كمال بن محمد الريامي
تعرضت المخطوطات اليمنية كسائر - المخطوطات العربية والإسلامية - لأعمال النهب والسرقة والإحراق والإتلاف والتحريف والشطب، والقليل منها نجا من ذلك. .
والمخطوطات أهمية خاصة عند العلماء والباحثين، لا تقل عن أهمية الآثار والنقوش، وربما زادت أهمية للمخطوطات - عندهم - على الآثار، وذلك لأن الأثر أو النقش - يحكي في صمت عن مرحلة وحقبة معينة من التاريخ، بينما المخطوط يحكي - ويكاد ينطق - عن مراحل وأزمنة مختلفة، ناهيك عن ما تحويه المخطوطات من علوم ومعارف تذكرنا بما وصل إليه الآباء والأجداد من مكانة علمية رفيعة. .
ومن هنا أود التوقف مع بدايات رحلة - المخطوط اليمني - وخروجه من البلاد، وتنقله بين مكتبات العالم المختلفة، لنقف على الحقيقة ونلمس عن قرب بداية المأساة التي صنع أول خيوطها التاجر الإيطالي "جوزيف" الذي عاش في صنعاء - أيام حكم الإمام يحيى- وعنه يحدثنا الأستاذ عصام محمد الشنطي فيقول :"وذكر المنجد قصة ذلك التاجر الإيطالي في صنعاء الذي كان يبيع للناس الأقمشة والمواد الغذائية ويطلب مقابلها مخطوطات، فاستطاع أن يجمع ما يقرب من ستة آلاف مخطوطة حملها معه هدية إلى مكتبة الفاتيكان، ومن ثم أهدتها هذه المكتبة إلى مكتبة أمبروزيانا"، وتعرض مؤرخ اليمن الكبير العلامة/ إسماعيل بن علي الأكوع لشخصية جوزيف أثناء حديثه عن الإمام يحيى، حيث يقول:" فمن ذلك أنه - أي الإمام يحيى - كان على صلة قوية بالبقال الإيطالي جوزيف "يوسف" كابروتي الذي كان له بقاله في سوق الملح في أعلى صنعاء، ليخفي نشاطه السياسي كعملية للمخابرات الاستعمارية ضد الدولة العثمانية، وكان موجوداً في صنعاء خلال السنوات 1323،1322،1321،1320ه تقريباً الموافق سنة 1902-1905م تقريباً، وخلال وجوده في صنعاء اقتنى مجموعة كبيرة من المخطوطات والآثار"
وكان لا بد لهذا الإيطالي من واسطة، يقول القاضي إسماعيل الأكوع متمماً لما سبق:"اشترى ما اشتراه من المخطوطات بواسطة الوراق أحمد مصلح السكري، وقد باعها إلى مكتبة دير الأمبروزيانا في مدينة ميلانو بإيطاليا بواسطة المستشرق أو جينو غريفيني سنة 1923م، وعددها 1610"
وذكر هذه القصة كذلك الدكتور صلاح الدين المنجد - الذي نقل عنه الشنطي ما تقدم إلا أنه جعل عدد المخطوطات التي هربها" جوزيف" ستة آلاف مخطوطة، ولا ندري من أين استقى هذا الرقم في كتاب:"فهرست المخطوطات العربية بمكتبة الأمبروزيانا" حيث قال:"المجموعة الجديدة، وقد دخلت المكتبة في أوائل القرن العشرين، ويبلغ عددها 180 مخطوطاً جمعت من اليمن، وأهداها إلى المكتبة سنة 1914م السيناتور الإيطالي LUCA1BELTRAMI ثم أضيف إلى المجموعة الجديدة في عام 1919م قسم جديد يبلغ عدده 1610، وكان هذا القسم قد جمعه تاجر إيطالي عاش في صنعاء ثلاث سنين"1910-1913م"، ونقله إلى إيطاليا، ثم أهدي إلى الامبروزيانا عام 1919م في عيدها المئوي الثالث"، وجوزيف جزء من حركة الاستشراق والاستعمار الغربي للبلدان العربية، والتي أسهمت كما يقول الدكتور مجبل المالكي:"في تسرب مجاميع كبيرة من المخطوطات اليمنية لتستقر في المتاحف والمكتبات الكبرى في أرجاء مختلفة من العالم، فعلى سبيل المثال تحتوي مكتبة الأمبروزيانا بميلا نوفي إيطاليا على ما يقرب من 7000 مخطوط من التراث اليمني مما كتب عن اليمن أو خطه مؤلفون يمنيون، كما توجد مخطوطات كثيرة في مكتبة الأسكوريال بأسبانيا، والمكتبة الوطنية في باريس، والمكتبة السليمانية في استانبول ،ومكتبة برلين، ومكتبات بريطانيا وايرلندا والهند وباكستان وأفغانستان" ويواصل كلامه قائلاً:" وكان جريفيني الإيطالي قد اقنع كابروتي التاجر الإيطالي ببيع مخطوطاته اليمانية وعددها"160" وقد اشترتها منه مكتبة ميلانو ولا زالت مكتبة الأمبروزيانا تحتفظ بتلك المخطوطات التي صنفها جريفيني"، وذكر كذلك المستشرق R. B. SERJEANT والذي بدأ برحلاته لليمن سنة 1940م وقد نجح في حمل عشرات المخطوطات اليمانية، ومازلنا مع المالكي الذي يذكر أن مكتبة فينا الوطنية تضم المئات من المخطوطات العربية النفيسة، و205 مخطوطاً من مؤلفات الزيديين جمعها جلازر من اليمن والذي سبق وأن باع 246 مخطوطاً للمكتبة الملكية ببرلين عام 1877م و250 مخطوطاً باعها للمتحف البريطاني كلها من التراث اليمني.
وممن اشتهر بجمع المخطوطات اليمنية وبيعها العلامة مشرف بن عبد الكريم المحرابي، الذي يحدثنا عنه القاضي/ إسماعيل الأكوع فيقول" جمع ثروة كثيرة من المخطوطات وفيها نوادر لا مثيل لها، وهو ميسر لاقتنائها بيسر وسهولة، فقد كان مسلطاً على كثير من بيوت العلم في جبلة وإب وتعز وكثيرٍ من مدن تهامة. . باع عدداً من نوادرها إلى مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وربما إلى غيرها، ولديه مشروع يسعى إلى تنفيذه وهو تصوير المخطوطات
لفاكسميل لبيعها والاحتفاظ بالأصول، وكنت قد عرضت عليه أن أجعله وكيلاً للهيئة العامة للآثار ودور الكتب لشؤون المخطوطات لنستغل موهبته في سرعة اقتناص الكتب لشرائها لدار المخطوطات قبل أن تتلف أو تباع فتنتقل إلى خارج اليمن، فوعدني بأنه سيرد علي بالموافقة، ولكنه لم يفعل.
وقد آلت لهذا الرجل أكثر كتب علماء بني المجاهد ومكتبة حاكم جبلة علي بن الحسين بن المتوكل، وأحمد بن إسماعيل بن المتوكل وأحمد بن محسن بن المتوكل وغيرهم بالشراء من ورثتهم بأرخص الأثمان لجهلهم بقيمتها وحاجتهم للمال. ولا ننسى العلامة حسين السبيعي الذي رحل إلى الهند كما يقول المؤرخ/ إسماعيل الأكوع وأقام عند ملك بهوبال محمد بن صديق بن حسن القنوجي، وكان يجلب له الكتب النفيسة من اليمن، ومنها بعض كتب الإمام البدر محمد بن إسماعيل الأمير،وبعض كتب الإمام شيخ الإسلام الشوكاني وغيرهما، وقد انتحل محمد بن صديق كثيراً منها، ونسبها إلى نفسه ونشرها باسمه.
ومن المكتبات التي احتوت على نفائس من المخطوطان اليمنية مكتبة العبيكان في الرياض وقد زارها القاضي/ إسماعيل الأكوع فقال:"ولم أنس أن أزور مكتبة الشيخ محمد بن عبدالرحمن العبيكان في الرياض، وقد جمعها كلها من اليمن حينما كان سفيراً للمملكة العربية السعودية فيها في عهد ما قبل الثورة في اليمن، وفيها من نفائس المخطوطات شيء كثير، وجمع كذلك تحفاً كثيرة من الآثار اليمانية النادرة"، أخيراً هذا ما توقفت عليه من القصص التي تحكي بداية المأساة" لمخطوطاتنا التراثية"، ومازال مسلسل تهريب المخطوطات مستمراً، وإن كان هؤلاء الذين ذكرتهم قد أودعوا المخطوطات التي استولوا عليها مكتبات عالمية، فإن نفراً آخرين قد تعرضت" المخطوطات التي بحوزتهم" للإتلاف والتمزق والضياع. . وصارت في عداد المجهول. .