د. جلال أمين
من المهم أن نتعلم من التاريخ، ولكن هناك دائما خطر أن نتعلم منه أكثر من اللازم.
من المهم أن نتعلم من التاريخ لأن التاريخ كثيرا ما يعيد نفسه، ومن ثم فإن معرفة الماضي لابد أن تساعدنا على فهم المستقبل والتعامل معه. ولكن التاريخ كثيرا ما لا يعيد نفسه، والفيلسوف اليوناني القديم نبهنا منذ زمن طويل إلى أن «المرء لا ينزل إلى النهر الواحد مرتين» لأن المرء دائم التغير والنهر الذي يبدو واحدا يتغير هو الآخر، فإذا بك وقد خيل إليك أنك تنزل إلى النهر الواحد مرتين، لا تنزل أبدا إلى نفس النهر، وأنك أنت أيضا لست نفس الشخص الذي نزل إلى هذا النهر في المرة السابقة.
خطر لي هذا وأنا أفكر في الإجابة على هذا السؤال «ما معنى الهيمنة في عصر العولمة؟» ذلك أننا قد نظن لأول وهلة أنه إذا كانت الولايات المتحدة حقا في أفول، وأنها تفقد مركزها تدريجياً باعتبارها الدولة الأقوى والأعظم في العالم، فلا بد أن تحل محلها دولة أخرى، أو ربما دولتان أو ثلاث على الأكثر، فتنتقل الهيمنة من أميركا إلى الصين مثلا، أو إلى الصين و أوروبا، أو ربما انضمت الصين وأوروبا إلى الولايات المتحدة فيصبح لدينا عالم «متعدد الأقطاب»، وتحل محل الإرادة الواحدة إرادتان أو ثلاث على الأكثر. ألا يعلمنا التاريخ ذلك؟
ألم تكن فرنسا وبريطانيا هما الدولتان الأعظم خلال القرن الثامن عشر ثم تراجع مركز فرنسا لصالح بريطانيا خلال القرن التاسع عشر، بعد هزيمة نابليون، وأصبحت بريطانيا هي القوة الأعظم في العالم المعروف وقتها، والتي تملك امبراطورية وصفت وقتها بأنها لا تغرب عنها الشمس؟
ألم يتراجع مركز بريطانيا ابتداء من نهاية ذلك القرن لصالح الولايات المتحدة وألمانيا، ثم تراجع مركز ألمانيا بعد هزيمتها في حربين عالميتين في القرن العشرين، وأسفر الأمر عن صعود دولتين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، أصبحتا هما الدولتان الأعظم طوال الأربعين عاما التالية لهزيمة ألمانيا في ؟
ثم ألم تنفرد الولايات المتحدة بالمركز الأول طوال العشرين عاما الماضية بعد انفراط عقد الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات من هذا القرن واستمرت أميركا تفرض إرادتها المنفردة على الجميع؟
فإذا كان هذا هو ما حدث في الماضي: دولة أو دولتان تحل محل دولة أو دولتين في قيادة العالم، فما الذي يمكن أن نتوقعه إذا فقدت أميركا تدريجيا هذه الهيمنة؟ أليس طبيعيا أن ينصرف الذهن إلى التساؤل عن الدولة أو الدولتين اللتين يمكن أن تحلا محل الولايات المتحدة؟ هل يمكن أن يغير العالم مساره فجأة وتنتهي ظاهرة سيطرة القطب الأوحد أو القطبين؟
هناك أكثر من سبب يدفعنا إلى الاعتقاد بأنه خلال الخمسين عاما الماضية حدث ما جعل القول بأنك «لا تنزل إلى النهر الواحد مرتين» أكثر صدقا الآن منه في أي وقت آخر، وأننا لا يجب أن نستغرب هذا بالمرة. فهل شهد الإنسان في أي مرحلة من تاريخه، معدلا للتغير أعلى من معدلات التغير التي شهدها خلال نصف القرن الماضي في التكنولوجيا، وفي أنواع السلع والخدمات المنتجة، وفي نمط الحياة، وفي العلاقات الاجتماعية.
وفي سبل الاتصال ونقل المعلومات، وفي سهولة انتقال الناس والسلع ورؤوس الأموال والأفكار من جزء من العالم إلى جزء آخر؟ فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، فكيف نظن أننا في هذا الموضوع بالذات، أي في موضوع الهيمنة وانفراد دولة أو دولتين بتقرير مصير العالم، لن يتغير الأمر عما كان خلال القرون الماضية؟ كيف لا ننتبه إلى أن شيئا آخر مهما يحدث في العالم، وأن من شأنه أن يدخل تغييرا جذريا على معنى الهيمنة؟
إن الأمر لا يقتصر على تراجع مركز دولة وصعود أخرى، بل يتعلق أيضا بدخول دول كثيرة أخرى حلبة المنافسة. منذ أربعة عقود فقط دخلت اليابان بقوة حلبة المنافسة. ومنذ عقدين فقط دخلت كوريا وتايوان وماليزيا نفس الحلبة، وبقوة أيضا. ومنذ عقد واحد دخلت الهند أيضا، وبدأت دول أوربا الشرقية تطالب بمكان لها إلى جانب الآخرين، وبدأت بعض دول أميركا اللاتينية بعد تراجعها لعقدين من الزمان تستعيد عافيتها، ولا شك أنها ستطالب هي الأخرى بدور مهم فيما يدور في العالم.
إن القول المشهور بأن العالم قد أصبح «قرية كبيرة واحدة» لا يعني مجرد سهولة الاتصال بين جزء من العالم وجزء آخر منه، بل يعني أيضا استحالة الهيمنة بالمعنى القديم. كل فرد يريد أن يسمع رأيه، وهو يستطيع أن يسمعه بالفعل، والكل يريد أن يكون له دور، والكل يعرف ما يدور ويعلق عليه ويؤيده أو ينتقده، وحياة كل فرد، أو على الأقل مصالحه، تتوقف على ما يفعله الآخرون، حتى ولو كان هذا الفرد أقوى سكان القرية طرا.
الهيمنة تفترض تفاوتا صارخا في قوة المساومة، وقد كان الحال كذلك بين فرنسا وبريطانيا وبين العالم في القرن الثامن عشر، وبين بريطانيا وبين العالم في القرن الذي يليه.. الخ. ولكن الولايات المتحدة تحتاج الآن إلى الصين كسوق للسلع ورؤوس الأموال مثلما تحتاج الصين إلى الولايات المتحدة كسوق للسلع ورؤوس الأموال. وقل مثل هذا عن حاجة أوربا إلى كل من الصين والولايات المتحدة، وعن حاجة أي دولة تنضم إلى حلبة المنافسة في علاقتها مع الآخرين.
بل إن عصر العولمة الذي نعيش فيه الآن، يثير تساؤلات جديدة عن معنى الدولة نفسها. فعندما نقول مثلا إن الميزان التجاري الأميركي في تراجع مستمر، ما الذي نقصده بالضبط بوصف «الأميركي»؟ هل نقصد ما ينتج داخل حدود الدولة الأميركية، أم نضم أيضا ما تنتجه الشركات الأميركية في الخارج؟
إن ضم إنتاج هذه الشركات يجعل تراجع الاقتصاد الأميركي أقل بكثير مما يبدو لنا لو اقتصرنا على ما يجري إنتاجه داخل حدود الدولة، بالضبط كما أن فريق كرة القدم الفرنسي مثلا، يبدو أقوى بكثير لو سمح له (كما يسمح له بالفعل) بضم لاعبين من شمال إفريقيا أو وسطها باعتبارهم «فرنسيين».
للهيمنة في عصر العولمة معنى آخر يختلف عما اعتدنا عليه، بل قد يكون اختفاء ظاهرة الهيمنة اختفاء تاما أقرب إلينا بكثير مما نظن.