شكري عبدالغني الزعيتري
رجل اسمه/ أحمد كان يعيش في قريته التي ولد فيها وحين شب انتقل إلى أحد المدن وعمل فيها فترة من الزمن وكان يوماً يحصل على عمل بالأجر اليومي وآخر يكون عاطل بدون عمل... وفي ذات يوم نصحه أحد أصدقاءه بالسفر إلى صنعاء العاصمة حيث قال له إن فرص العمل فيها أكثر والكسب اليومي أضمن فانتقل إلى أمانة العاصمة وهناك عمل واستطاع جمع مبلغ متواضع من المال، وصادف ذات يوم أن تعرف على شخص اسمه عبدالعزيز وقامت بينهما صداقة حميمة وتزاور ولقاءات شبه يومية عند الفراغ... وفي ذات ليلة وهما يتحدثان طرح عبد العزيز أمام صديقه أحمد مقترحاً ينصحه فيه بالاغتراب خارج اليمن وطرح له إغراءً بأنه سوف يساعده للحصول له على فيزة عمل في بلد عربي (السعودية) وقال له بأنه في هذا البلد العربي يوجد عمل وأجر مضاعف وسيستطيع تكوين نفسه... أخذت هذه الفكرة والمقترح تترسب في ذهن أحمد وعشعشت حتى اصبحت حلماً له يسعى إلى تحقيقه وفي ذات يوم عزم على تحقيق الحلم فذهب إلى صديقه عبدالعزيز وأعطاه ما جمع من مال لإرساله إلى أحد أقرباء عبدالعزيز من المتواجدين المغتربين في السعودية مقابل استخراج الفيزة وتكاليفها وعليه بدأ الصديقان بالترتيبات للحصول على فيزة عمل لدخول أحمد إلى السعودية... وبعد مرور شهرين تم لأحمد ما حلم به وجاءت فيزة العمل وحزم أمتعته وسافر متجهاً إلى السعودية.. وهناك اشتغل في كثير من المهن وخاصة المهن البسيطة وتنقل من مهنة إلى أخرى ومن عمل إلى آخر ومن حال إلى حال.. طيلة خمسة عشر عاماً.. ولأنه لم يكن قد تزوج ولم ينجب الأولاد ولأن أبواه قد توفيا أثناء غربته ولم يحضر لرؤيتهما ولم يراهما منذ سافر إلى السعودية حتى أنه لم يستقبل عزاءهما لأنه لم يعد إلى اليمن حين مرضا وتوفيا وتم تشييع جنازتهما لأن عجلة العمل ولهثه وراء جمع المال أنساه واجبه تجاه والداه.. وبعد مرور الأيام والسنوات ترسب في ذهنه ووجدانه بأن لم يعد له ارتباطات أسرية في اليمن وخاصة بعد وفاة أبوه وأمه.. متناسياً باقي الأهل والأقارب... وبعد مرحلة عمل وإقامة في بلد الغربة استمرت طيلة عشرين عاماً جمع الكثير من المال بالانتقال من صفقة تجارية إلى أخرى وفي كل صفقة ينفذها يخرج منها وقد كسب الكثير من المال وكثرت الصفقات التجارية التي نفذها ولم يعد يقتنع بما جناه من المال بل فتحت شهيته لجمع المال وغرق بالأعمال التجارية لدرجة أنه لم يجد وقتاً للبحث عن عروس له يتزوجها لينجب منها الأطفال ويكون له أسرة ويعيش حياة طبيعية مكتملة الأركان.. وفي ذات يوم فكر حتى وصل إلى فكرة ضرورة أن يكون له مشاريعه وشركة تجارية في بلد الغربة ثابتة العنوان ومعلومة الهوية.. فعزم على تأسيس شركة.. فدخل بشراكة مع شريك له من أبناء السعودية لأن القانون هناك في حينه لم يكن يعطي حق الامتلاك لعقار أو شركة لأجنبي غير سعودي.. وتم تأسيس الشركة وسجلت باسم الشريك السعودي... وبدأ العمل التجاري في شركته ينشط وتفتحت أمامه وشريكه أوسع الأبواب للرزق وكل يوم تتفتح أمامه سبل الكسب الكبير والمثمر وبدأ يشتري العقارات والمحلات والأرضي ولكن كل شيء يسجل باسم شريكه لأنه كان يثق به كثيراً... وبدأ صيت شركته التجاري يكبر في السوق... وأصبح غنياً في بلد الاغتراب وأخذته عجلة العمل والكسب والسفر لدول صناعية ولم يزر بلده اليمن منذ خرج منها... وظهرت عليه ملامح الكبر والغرور... فكان إذا جلس واجتمع مع اليمنيين في السعودية أو في أي بلد خارجي يسافر إليه لتنفيذ صفقات تجارية يبد بإطلاق الكلام الموجع والنقد الجارح بحق اليمنيين وكثيراً ما كان ينتقد سلوكيات وطرق معيشة اليمنيين في اليمن وتعاملهم.. وكأنه هو (نزل في زنبيل من السماء) كما يقال في الأمثال اليمنية.. ووصل به الحال من الكبر والغرور أن ينتقد اليمن أرضاً وشعباً ولم يعد يعجبه من اليمن شيء... وليته كان ينتقد انتقادات بنائة وإنما انتقادات السخرية والتذمر والكبر والغرور.. .. وجاءت حادثة غزو العراق للكويت وحرب الخليج الثانية في التسعينات وبدأت الحكومة السعودية تضيق الحال أمام المغتربين اليمنيين لأسباب سياسية حينها.. واستغل شريك (أحمد) هذا الوضع وبدأ يفتعل المشاكل والمناكفات (لأحمد) لدرجة أنه كان يسلط له آخرين ليتحرشوه ويثيروا له مشاكل وبدأت تظهر الخلافات والمشاجرات بين الشريكين... ورغم أن أحمد حاول إنكار أصله ويمنيته وانتمائه لليمن أرضاً وشعباً... ورغم أنه حاول التسعود وارتداء العقالات والقمصان البيضاء والعباءة الصفراء الشفافة.. ورغم أنه كان يتحدث اللهجة السعودية... إلا أن ذلك لم يجدٍ نفعا.. وكان إذا حدثت الخلافات بينه وبين شريكه كانا يلجأن إلى أصدقاءهما من السعوديين (إذ أن أحمد لم يكن يرغب في إقامة علاقات صداقة مع يمنيين مغتربين بالسعودية)... ولهذا كان يلجأ إلى أصدقاء سعوديين هم في ذات الوقت أصدقاء شريكه.. وفي حالة تصاعد الخلافات بين أحمد وشريكه فكان كل من يلجان إليه لفك كل خلاف وجدل يحدث بين الشريكين يقف الشخص المحكم بجانب ابن وطنه السعودي.. ولان كل الأملاك كانت مسجلة باسم الشريك السعودي.. وحين اشددت الخلافات حتى وصلت إلى طريق مسدود وكل يشك بالآخر بأنه يعمل لمصلحة نفسه فقط.. وصل بشريك (أحمد) إلى إنكار حقوق شريكه (أحمد) وادعى بأن كل الأموال والعقارات والشركة حقه وأن أحمد لا يملك شيئاً سوى أنه موظف لديه فامتلك الشريك كل شيء وأنكر شريكه أحمد من كل شيء... وبعد أن أشددت أزمة الخلاف السياسي بين الحكومتين اليمنية والسعودية بسبب غزو العراق للكويت عام 1990م وعملت الحكومة السعودية على تضييق الخناق أمام العمالة اليمنية المتواجدة بالسعودية وترحيل الكثير منهم إلى بلدهم اليمن.. كان أحمد من حظه التعيس أن يكون ممن رحلوا إذ لم يعد يملك شيئاً حتى إبقاءه في السعودية واسهم شريكه دوراً أساسي وكبير لدفع متنفذين في الجهات الحكومية المختصة بالسعودية على متابعة أحمد والقبض عليه وترحيله إلى اليمن بلده ضمن كل من رحلوا من اليمنيين في تلك الفترة... وطبول الأزمة السياسية بين الحكومتين تشتد وتقرع بأصوات الفتنة ضد مواقف اليمن السياسية تجاه غزو العراق للكويت وأزمة حرب الخليج الثانية.. فعاد أحمد إلى اليمن ولم ينفعه صديق أو جار في السعودية.. وكما أول يوم غادرها مسافر قبل عشرين عاماً عاد إليها لا يملك شيئاً وبدأ يعمل في أمانة العاصمة صنعاء كما بدأ فيها أول يوم لقدومه من مدينته اليمنية قبل خمسة وعشرين عاماً... وشعر مؤخراً بأن اليمن احتضنته فقيراً وأسكنته مشردًا وأشبعته جائعاً.. انتهت قصة أحمد في الدنيا وبدأت قصته في البرزخ والآخرة ففي الشهر الماضي توفي أحمد وغادر الدنيا للقاء ربه بعد معاناة مرض وكبد وألم وحرقة على حقه الذي أخذ منه واغتصب ولم يستطع إرجاعه.. توفي وحيداً لا أباً ولا أماً ولا زوجة ولا أبناء يذكروه ويدعوا له ويقرا له ولروحه الفاتحة عند كل ذكر وذاكرة.. وتذكرت المثل اليمني القائل: "يا ولدي غير بلدك لا لك ولا لولدك.." فأقول لكل يمني مغترب يذهب لاستثمار أمواله في بلدان أخرى خارج اليمن ولا يستثمرها في بلده اليمن أنت الخاسر أولاً وأخيراً أما اليمن فلا وألف لا... وقد يأتي يوم تتعرض لما تعرض له أحمد بطريقة أو بأخرى وليس شرطاً أن تمر بنفس مشكلة أحمد "فالأسباب متعددة والموت واحد...".