بدر عبدالملك
حافظت لعبة كرة القدم على شعبيتها منذ أن عرفتها الشعوب ومارستها بين الأزقة كونها رخيصة الثمن وسهلة التداول وأكثر اقترابا لقلوب البسطاء ومزاج العامة.
غير إننا نراها اليوم باتت مختلفة من جميع النواحي بعد أن غزاها التغيير وتطفلت عليها كل المؤسسات السياسية والمالية بعد أن وجدت فيها مميزات لا يمكن تعويضها أو تركها هكذا دون استثمارها بأقصى ما يمكن وبأكبر قدر من طاقتها المحتملة، فرجال الأعمال اقتحموا عالم الكرة الشعبية فصاروا يتاجرون بأقدام اللاعبين والذين ظلوا في أحيائهم فقراء وفي أنديتهم البائسة مجرد لاعبين منسيين، بل وصارت تلك العمالة الجديدة مصدر دخل وطني لبلدان كالبرازيل بعد أن انتشر مدربو ولاعبو هذا البلد في كل ناحية.
ما فعله رجال الأعمال هو قدرتهم على تحويل اللعبة ولاعبيها المشاهير إلى سلعة هامة يضاربون بها في بورصة المواسم الرياضية ويبحثون عن ملاعب نائية لاصطياد اللاعبين المهرة مثلما كان صيادو الطرائد الحيوانية والبشرية يفعلون في غابات إفريقيا، بل وقام أولئك المبتعثون من نخبة رجال المال بعملية الاتصالات الجانبية والسرية مع جملة من اللاعبين بتقديم عروضهم المغرية لانتشالهم من أنديتهم ودفعهم للتخلي عن ارتباطاتهم القديمة من خلال تلك الإغراءات والعروض المالية الفاحشة في الإغراء والغواية أيضا. خاصة وان اللاعبين اغلبهم قادمون من أحياء شعبية فقيرة.
وإذا بهم فجأة يدخلون عالم الثراء والإضاءة والنجومية. هذه العمالة الجديدة ليست عمالة تعتمد على ذهنها ويديها وإنما عمالة جديدة في الأسواق العالمية باعتمادها على أداة إنتاجية جديدة هي الأقدام الذهبية.
كما أن الجديد فيها أنها أصبحت كوزموبولتية تجاوزت القارات إلى حد تحولت فيها مصالحها المالية والشخصية أهم من كل ارتباط وطني، مما يجعلها وهي تمارس لعبها في المباريات حذرة محتفظة بطاقتها وقواها من الاستهلاك الجسدي والعضوي، بحيث لا تتعرض للإصابة فتخسر الملايين وتصبح عاطلة عن اللعب طوال حياتها كما كان يحدث للاعبي المصارعة والملاكمة سابقاً.
فهل ننتظر من لاعبين من هذه النماذج تقديم كل ما يمكنهم تقديمه إن لم يتم تأمين ما يمكّنهم الاقتناع به كتعويض من نخب المال والسياسة العليا، خاصة وان المباريات الدولية تحولت إلى نوع من الفخر والاعتزاز القومي للدول.
وقد برزت عدوانيتها لدى الجماهير المتوترة وزعمائها المتحمسين، الذين بتنا نراهم في المقصورات الخاصة وهم يقفزون كالأطفال ويتخلون أحيانا حتى عن وقار مكانتهم ودبلوماسيتهم، مما يعني إن لعبة كرة القدم الشعبية فرضت نفسها على كل الشرائح والنخب الاجتماعية، بعد أن ظلت ردحا من الزمن لعبة شعبية من الطراز الأول، ولكنها اليوم اجتذبت ملايين الملايين في قارات العالم، وتركتهم مسّمرين عند شاشات التلفاز إلى حد وجدنا فيها رجال الأعمال، صغارهم وكبارهم يحتكرون اللعبة ويسّوقون بيعها على محطات التلفاز بأرباح باهظة.
فلم يكن من خيار المحلات والمقاهي الصغيرة والكبيرة إلا تتبع هؤلاء بشراء حقوق الامتياز أو بأقل من ذلك في جذب الجمهور إلى أمكنتها للمشاهدة، بحيث لو جربت أن تتمشى بسيارتك في المدينة أثناء مباراة كبيرة وهامة، لشعرت بمدى خلو الشوارع من المارة حتى قلت في نفسك، سبحان الله فقد حّولت الكرة الشعبية مزاج الناس إلى درجة الاستملاك، هذا الاستملاك الاستثنائي لمزاج الشعوب قاطبة، حاول الساسة استثماره في كل أنواع الأنشطة خاصة الانتخابية.
مما جعل الزعماء حاضرين يقدمون للشعب ولاء خفي ومنافق ودبلوماسي، فيعلنون حضورهم الرسمي إلى جانب شعورهم الخفي بالمتعة، فهم يراوغون بلعبتهم السياسية مثلما يراوغ اللاعبين بقدراتهم ومهاراتهم الفنية، ويهّدفون ويلعبون بتكتيكاتهم الانتخابية كما يفعل فريق ما بتكتيكاته في الساحة.
فقد وجد كل طرف ساحته التي يلعب بها وبخططه التي ينفذها وبمصالح مختلفة ولكنها متماثلة في المضمون، ففي النهاية المهم هو ضرورة إحراز النجاح ونيل الكأس والاحتفاء بشعب مجنون في الشوارع يغني لانتصاره المؤقت ويقبل أحلامه المنتظرة.
دورة المسابقات الكروية ليست دائما في جعبتنا نحتفظ بانتصارها مثلما هي الحملات الانتخابية للرئاسة والبرلمان، فهناك لحظات من حزن الهزيمة ولحظات عارمة بفرح الانتصار، ولكل مشهد مزاجه المسرحي، فللنخبة حزنها وفرحها وللشعب حزنه وفرحه.
ما يهمنا اليوم هو ذلك التركيز من المصورين على وجوه الزعماء الساسة وهم في شحنة عاطفية من الحماس المكتوم والظاهر، خاصة وهو بالقرب من زعيم الدولة المنافسة، وقد ازدانت اليوم أكثر بحضور الزوجات المصونات/ السيدة الأولى، لزيادة شحنة العواطف النسوية للكرة وهن يقفزن كالطفلات الصغيرات في المدارس وهن يقرأن نتائج نجاحهن في الامتحان النهائي.
ما أثارني في مباراة لقاء اسبانيا وألمانيا هو تخيلي جلوس هتلر مع صديقه فرانكو، وعناق الفاشية والنازية معا منذ بداية المباراة، غير أن مزاج هتلر تبدل بعد الهزيمة فصوب بمسدسه على رأس فرانكو وقتله، فما يمكن أن توحده الأفكار بالإمكان أن تفرقه الكرة (المصالح)، بينما البلدين اليوم في الاتحاد الأوروبي يرفعان شعار مختلف، فما فرقته نتائج المباراة وحدته السياسة.
هذا ما حاولت الدورة أن ترفعه عندما خاف الشارع السياسي الألماني من توتر فوز تركيا على ألمانيا حيث «النعرة النازية»، ما تزال في دماء شباب اليوم وجمهور الكرة المهزوم.