد المنقطعة والشاذة وغير المألوفة في السنن الاجتماعية والسياسية.
ومع ذلك فإنه من الصعب أن يكون القائم بالتحليل السياسي محايدا لأنه في جميع الأحوال يتأثر بثقافته وبيئته ورؤيته الشخصية وتجربته الخاصة وهدفه ومصلحته من وراء هذا التحليل، فإذا التزم بالموضوعية والمنهج العلمي والرؤية النقدية في تناول قضية أو حدث ما حقق بدون شك قدرا من الحيادية في تحليله السياسي للأمور.