بقلم/ أنور قاسم الخضري
برنامج إيران النووي والأبعاد الإستراتيجية:
في عام 2003م فاجأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية العالم بإعلانها أن إيران أخفت برنامجها لتخصيب اليورانيوم لمدة18 عاما! أي أن إيران منذ عام 1985م بدأت في برنامجها النووي! أي في أثناء حربها مع العراق! وعلى خلاف البرنامج العراقي الذي كان الأسبق في المنطقة لم توجه إلى هذا المشروع أي ضربة عسكرية! بل على العكس من ذلك فإن (تموز-1) -وهو اسم المشروع العراقي للطاقة النووية- الذي كان يستخدم وقوداً نووياً مخصباً بدرجة 93?، وهي نسبة صالحة للاستخدام في القنابل النووية، والذي كانت كل عملياته تجري تحت "إشراف الفرنسيين والوكالة الدولية، والوقود المستنفد يعاد إلى فرنسا ولا يحق للعراق الاحتفاظ به ضمن الاتفاق المبرم عام 1976م، وكانت فرنسا وأمريكا وإسرائيل يعرفون أن هذا المفاعل لا يمكن استخدامه لإنتاج البلوتونيوم ولاسيما في ضوء الرقابة الدولية على تشغيله"، دمر في مهده بعد أن "ادعت إسرائيل أن هذا المفاعل قادر على إنتاج 12 كيلو غرام من البلوتونيوم في السنة أي بواقع قنبلتين نوويتين" ! ولم يشفع للعراق، وهو الذي كان يتلقى الدعم السخي من الولايات المتحدة الأميركية ودول الخليج للوقوف ضد إرادة التوسع الإيرانية في المنطقة، من توجيه ضربة عسكرية له وقصفه في غارة جوية من القوات الإسرائيلية في 7/6/1981م!
إنه وبحلول عام 1986م اختصت الصناعات العسكرية بنحو 64% من إجمالي الإنتاج الصناعي، وبلغ اهتمام إيران بتطوير مقدرتها النووية من خلال توظيف عوائدها النفطية، ما بين 15-17 مليار دولار سنويا لهذا الغرض!
هذا كله لم يلفت نظر إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية! ولم توجه إليه أي عدوان خلال 18 عاما!
هناك حديث إعلامي وخطاب سياسي تصاعدي في الفترة الأخيرة حول هذا الموضوع، والذي يخشاه الغرب هو قيام إيران سرا بتطوير قنبلة نووية أو على الأقل امتلاك القدرة على إنتاجها، حتى إذا قررت عدم بناء قنبلة الآن، وهو ما قد يقوي قدرة إيران في لعب دور المنافس المحلي على الساحة الإقليمية والحليف التقليدي لقوى مناوئة للغرب كروسيا مثلا على الساحة الدولية! وربما شجع ذلك دولا أخرى على أن تحذو حذوها في امتلاك السلاح النووي!. إيران أفادت بأنها تعمل على تخصيب اليورانيوم على نطاق ضيق في منشأة "ناتنز" النووية، وقد عادت لاستئناف أبحاثها وعمليات التخصيب بعد فترة انقطاع لم ترض رغبة الغرب، وهذا يعني تصميم إيران على امتلاك تكنولوجيا دورة الوقود النووي، وهذا ما عبرت عنه القيادة السياسية في إيران، حيث بدا الموقف الرسمي الإيراني متحدا بهذا الشأن، ففي حين يعلن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد للأمم المتحدة إن إيران لديها "حق غير قابل للمناقشة لإنتاج طاقة نووية" يصوت البرلمان الإيراني لصالح استئناف التخصيب ووقف عمليات التفتيش الدولية على المنشآت النووية!
ويرى المراقبون بأن إيران ليست بحاجة لإنتاج طاقة نووية لأن بإمكانها الحصول على الطاقة من المخزون الهائل لديها من النفط والغاز! كمصادر بديلة! لذا فالسبب الوحيد وراء نشاطاتها يجب أن يكون إنتاج قنبلة نووية في يوم ما! بدليل توجه الأبحاث الإيرانية لطريقتي إنتاج السلاح النووي: إما باستخدام اليورانيوم الشديد التخصيب أو باستخدام البلوتونيوم المفصول! ويعتقد الخبراء أن إنتاج إيران للقنبلة النووية هو مجرد وقت ليس إلا، ولن تتجاوز المسألة عدة سنوات! لذا فإن إيران تريد تهيئة الأجواء الإقليمية لظهور الإمبراطورية الفارسية النووية!. الولايات المتحدة الأميركية التي تعلن رفضها صراحة للسماح لإيران بتطوير برنامجها النووي! ترغب في حل الخلاف دبلوماسيا لكنها في الوقت ذاته لا تستبعد اللجوء لخيارات أخرى! وربما لن يكون أقل من العملية الإسرائيلية التي قصفت المفاعل النووي العراقي عام 1981م!. . فقد أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش أنه يسعى لحل الأزمة النووية الإيرانية بالسبل الدبلوماسية، وقال بوش بعد لقائه بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في واشنطن، في 14/1/2006م، إنهما اتفقا معا على السعي لحل الأزمة "دبلوماسيا من خلال العمل المشترك"! وأضاف أنه من المنطقي أن تحال دولة رفضت الحلول الدبلوماسية "إلى مجلس الأمن الذي له صلاحية فرض العقوبات! وأن على الولايات المتحدة وألمانيا وغيرهما من الدول "أن تبعث برسالة موحدة إلى الإيرانيين لعدم امتلاك سلاح نووي لتهديد العالم أو ابتزازه"!
إلا أن البعض يرى في الموقف الأمريكي عامل شد وجذب مع نظام طهران في المنطقة، فالملف الذي بدأ بالظهور للسطح عقب أحداث 11 سبتمبر كان انعكاسا لطبيعة العلاقات التي تريد واشنطن تشكيلها في المنطقة لإضعاف دور أي قوى إقليمية في مواجهة الوجود الأمريكي في المنطقة، وبالتالي تم إسقاط النظام العراقي الذي يمثل الأكثر خطرا تحت ذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل! وهي ذريعة ثبت كذبها فيما بعد!
ففي سبتمبر 2002م بدء العمل في أول مفاعل إيراني في بوشهر، وفي ديسمبر من العام ذاته كشفت الأقمار الصناعية عن موقعي "آراك" و"ناتنز" لتبدأ عمليات تفتيش الوكالة الذرية فيما بعد!
في نوفمبر 2003م جمدت إيران نشاطاتها لتخصيب اليورانيوم، وسمحت بعمليات تفتيش أشد، إلا أن موقف إيران بعد سقوط بغداد كان أكثر صلابة، ففي يونيو 2004م عنفت الوكالة الذرية للطاقة إيران لعدم التعاون الكامل! وتنطلق عمليات الشد والجذب بين واشنطن وطهران في ظل اللعب بالورقة العراقية.
في نوفمبر 2004م جمدت إيران عمليات التخصيب في ظل اتفاق مع الاتحاد الأوروبي الذي أصبح وسيطا في حل الأزمة، في حين سعت إيران لكسب عامل الوقت لترفض خطة الاتحاد الأوروبي وتعيد فتح منشأة أصفهان أغسطس 2005م، وتعيد فتح منشأة ناتنز في يناير 2006م، وتعلن في أبريل -بعد ثلاثة أشهر- عن نجاحها في تخصيب اليورانيوم لاستخدامه كوقود في محطات الطاقة لديها، في خطوة اعتبرت تحد لمجلس الأمن الدولي! وتزامن مع هذا الإعلان، في ذات الشهر، اختبار إيران لأسرع طوربيد في العالم لا يرصده الرادار ويمكنه تدمير الغواصات المعادية! وإجراء تجربة ناجحة على صاروخ جديد، أطلق عليه اسم "فجر 3"، والذي يملك عدة رؤوس حربية قادرة على إصابة عدة أهداف في وقت واحد، ويستحيل على الرادار اكتشافه، ومداه أربعين كيلومترا!
هذا الوضع شجع يحيى رحيم صفوي -القائد العام للحرس الثوري الإيراني- للتصريح في 5/4/2006م بأن على الولايات المتحدة الأميركية أن تقبل وضع "إيران كقوة إقليمية"! مضيفا أن العقوبات أو التهديدات العسكرية لن تكون في مصلحة الولايات المتحدة أو أوروبا! ولتبدأ إيران فعليا باتخاذ "تدابير احتياطية في محاولة لحماية منشآتها النووية"! كما صرح ديفيد إلبرايت، مفتش الأسلحة السابق بالأمم المتحدة ورئيس معهد إيزيس، لوكالة رويتر للأنباء، في أبريل 2006م!
هذه الحقيقة القائمة اليوم، والقابلة للتطور مستقبلا! يراها البعض خطرا على إسرائيل وأمريكا! إسرائيل التي قال أحمدي نجاد عنها أمام حشد من آلاف المتظاهرين الذين خرجوا في العاصمة طهران وهم يهتفون "الموت لإسرائيل الموت لأمريكا"!: إنه يجب إزالة إسرائيل من خريطة العالم! وهو ما خلق أزمة سياسية على مستوى مجلس الأمن، الأمر الذي أجبر طهران للإعلان في 29/10/2005م عن حقيقة موقفها، وأنها ملتزمة بتعهداتها للأمم المتحدة بعدم استخدام العنف ضد أي دولة أخرى! وقال بيان للخارجية الإيرانية "الجمهورية الإسلامية الإيرانية ملتزمة باتفاقات الأمم المتحدة، ولم تستخدم القوة ضد دولة أخرى، ولا تهدد باستخدامها"! وبحسب بيان السفارة الإيرانية في موسكو فإن الرئيس "لم يكن يقصد الكلام بعبارات حادة عندما تحدث عن إزالة إسرائيل من خريطة العالم"! وأن "طهران لا تهدف إلى الدخول في صراع، إلا أن الرئيس أراد التركيز على الدور المحوري لإيران في المنطقة"!. ولكي لا يكون الكلام جزافا وعاطفيا علينا باستقراء العلاقة بين الطرفين: إيران من جهة، والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى!
فقد مثل الشاه ونظامه في إيران أداة طيعة للولايات المتحدة الأميركية وشرطيا لها في المنطقة، وحتى ثورة الخميني "الإسلامية"! لم تكن في الحقيقة طاهرة من دنس هذه العلاقة مع واشنطن وإن كانت في السر! بل إن تلك المواجهة التي ظهرت مبكرا بين الثورة الإيرانية وواشنطن، والتي تمثلت في حادثة اقتحام السفارة الأميركية في طهران واختطاف الدبلوماسيين فيها كرهائن، والتي كان وراءها بحسب شهادة "أبو الحسن بني الصدر" الأمريكيون! وأنها كانت لخدمة مصالح الفريقين: "لخدمة الملالي في إيران، وأيضاً خدمة الجمهوريين في الولايات المتحدة الأميركية، الذين كانوا يريدون تغيير نفسية الأمريكيين الذين استكانوا إلى السلام بعد حرب الفيتنام، حتى أنهم عادوا إلى عزلتهم المعروفة، لهذا كان يجب إيقاظ الروح العدائية عندهم باستغلال موضوع الرهائن، والنتيجة كانت وصول الجمهوريين للسلطة، وقيل كثيراً إن الخطة كانت من إعداد (هنري كيسنجر) والسيد (روكشيلر) ولم يكن بالتأكيد من إعداد الطلبة الثوار، لم نجد طالباً واحداً يحدثنا عن مخطط العملية حتى الآن، لا نعرف في إيران حتى اليوم من الذي خطط لعملية الرهائن".
وبعد فوز ريجان في انتخابات الرئاسة، تم التوصل في مطلع عام 1981م لاتفاق في لندن، أفرجت إيران بموجبه عن الرهائن الأمريكيين، واستمرت الولايات المتحدة في تزويد الجيش الإيراني بالسلاح وقطع الغيار والعتاد. . وفي مارس- أبريل 1981م، نقلت الطائرات من إسرائيل إلى إيران قطع غيار طائرات "إف-14" المقاتلة ومعدات عسكرية أخرى. وعبر إسرائيل، اشترت إيران في عام 1983م صواريخ أرض-أرض من طراز "لاتس"!
لقد كانت واشنطن على علاقة سابقة مع قيادة الثورة "الإسلامية"! التي قادها الخميني، فقد نشرت مجلة تايم الأميركية في 5/3/1979م تصريحاً للرئيس كارتر رد فيه على معارضيه، قال فيه: "إن الذين يطلبون من الولايات المتحدة أن تتدخل بشكل مباشر لوقف الأحداث مخطئون ولا يعرفون الحقائق القائمة في إيران!! لقد سبق أن أجرينا اتصالات مع أبرز زعمائها منذ بعض الوقت"! هذا الاتصال ضمن لواشنطن بقاء مصالحها التي عبر عنها هارولد ساوندرز -مساعد وزير الخارجية الأميركية الأسبق- في تقرير ألقاه أمام لجنة شؤون الشرق الأوسط، بقوله: "إن المصالح الأميركية في إيران لم تتغير، ولنا مصلحة قوية في أن تبقى إيران دولة حرة مستقرة ومستقلة"!
وفي حديث لوزير الدفاع الأمريكي براون -حينها- وصف حكومة بازركان -أول رئيس وزراء في عهد الخميني- بأنها متعاونة جداً وباستطاعة الأمريكان أن يقيموا معها علاقات ودية! وفي تصريح هام للراديو الحكومي قال بازركان: "إن جوهر الوجود الإيراني كدولة قد تولد من اتصالنا مع الغرب!! وإنه لما يتنافى مع المبادئ الإسلامية تدمير كل ما هو أجنبي"! بل سبق أن صرح آية الله روحاني، الذي كان ممثلاً للخميني في واشنطن، عندما كان الأخير في فرنسا، بالقول: "أنا مقتنع بأن أمريكا أعطتنا الضوء الأخضر"!
هذه العلاقة ظلت مستمرة حتى في أجواء الحرب العراقية الإيرانية، ففي عام 1986م، قام مستشار الأمن القومي الأمريكي بَدْ مكفارلن بزيارة سرية لطهران، وحضر والوفد المرافق له على متن طائرة تحمل معدات عسكرية لإيران، وكان الكشف عن هذه الزيارة هو ما أثار القضية التي عرفت وقتها ب"إيران غيت" والتي قام الأمريكان -بتعاون ومباركة يهودية- بتزويد إيران بأسلحة في وقت كانت تقوم فيه على حماية الخليج العربي من الزحف الإيراني الإرهابي!!
وفي غمرة الاحتفالات بالذكرى العشرين للثورة قال آية الله حسين علي منتظري: إن خيار القطيعة بين إيران والولايات المتحدة منذ انتصار الثورة وضع مؤقت قابل للتغيير وفقاً للظروف السياسية والاقتصادية! إن العلاقة مع أمريكا تحددها مصالح البلاد! لا بدَّ من مراجعة للسياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة في شكل عملي، وعلى يد أصحاب الخبرة والاختصاص، وإذا توصلوا إلى وجود مصلحة في التطبيع ما عليهم إلا أن يبادروا إلى ذلك من دون تردد.
وفي مقال لتوماس فريدمان، في صحيفة هيرالد تربيون 30/3/1995م، ذكر أنه حتى هذا العام كانت أمريكا هي الشريك التجاري الأول لإيران!! وأن الصادرات الأميركية إلى إيران زادت عشر مرات منذ العام 1979م.
أما وزيرة الخارجية الأميركية الصهوينية مادلين أولبرايت فقد صرحت في 21/1/1999م بالقول: "فكرنا كثيراً في شأن كيفية التعامل مع إيران، لأن من المهم ألا يُعزل إلى ما لا نهاية بلد بهذا الحجم والأهمية والموقع"!! وكانت أولبرايت قد أوصت الرئيس كلينتون، في 25/11/1998م، برفع اسم إيران من القائمة الأميركية للدول الرئيسة المنتجة للمخدرات، وذلك في خطوة إيجابية تجاه هذا البلد. (صحيفة الحياة، العدد 13049). ولم يتأخر الرئيس كلينتون في الاستجابة، فكان أن أصدر قراراً برفع اسم إيران من القائمة بتاريخ 8/12/1998م. (الشرق الأوسط، العدد 7315)!!
ويقول السفير الأمريكي السابق لدى قطر جوزيف جوجاسيان الذي عمل في الدوحة بين عامي 1985م و1989م إن الرئيس الأمريكي سيلغي قرار حظر تعامل الشركات الأميركية مع طهران قبل نهاية العام المقبل 1999م. ولفت إلى أن كلينتون وضع على الرف قراراً كان أصدره الكونغرس يمنع تعامل شركات غربية مع إيران، مشيراً إلى أن هذا القرار سينتهي تلقائياً عام 2001م، وأعرب عن اعتقاده أنه لن يتم تجديده، وقال إن الشركات الأميركية ستعود قريباً للعمل في إيران. (الحياة، العدد 13056، 2/12/1998م)!
إن إيران أحمدي نجاد هي إيران محمد خاتمي هي إيران آية الله الخميني هي إيران الشاه، لا فرق! ولنستشهد هنا بتصريح علي أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام والرئيس الإيراني السابق، في 8 فبراير 2002م، في خطبته بجامعة طهران، حيث يقول: إن القوات الإيرانية قاتلت طالبان، وساهمت في دحرها، ولولا مساعدة القوات الإيرانية في قتال طالبان لغرق الأمريكيون في المستنقع الأفغاني! وتابع قائلاً: "يجب على أمريكا أن تعلم أنّه لولا الجيش الإيراني الشعبيّ ما استطاعت أمريكا أنْ تُسْقط طالبان"!
كما صرح محمد علي أبطحي، نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية سابقا، في الإمارات العربية المتحدة في ختام أعمال مؤتمر "الخليج وتحديات المستقبل" الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية (15/1/2004م) قائلا: إنّ بلاده "قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربهم ضد أفغانستان والعراق"! وأنه "لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة"!!
"أتصور أن السياسة الواقعية التي انتهجتها إيران في تطوير الأيديولوجيا على أساس الموازين الشرعية، لمصلحة الواقع السياسي والاقتصادي والأمني يمكن أن تفسح المجال لتطوير العلاقات الإيرانية مع الواقع الدولي حتى مع أمريكا. وفي الواقع فإن الخطوط السياسية في إيران لا تمنع من علاقات مع أمريكا، ولكن مسألة التجاذب والجدية بين أمريكا وإيران هي مسألة الشروط، إذ تعمل إيران على أن تحافظ على موقعها وعنفوانها واستقلالها بينما تريد أمريكا إخضاع إيران على الطريقة التي تخضع بها الدول الأخرى. واعتقد أن القضية لا بد أن تصل إلى نقطة التوازن، لأن أمريكا وحسب رصدي للطريقة الأميركية السياسية، التي تدير بها أمريكا المواجهة ضد إيران، أي طريقة العصا والجزرة، توحي أن أمريكا تفكر ولو في المستقبل البعيد في أن تحرك مصالحها الاقتصادية والسياسية في الساحة الإيرانية. ومن الممكن جدا أن تقدم بعض التنازلات في مقابل ما تقدمه إيران من تنازلات على الطريقة الواقعية التي تقول: لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم"!
يا ترى من الذئب ومن الغنم في المعادلة؟ وهل ستتخلى إيران نجاد عن مشروع الخميني، الذي "كان يريد إقامة حزام شيعي للسيطرة على ضفتي العالم الإسلامي، كان هذا الحزام يتألف من إيران والعراق وسوريا ولبنان، وعندما يصبح سيدا لهذا الحزام يستخدم النفط وموقع الخليج الفارسي للسيطرة على بقية العالم الإسلامي، كان الخميني مقتنعاً بأن الأمريكيين سيسمحون له بتنفيذ ذلك، قلت له: إن الأمريكيين يخدعونك، ورغم نصائحي له ونصائح الرئيس عرفات -الذي جاء يحذره من نوايا الأمريكيين- فإنه لم يكن يريد الاقتناع"!
لقد قطعت واشنطن العلاقات مع إيران في عام 1980م، وكانت ترى فيها خطرا على مصالحها في الخليج! في حين كانت الولايات المتحدة الأميركية في ثقافة الثورة الإيرانية (الشيطان الأكبر)! هذا في العلن أما في السر فيبدو أن إيران -رابع أكبر منتج للنفط في العالم- كانت "تتمتع" بعلاقة دافئة مع واشنطن!
وبالرغم من أن إيران ضمن محور الشر الذي أعلنه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عقب الحادي عشر من سبتمبر، ورغم استمرارها في برنامجها النووي إلا أنها لم تتعرض لأي هجوم أمريكي! فمصلحة واشنطن إضعاف طهران وليس القضاء عليها! منذ الحرب العراقية الإيرانية! وأكبر دليل على ذلك فضيحة "إيران غيت"!
و"الواقع أنه رغم أن إيران تصنف الولايات المتحدة على أنها (الشيطان الأكبر) الذي تنبغي مواجهته، فإن تأكيدات المواجهة لم تتعدَّ التصريحات والهتافات بالموت لأمريكا"، فقد أكد محمد خاتمي-الرئيس السابق للجمهورية- "أن إيران ليست راغبة في الحرب مع أحد، حتى مع أعدائها"! ويقول العميد محمد باقر ذو القدر-نائب القائد العام لجيش حراس الثورة الإسلامية: "إننا لا نرحب بالحرب، ولكننا ندافع عن هويتنا"!
الهوية! التي توصف اليوم بأنها ضد إسرائيل!!! وهذه قضية أخرى!
فإذا كانت دولة إيران من أوائل الدول التي اعترفت بالكيان اليهودي سنة 1948م بقيادة القادة الشيعيين من ملوك إيران! فالوضع لم يتغير بعد قيام الثورة "الإسلامية" يقول بني الصدر، في حديثه للجزيرة حول علاقة إيران بإسرائيل في حربها ضد العراق: "في اجتماع المجلس العسكري أعلمنا وزير الدفاع أننا بصدد شراء أسلحة من إسرائيل، عجباً كيف يعقل ذلك؟! سألته: من سمح لك بذلك؟ أجابني: الإمام الخميني. قلت: هذا مستحيل!! قال: إنني لا أجرؤ على عمل ذلك وحدي، سارعت للقاء الخميني، وسألته: هل سمحت بذلك؟ أجابني: نعم. إن الإسلام يسمح بذلك، وأضاف قائلاً: إن الحرب هي الحرب، صعقت لذلك صحيح أن الحرب هي الحرب ولكن أعتقد أن حربنا نظيفة، الجهاد وهو أن تقنع الآخرين بوقف الحرب، والتوق إلى السلام، نعم، هذا الذي يجب عمله، وليس الذهاب إلى إسرائيل وشراء سلاح منها لمحاربة العرب، لا، لن أرضى بذلك أبداً، حينها قال لي: إنك ضد الحرب وكان عليك أن تقودها لأنك في موقع الرئاسة"!
غير أن "إيران غيت، شراء الأسلحة الأميركية عبر إسرائيل" لم تغب عنها شمس الحقيقة! كما أن علاقة إيران الثورة مع الكيان الصهيوني لم تدم في الخفاء!
فقد صرح ديفيد ليفي -وزير الخارجية اليهودي في حكومة نتنياهو- قائلا: إن إسرائيل لم تقل في يوم من الأيام إن إيران هي العدو! ويقول الصحفي اليهودي أوري شمحوني: إن إيران دولة إقليمية ولنا الكثير من المصالح الإستراتيجية معها، فإيران تؤثر على مجريات الأحداث وبالتأكيد على ما سيجري في المستقبل، إن التهديد الجاثم على إيران لا يأتيها من ناحيتنا بل من الدول العربية المجاورة! فإسرائيل لم تكن أبدا ولن تكون عدوا لإيران!
لكن إسرائيل حرصت ألا تحرج طهران أو تفضحها! فأصدرت حكومة نتنياهو أمرا يقضي بمنع النشر عن أي تعاون عسكري أو تجاري أو زراعي بين إسرائيل وإيران، وجاء هذا المنع لتغطية فضيحة رجل الأعمال اليهودي ناحوم منبار الذي أدانته محكمة تل أبيب بالتورط في تزويد إيران ب50 طنا من المواد الكيمائية لصنع غاز الخردل السام! وقد تقدم المحامي اليهودي أمنون زخروني -حينها- بطلب بالتحقيق مع جهات عسكرية واستخباراتية أخرى زودت إيران بكميات كبيرة من الأسلحة أيام حرب الخليج الأولى!
فقد قامت شركة كبرى تابعه لموشيه ريجف، الذي يعمل خبير تسليح لدى الجيش الإسرائيلي، ما بين (1992م-1994م) ببيع مواد ومعدات وخبرات فنية إلى إيران، وقد كشفت عن هذا التعاون الاستخبارات الأميركية بصور ووثائق تجمع بين موشيه والدكتور ماجد عباس رئيس الصواريخ والأسلحة البايولوجية بوزارة الدفاع الإيرانية. وقد نقلت جريد الحياة (عدد 13070) عن كتاب "الموساد" للعميل السابق في جهاز الاستخبارات البريطانية ريتشارد توملينسون: وثائق تدين جهاز الموساد لتزويده إيران بمواد كيماوية! وذكرت الصحيفة عن صحيفة "هآرتس" أن ريتشارد توملينسون، وهو عميل سابق لجهاز الاستخبارات البريطاني، أكد في كتابه أن جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد) ساعد إيران على شراء عتاد كيماوي في وقت كان يقود حملة استخباراتية دولية لإحباط خطط إيران، لكن في الوقت ذاته عمل الموساد سراً ووحده من دون علم الأطراف الأخرى وبالتعاون مع الإيرانيين لعقد صفقة تهدف إلى مساعدة الإيرانيين في جهودهم لإنشاء مصنع للأسلحة الكيماوية في مقابل إطلاق الطيار الإسرائيلي "رون أراد" الذي قبض عليه في لبنان بعد سقوط طائرته!
"في كل الأحوال فإن من غير المحتمل أن تقوم إسرائيل بهجوم على المفاعلات الإيرانية، وقد أكد عدد كبير من الخبراء تشكيكهم بأن إيران -بالرغم من حملاتها الكلامية- تعتبر إسرائيل عدوا لها. وأن الشيء الأكثر احتمالا هو أن الرؤوس النووية الإيرانية موجهة للعرب"! فقد أعلن إيتان بن تسور، مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية، عدم وجود خصومة بين البلدين أي إسرائيل وإيران. . فتنتفي دوافع العداء بينهما على المستويين الرسمي والشعبي!
وهذا ما يفسر إفراج إيران عن الجواسيس اليهود في طهران! يقول عنها السفير الإسرائيلي المتقاعد هانان باريمون -الذي يعمل مستشاراً لرئيس بلاده عايزرا وايزمان: إيران دولة إقليمية مهمة ليس لنا معها أو مع شعبها أي خلاف أو عداء! ويضيف: إنه لا يوجد أي توجه عدائي إسرائيلي نحو إيران، لكن عليها أن تعمل للتكيف مع ظروف النظام العالمي الجديد!
وإيران التي ساهمت في احتلال العراق، تعلم مؤكدا بوجود الموساد الإسرائيلي وكافة الأجهزة الاستخبارية الأخرى على أرض العراق، وتعلم أن هناك وجود صهيوني! لا بل مشروع صهيوني! تقوم به قوات الاحتلال الأمريكي والشركات اليهودية على أرض العراق لتمزيقه إلى دويلات طائفية وعرقية! ونهب ثرواته ومقدراته! فلماذا لا تعمل على محاربة الوجود والتغلغل الإسرائيلي تحت غطاء الخبراء والضباط والجنود والشركات؟! رغم نفوذها في الأوساط الشيعية! ووجودها على الساحة من خلال عشرات الميليشيات المسلحة التي تصفي الوجود السني العربي! في حين يعلن الجعفري والبارزاني عن نيتهما لتطبيع العلاقات مع إسرائيل من خلال فتح قنصلية رسمية في أربيل شمال العراق!
بهذا الوضوح وهذا الجلاء نكون قد وصلنا إلى الواقع الذي يتحدث عنه صبحي الطفيلي: "اليوم هناك محاولة أمريكية لأن يلعب الشيعة دورا لصالح أمريكا في المنطقة، وهناك جهات سُنية تراقب وتعتبر هذا الدور دور عمالة للكفر وجريمة ضد الإسلام، وبالتالي الشيعة يلعبون دورا قذرا، حنقول الأمور بوضوح هذا الأمر قد يتفاقم ويصل إلى درجة يصبح قتل الشيعي وقتل الأمريكي سيان عند شريحة واسعة من المسلمين، ويصبح إذا صدق الناقلون -وإن كنت أشك بذلك- أن قتل الناس في كربلاء في يوم عاشوراء أو في الكاظمية أمر من ضروريات العمل لتحرير الأمة الإسلامية من الوجود الأمريكي وهذه مصيبة!"!
وللخروج من هذه النتيجة يقول الطفيلي: "على المسئولين الشيعة وعلى رأسهم إيران أن يبعدوا أنفسهم عن القطار الأمريكي"! لأن هذا القطار سيرحل في يوم من الأيام! وإذا رحل فسيكون في "أجواء أن الشيعي كان في خدمة الأمريكي"! مما قد يعرضهم للانتقام السني وقتلهم باعتبارهم عملاء للاحتلال! ويضيف الطفيلي: "من يتحمل المسؤولية أليست السياسة الإيرانية! وكذلك في الخليج وكذلك في الحجاز وكذلك في لبنان وكذلك في أي مكان، في إيران شريحة شيعية واسعة يمكن أن تحمي نفسها! لكن نحن -يقصد بقية الشيعة- في أصقاع الدنيا ليس كذلك! ولا يعني هذا أنه يجب علينا أن نمتنع عن العمل مع الأمريكان خوفا على أنفسنا، لا الأمريكان أعداء الأمة أعداء الإسلام، يجب على كل مسلم لأي فئة انتمى أن يدافع عن دينه وعن أمته وعن بلده، يجب علينا أن نقاتل وبضراوة وبكل قوة الغزو الأمريكي لعالمنا الإسلامي!
أنا أقول بصراحة إيران تمسك بأكثر خيوط العمل السياسي العراقي الشيعي! على إيران إذا كانت لا تستطيع أن تساعد العراقيين في الجهاد وتحرير بلادهم ألا تمنعهم عن هذا الفعل! وألا تحول دون ذلك! وأنا أستنكر شديد الاستنكار دعوة بعض المسئولين الإيرانيين الأمريكان للتعاون في العراق! وأعتبر هذا ضربا من ضروب العدوان على أمة المسلمين هذا أولا! على القيادات في النجف وفي غير النجف