شكري عبدالغني الزعيتري
رجل عاقل مكمل بعقله.. في عز شبابه .. ومظهره يدل على نظافته.. وعندما يحاورك بطلب الصدفة تسمع منه إطلاق الكلمات المقتبسة من اللغة العربية ومفرداتها مما يدل على انه مثقف، والعجب العجاب انك ستراه كما رأيته يطوف ويجول في جولات المرور بالشوارع الرئيسية يشحت متسولاً من جميع أصحاب السيارات التي تتوقف عند إشارات المرور بالجولات وعندما رأيت ما رأيت منه قلت في نفسي ما هذا العجب وما هي قصة هذا الرجل ؟! وجرني فضولي ككاتب صحفي لمعرفة قصته وللحصول على إجابات أثيرت في ذهني فعندما فعندما وصل إليّ مروراً بمن قلبي سألني صدقة فقدمت له دعوة لتناول وجبة الغداء في مطعم بغرض استمرار التواصل والحديث المطول معه لأحصل على إجابات الأسئلة التي أثيرت في ذهني، فقبل دعوتي له للغداء وإلى اقرب مطعم مجاور لجولة المرور التي وجدته فيها دخلنا وجلسنا حول إحدى الطاولات.. جاء احد العاملين بالمطعم سائلاً: ماذا تريدان أن تأكلا؟ فوجهت نفس السؤال لضيفي: ماذا تريد أن تأكل؟ فأجابني مثل ما تريده، فطلبت وجبة غداء منوعة من الطعام، وذهب عامل المطعم لتجهيزها وإحضارها.. وبينما نحن منتظران بدأت محادثة ضيفي وفتح الحوار بيننا والانتقال به من موّال.. إلى آخر حتى استدرجته إلى الحديث والإجابة عن أسئلتي والتي كانت: هل أنت متعلم؟ فأجاب: نعم وعندي شهادة الثانوية العامة. هل أنت متزوج؟ فأجاب: نعم. منذ متى؟ فأجاب: منذ اثنتي عشرة سنة. هل عندك مصدر دخل أي موظف في جهة ما؟ فأجاب: لا.. لم أجد عملاً رغم أني بحثت في أماكن كثيرة. هل تقرأ كتباً ثقافية؟ فأجاب: أحياناً وباستمرار أقرأ الصحف التي أحصل عليها مجاناً من الآخرين بعد أن ينهوا قراءتها ويرموها. فقلت: أراك متعلماً، مهندم الملابس، مثقفاً، شاب يظهر عليك النشاط ولا يمنعك عن العمل حاجب من إعاقات صحية أو شيخوخة أو غيرها.. وأراك تتسول!! لماذا؟ والمعذرة والعفو منك لهذا السؤال؟ فرد عليّ: (عادي) وقد رأيته تأثر من هذا الطرح وبدأت عيناه تفيضان بالدمع مغرقتان لم يسمح لهما بذرف الدموع بمحاولته السيطرة على الموقف حتى لا تتساقط في تلك اللحظات.. وأطلق بالكلمات للرد على سؤالي وكانت الكلمات التي أطلقها تكاد تقف عند حنجرته لا تريد أن تخرج إلا انه يدفعها بالقوة للخروج وللرد على سؤالي.. ما أثّر في نفسي وشعوري بألم ومرارة مما رأيته في تلك اللحظات ومن حالة إنسانية مأساوية أمامي. قال: أنا لست راضياً عما أفعله وعن التسول والشحت في الجولات وهذا الذل والحاجة واللجوء إلى هذا وذاك فمنهم من يعطيني ومنهم من يسبني ويشتمني ومنهم من يعاقبني بالقول اذهب ابحث عن عمل أعز لك من الناس الغرباء الذين أتسول واشحتهم .. ماذا اعمل وأنا مستأجر بيت (سكن) وعليّ إيجار شهري وعندي خمسة أطفال ووالدتهم ووالدتي عجوز ومريضة واعولها أيضاً وليس لهم أحداً سواي.. عليّ التزامات أسرية للعيش.. يومياً لا يتوقف الطلب لها بعد أن طفحت باحثاً عن عمل في كثير من الشركات والأماكن ولم أجد وليس لي وساطات تتوسط لي لأحصل على عمل ( وظيفة شريفة تعزني وتعز أسرتي ) ولم أجد أحداً من أقاربي على كثرتهم ليساعدوني لأنهم بسطاء وكلاً منهم على قدر حاله يحصلون على دخل مالي بالكاد يسد رمق أسرتهم في ظل هذا الغلاء الذي يطحن ابن آدم طحناً ويملئه هماً وكرباً... و"يا رحمتاه" عليّ وعليهم وعلى كل واحد يعاني ظروف العيش الصعبة ومرارة وألم الجوع وخاصة هذه الأيام العجاف... وقد فكرت كثيراً وكثيراً قبل أن أبدأ بالتسول والشحت... فتارة كنت أتردد ويمنعني من التسول خوفي من العيب والحياء ومن لوم وعتاب أقاربي... وتارة أخرى خوفي مما قد يتعرض له أولادي من سخرية واستهزاء وتحقير أصدقائهم ومعارفهم لهم بسبب تسول أباهم وتارة أخرى يدفعني إلى عزم اللجوء إلى التسول خوفي على أولادي ومن مستقبل ينتظرهم ولم أجد حلاً أمامي سوى التسول: ماذا أفعل؟ أنا لست راضياً في الاستمرار في هذا التسول ولهذا اختار التسول في الجولات بالشوارع البعيدة عن عنوان سكني وسكن أقاربي ومعارفي مخالفة أن يكتشفني أحد منهم وهذا التسول ارحم لي من أن أرى أولادي يجوعون ويتجرعون مرارة الجوع والحرمان والآلام.
ومع هذا أنا أبحث كل يوم عن عمل وأقرأ الصحف لعلي أجد فرصة عمل يعلن عنها في صحيفة ما هنا أو هناك وتتناسب مع قدراتي وخاصة عند المهانة والضرب الذي يحدث لي عندما تقبض علينا الشرطة لأن عندهم التسول ممنوع يرون هذا من منطلق حضاري ولا يرون أن يجدوا لنا حلاً ومصادر دخل نعيش منها وبدل معالجة هذه المشاكل يزيدون من عدد المتسولين إذ أن أمانة العاصمة وإدارة المرور والبلدية يسعون حثيثاً إلى القبض على الدراجات النارية وأصحابها،
وعلى البائعين المتنقلين بالعربيات، أين ما وجدوا بهدف أن هذه الأعمال غير حضارية، سبحان الله، ما هؤلاء المسؤولين و المتنفذين حقنا ماذا يريدون اللجوء إلى أعمال حضارية كالتسول وزيادة عدد الكفاءات لهذه المهنة أو النصب والسرقة والجارئم فقدان أصحاب هذه المهن البسيطة لمهنهم بالتأكيد ليسوا راضيين عنها هم أنفسهم لأن فيها مشقة وتعب ومكسب قليل وأحياناً خسارة، هذا ما رايته في شاب في الأربعين من عمره أو أقل قليلاً لديه اطلاع وثقافة حوار ومعرفة متواضعة، يتحلى بالأدب أثناء حواره وإطلاق الكلمات التي تدل على أنه مهذب.. وأنه يحمل همومه وهموم آخرين غيره من أصحاب دراجات نارية وعربيات متنقلة.. قست عليه الدنيا وتعرض للحاجة وقساوة الآلام والمعانة.. طيب هذا شاب وغير معاق فما بال حال غيره من قد شاخ" المسننين" والذين أظهرت الإحصائيات لعددهم والتي جمعت في التعداد السكاني لعام 2004م ما فوق عمر"65" سنه أن نسبتهم من مجمل عدد السكان "43.%3" أو معاق ونسبتهم من مجمل عدد السكان"7%" من عمر "5سنوات وما فوق" أو يتيم.. الخ.
وإذ وضحت الإحصائيات لعدد غير النشطين اقتصادياً أي الذين لا يعملون "6574000"" نسمة من عمر"10 سنوات وما فوق" من إجمالي السكان والتي جمعت في التعداد السكاني لعام 2004م وكيف حال من هم أعزاء عزيزو النفوس يخجلون من الخروج إلى الشارع بين الناس للتسول وطلب الصدقات، وكثير من هم في حاجة ومرارة فقر وجوع هذه الأيام وأعزاء نفوس يختبون في بيوتهم ويتجرعون مرارة وآلم، ولا أحد يشعر بهم.
ففي دراسة سوسيوانترويولوجية لظاهرة التسولاً أجريت في أمانة العاصمة وضحت أن عدد المتسولين المباشرين حوالي "4598" متسول ومتسولة وإذ أن الفقر يعرف بأنه: عدم القدرة على إشباع الحاجات الأساسية.
وأن الفقير يعرف بأنه: هو الذي دخله أو إنفاقه لا يكفي لتوفير متطلباته من السلع الغذائية التي تمده بالحد الأدنى من السعرات الحرارية بما يعادل"2200" سعرة حرارية في اليوم دون الأخذ بالاعتبار لعوامل منها الجنس والعمر والمهنة وتسمى كمية الغذاء الضرورية للفرد "بسلة الغذاء" أي السعرات الحرارية.
وحسب تقارير الأمم المتحدة فإن نسبة ممن يعيشون حالة الفقر في اليمن "19%" ونسبة من يعيشون حالة الفقر المطلق"المدفع" في اليمن"14%" فأين أهل الإحسان والبر والتقوى والرحمة والصدقات الجارية من تأسيس وإنشاء مشاريع إنتاجية ذي فائدة لهؤلاء الفقراء لإيجاد فرص عمل لمهم بدلاً من الصدقات العينية والمالية المباشرة والآنية قصيرة الأجل ومحدودة التدفق وليس لها ديمومة، وأيضاً بدلاً من تزايد بناء المدارس والتي عددها في أمانة العاصمة "145"مدرسة حسب إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء والعديد منها لا تستغل إلا بالفترة الصباحية وتكون مغلقة بالفترة المسائية وأيضاً من تزايد عمارة المساجد والمفاخرة بها وبتزيينها والتي اكتفت منها أمانة العاصمة وإذ يقول الله عز وجل" قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره".
فالصلاة تصح في أي بقعة من الأرض على أن تكون طاهرة، وأين الرجال من أهل اليمن سوى بالداخل أو الخارج والذين امتدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أهل اليمن ارق قلوباً وألين أفئدة"، أين هم المقتدرون مالياً من تأسيس وإنشاء مشاريع خيرية إنتاجية تفيد على المستوى الفردي والعام للبلد وتكون صدقة جارية لهم؟؟